عندما أبحرت سفينة الشحن «إم في بافاريا» من أحد موانئ الفلبين صباح الثلاثين من شهر مايو (أيار) الماضي وعلى متنها 69 حاوية من القمامة الكندية التي أصابها العفن، لم تضع حداً لخلاف دبلوماسي معقد بين الدولتين، فحسب، بل كانت بمثابة مؤشر على حدوث تغيير جوهري في نظام عالمي لعمليات إعادة تدوير المخلفات.
ووافقت كندا بعد ضغوط استمرت سنوات على استعادة النفايات، بعدما صدرتها إلى الفلبين بداية من عام 2013، وهي تحمل تصنيفاً زائفاً يصفها بأنها «مخلفات بلاستيكية».
وهذه الشحنات كانت جزءاً من عملية استمرت على مدار عقود، اعتادت من خلالها دول غنية، بينها الولايات المتحدة، أن تبعث بمواد بلاستيكية مستخدمة إلى آسيا لتخضع لعمليات إعادة تدوير. وعادة ما كانت هذه الشحنات تحتوي على مخلفات ملوثة لا يمكن إعادة تدويرها، ولكنها كانت تخضع للتفتيش الجمركي على أي حال، ولم تكن الدول الآسيوية تملك سبلاً قانونية لإعادتها من حيث أتت.
وأوضحت وكالة الأنباء الألمانية أن هذه الممارسة بدأت تتغير خلال الـ18 شهراً الماضية، عندما حظرت الصين - وهي أكبر مستهلك لنفايات البلاستيك - جميع واردات المخلفات من أجل وقف تهريب مواد لا يمكن إعادة تدويرها. ولكن تجارة المواد البلاستيكية المستخدمة سرعان ما عرفت طريقها إلى دول جنوب شرقي آسيا التي تفتقر إلى وجود منشآت لإعادة التدوير، وقوانين للتخلص منها، وهو ما أدى إلى أن تذهب هذه المواد إلى محارق أو أن تُلقى في المجاري المائية، لتخلق مخاطر صحية وبيئية جسيمة.
وجاء اليوم الذي أوصدت فيه هذه البلدان أبوابها في وجه مخلفات الأغنياء.
وفي خضم تحرك عالمي ضد نفايات البلاستيك غير القابلة لإعادة التدوير، أعلنت فيتنام وتايلاند عدم استقبال أي من هذه المخلفات خلال السنوات المقبلة. وقالت تايلاند إنها ستقبل فقط مخلفات البلاستيك بعد فرزها ووضعها في تصنيف واحد، مما يسهل إعادة تدويرها.
وتبحث الفلبين وماليزيا إصدار حظر صريح في هذا الشأن، وقادت الدولتان سبيل المطالبة بأن تقبل الدول المصدرة للنفايات عودة المخلفات التي دخلت البلدين عبر طريق غير قانونية، وعادة من خلال وثائق مزيفة.
وقالت إندونيسيا الأسبوع الماضي إنها أرسلت خمس حاويات من المخلفات الورقية من كندا إلى مدينة سياتل الأميركية، والتي كانت نقطة إعادة الشحن، بعدما اكتشفت جاكرتا أن الشحنة اكتظت بمخلفات بلاستيكية وخشبية وحفاظات أطفال وأحذية قديمة.
وقالت، ليا جويريرو، وهي ناشطة فلبينية من جماعة «غرين بيس» (السلام الأخضر) المعنية بالحفاظ على البيئة «تقاوم الدول في هذه المنطقة بشدة فكرة أنها مكب لنفايات العالم».
وتردد الصرخة الحالية في وجه مخلفات البلاستيك صدى ما جرى قبل ثلاثة عقود، عندما قامت الولايات المتحدة بشكل روتيني بشحن بطاريات سيارات منتهية الصلاحية، وخرسانة مخلوطة بالزئبق، ومواد سامة أخرى إلى شواطئ جنوب شرقي آسيا التي تعاني من نقص الرقابة.
ووضعت «اتفاقية بازل بشأن التحكم في نقل النفايات الخطرة والتخلص منها» لعام 1989. قيوداً رئيسية على شحن المخلفات الخطرة إلى الدول الفقيرة.
ولكنها، رغم ذلك، تضمنت ثغرة بشأن المواد المخصصة لإعادة التدوير، وخاصة البلاستيك. فالولايات المتحدة، وهي واحدة من دول قليلة لم توقع على الاتفاقية، تستطيع تصدير مخلفات خطرة، ولكن فقط عبر اتفاقيات ثنائية، إحداها مع الفلبين.
وفي اجتماع عقد في مدينة جنيف السويسرية في مايو (أيار) الماضي، اتفق ممثلو 180 دولة على توسيع نطاق الاتفاقية لتغطي معظم مخلفات البلاستيك، وإخضاعها لنفس القيود التجارية التي تخضع لها المواد السامة.
وتمثل هذه الخطوة إقراراً، جاء متأخراً، بحقيقة أنه رغم التسويق للبلاستيك منذ زمن طويل على أنه مادة يمكن إعادة استخدامها، لا يمكن إعادة تدوير معظم المواد البلاستيكية، لأنها مصبوغة أو لأنها تحتوي على بقايا طعام أو سوائل، أو لأنها مخلوطة بمخلفات غير قابلة للتدوير.
وقال ريتشارد جوتيريز، مؤسس جماعة «بان توكسيكس» (احذروا المواد السامة)، في الفلبين: «منذ التطور الذي طرأ على اتفاقية بازل، اتجهت الأبصار دائماً إلى الحديث عن البلاستيك، ولكن التحدي الأكبر كان الإرادة السياسية للدول».
وعندما كانت الصين تشتري أكثر من 50 في المائة من مخلفات العالم من البلاستيك - وقد استوردت 4.6 مليون طن في عام 2017. قبل تطبيق الحظر - لم تكن الدول الصناعية لتهتم يوماً بأين ينتهي المطاف بزجاجات الصودا الفارغة أو أكياس البلاستيك التي توضع فيها مواد البقالة، أو أوعية الروب (الزبادي) أو أي من أنواع المخلفات الأخرى.
وفي الوقت الذي ارتفع فيه استهلاك العالم من البلاستيك إلى 400 مليون طن سنوياً، ويتوقع له أن يتضاعف خلال 15 عاماً، لم يكن أحد ليباري منشآت إعادة التدوير المحلية في الصين والتي اتسمت بكفاءة نسبية، أو حتى القاعدة الصناعية الضخمة في البلاد والتي حولت مخلفات البلاستيك إلى منتجات جديدة.
وقال جوتيريز: «لقد غير الحظر الصيني المشهد تماماً... بمجرد أن توقف (الصينيون) عن استقبال كل هذا البلاستيك، بدأ الناس يدركون أننا نواجه مشكلة كبيرة».
ووفقاً للتعديل الذي أُدخِلَ على اتفاقية بازل، والمقرر تطبيقه بداية من شهر يناير (كانون الثاني) عام 2021. سيتعين على من يقومون بشحن مخلفات البلاستيك الحصول أولاً على موافقة الدولة التي تمثل المقصد النهائي للشحنة. كما يمنح التعديل الدول السلطة القانونية لرفض المخلفات غير المرغوب فيها أو التي لا يمكن إعادة تدويرها.
وأظهرت قضية النفايات بين الفلبين وكندا، أن الدول لا تجد سبيلاً كافياً، في ظل قواعد التجارة القائمة، لتعيد شحنات البلاستيك التي تأتيها عبر قنوات غير شرعية.
وقال المستوردون في الفلبين إن ما يقرب من مائة حاوية وصلت إلى البلاد منذ البداية في يونيو (حزيران) عام 2013. والمفترض أنها كانت تحتوي على مخلفات بلاستيك من أجل إعادة تدويرها، ولكن عمليات التفتيش التي نفذتها سلطات الجمارك كشفت أن الحاويات اكتظت بمخلفات منزلية، تشمل زجاجات وأكياساً بلاستيكية وجرائد وقمامة وحفاظات بالغين مستخدمة.
وتصنف القوانين المحلية هذه المواد على أنها خطرة، وطلبت الحكومة الفلبينية من كندا استعادة هذه الشحنات. وعلى مدار سنوات، تمسك رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو بأنه لا يحق لحكومته التدخل، فالأمر يتعلق بمعاملات تجارية خاصة بين شركات كندية وفلبينية.
وظلت الحاويات في موانئ الفلبين، وتسربت منها سوائل وتعفنت بسبب الحرارة الاستوائية المرتفعة. واعتصم ناشطو «غرين بيس» و«بان توكسيكس» وجماعات أخرى معنية بالبيئة أمام السفارة الكندية في العاصمة الفلبينية مانيلا، فيما دعا مسؤولون إلى التخلي عن النزاع من أجل الحفاظ على العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
وكانت الفلبين قامت في عام 2015 بإلقاء مخلفات أكثر من عشرين حاوية في مكب للقمامة شمالي مانيلا، مدفوعة باحتجاجات قوية نظمها ناشطون.
وقالت جويريرو من «غرين بيس»: «لقد فسر ما حدث التباين بين الدول الغنية والفقيرة، وكيف أن الدول الفقيرة تشعر فعلياً بالعجز عندما ترفض الدول الغنية استعادة نفاياتها».
وفي أبريل (نيسان) الماضي، هدد الرئيس الفلبيني رودريغو دوتيرتي، المعروف بلهجته الصارمة، بـ«إعلان الحرب» على خلفية هذه المسألة، واستدعي سفير الفلبين في أوتاوا، كما أعلن حظراً على سفر مسؤولي بلاده إلى كندا، وحدد الخامس عشر من مايو موعداً نهائياً لإعادة الحاويات.
وأتى تحرك دوتيرتي الهجومي ثماره، فقام رئيس وزراء كندا بالاتفاق مع شركة شحن لاستعادة 69 حاوية من الفلبين. كما قام وزير خارجية الفلبين، تيودور لوكسين، بنشر صورة للسفينة على موقع «تويتر» للتواصل الاجتماعي مصحوبة برسالة» «باااااا باي». وقال مسؤولون كنديون إن نحو 1500 طن من النفايات داخل الحاويات، سيتم حرقها في منشأة لتوليد الطاقة من القمامة بمقاطعة «بريتيش كولومبيا»، في أقصى غرب كندا.
ويعتقد الناشطون في الفلبين أن المزيد من شحنات النفايات غير القانونية قد تمكنت من دخول الأرخبيل الشاسع الذي يضم أكثر من سبعة آلاف جزيرة وعشرات الموانئ.
وخلال الأشهر الأخيرة، اعترضت سلطات الجمارك في الفلبين شحنات مخلفات قادمة من أستراليا وهونغ كونغ وكوريا الجنوبية، مصنفة زيفاً على أنها مواد قابلة لإعادة التدوير. وفي شهر يناير الماضي، دفعت كوريا الجنوبية تكاليف إعادة أول دفعة من شحنة من ستة آلاف طن من المخلفات المنزلية شملت بطاريات ومصابيح كهربية وحفاظات، من الفلبين.
وقال بيو باكونجويس، وهو ناشط فلبيني في «غلوبال آليانس فور إنسينيراتور الترناتيفز» (التحالف العالمي لبدائل محارق النفايات)، وهي جماعة غير ربحية معنية بالدفاع عن البيئة: «نعتقد أن هذا هو قمة جبل الجليد فحسب».
وأضاف: «في ظل وجود هذا العدد الكبير من الجزر، يكاد يكون من المستحيل مراقبة كل ميناء كما يجب. جرى الكشف عن هذه الفضائح عبر عمليات تفتيش عشوائية. لا أعتقد أن لدينا من الأفراد المدربين ما يكفي لتحديد إذا كان شيء ما مادة قابلة لإعادة التدوير أم مجرد قمامة».
وتمارس الجماعات المعنية بالبيئة ضغوطاً على حكومة الرئيس دوتيرتي التي تدعم تعديل اتفاقية بازل، من أجل المصادقة على التغيير لضمان تطبيقه في الفلبين. وثمة تقارير أن المسؤولين في البلاد يبحثون فرض حظر كامل على جميع واردات النفايات، وهو ما من شأنه أن يغلق أحد أهم منافذ التخلص من مخلفات البلاستيك أمام الولايات المتحدة.
وفي ماليزيا، التي صارت العام الماضي أهم مقصد في العالم للتخلص من المخلفات البلاستيكية، أغلق المسؤولون 150 من الشركات التي تعمل من دون ترخيص في مجال استيراد النفايات. كما أعلنت الحكومة في شهر مايو الماضي أنها ستعيد نحو ثلاثة آلاف طن من مخلفات البلاستيك الملوثة إلى دول تشمل الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وأستراليا، رغم أنه لم يتم الإفصاح عن تفاصيل مثل هذه الشحنات، ومن سيدفع تكاليف إعادتها.
وقامت وزيرة البيئة في ماليزيا، ييو بيي يين، مؤخراً بتفتيش إحدى الحاويات القادمة من أستراليا، وعثرت فيها على زجاجات ألبان قديمة صارت تعج بالديدان.
وقالت الوزيرة في مقابلة: «هذه قمامة يدرك المرء أنها غير قابلة لإعادة التدوير، ويتملكني الغضب لأن بلادنا لا تستطيع التعامل مع ذلك».
ودعت ييو إلى فرض حظر تام على استيراد جميع المخلفات، ولكنها تواجه معارضة من قبل الحكومة التي تريد أن تدعم صناعة إعادة التدوير صغيرة الحجم في البلاد، والتي تشهد نمواً. وتقول الوزيرة إنه يتعين على دول المنطقة أن تبعث برسالة إلى الدول الصناعية مفادها أنه يتعين التخلص من النفايات في بلادها الأصلية.
وقالت الوزيرة: «عندما اكتشفنا مشكلة النفايات في البلاد، تحدثنا عنها كمعضلة عالمية، وأدركنا أنه يجب علينا أن نكون صوتاً للدول النامية. إن لم يتخلصوا منها في بلدنا، سيفعلون في مكان آخر... يجب إيقاف ذلك».
آسيا تغلق أبوابها أمام النفايات البلاستيكية غير القابلة للتدوير
بعدما حظرت الصين جميع الواردات القادمة من الدول الغنية
آسيا تغلق أبوابها أمام النفايات البلاستيكية غير القابلة للتدوير
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة