للمرة الأولى منذ وصول الرئيس فلاديمير بوتين إلى الحكم في روسيا عام 2000، لا يكون الشغل الشاغل لوسائل الإعلام الروسية تقويم أدائه بعد مرور 100 يوم على تسلمه منصبه عقب استحقاق انتخابي جديد، بل باتت الأوساط الإعلامية والبرلمانية و«جيش» الخبراء الذي يملأ الشاشات يومياً في برامج الـ«توك شو» تناقش مختلف القضايا الخارجية، من سوريا إلى «العدوان الأميركي المتجدد والمتواصل» على روسيا، إلى إيران وملفها النووي، وكوريا الشمالية، و«خبث» السياسة البريطانية التي «سخّرت استخباراتها ضد روسيا». كل شيء قابل للنقاش، إلا الوضع الداخلي والتحديات الاقتصادية والمعيشية المتزايدة، وتصاعد نبرة الانتقادات في الشارع، وحال التذمر التي بدأت تنتشر في أوساط كانت حتى الأمس القريب محسوبة على جمهور المؤيدين لسياسات الرئيس بوتين.
وحده ملف إصلاح النظام التقاعدي في روسيا فجّر مرة واحدة كل الانتقادات للسياسة الداخلية للكرملين، وأدى إلى اندلاع موجة احتجاجات واعتصامات في أنحاء مختلفة من البلاد، تميّزت هذه المرة بأنها لم تكن من تنظيم المعارضة المتهمة بالولاء للغرب. وفشلت مساعي السلطة في محاصرة تداعياتها، حتى عبر قرارات إدارية صارمة بمنع مناقشة المسألة في وسائل الإعلام، وتقييد التحركات الاحتجاجية، لدرجة أن محكمة في موسكو أمرت بحبس المعارض أليكسي نافالني لمدة شهر «احتياطياً» في خطوة استباقية لمحاولته تنظيم احتجاجات واسعة النطاق.
الأسوأ من ذلك بالنسبة إلى الكرملين أن استطلاعات أجرتها مراكز مرموقة، بينها مركز «ليفادا»، أظهرت تراجعاً في شعبية الرئيس بوتين بنسبة غير مألوفة بالنسبة إلى سيد الكرملين الذي فاخر أنصاره خلال السنوات الأخيرة بأن نسب تأييده حافظت على معدلات يحلم بها قادة الغرب عادة. ومن نحو 77 في المائة، وهي النسبة التي حصل عليها بوتين في الانتخابات الأخيرة، تراجعت نسب التأييد مرة واحدة بنسبة 30 في المائة، في نتيجة ذكرت بأسوأ مراحل تأييد بوتين في عام 2013، عندما أسفرت حملة الاحتجاجات الواسعة التي نظمت على خلفية الاتهامات بتزوير الانتخابات عن تراجع معدلات تأييد بوتين إلى نحو 40 في المائة، قبل أن تعاود الارتفاع الصاروخي في العام التالي، على خلفية قرار ضم القرم إلى روسيا الذي دغدغ المشاعر القومية عند الروس، ودفع إلى إعلاء شعار «الانتصارات الخارجية واستعادة أمجاد روسيا العظمى يعوضان عن الحرمان وسياسة شد الأحزمة في الداخل».
بوتين 2018... قرارات موجعة
لا شك أن تراجع شعبية الرئيس الروسي بهذه الطريقة مرتبط برزمة من القرارات الداخلية التي اتُّخذت لترشيد الإنفاق، وتكييف روسيا مع الظروف الجديدة وهي تواجه عقوبات أميركية وغربية يتوقع أن تستمر لفترة طويلة جداً. وعلى الرغم من عبارات «المواجهة مع الغرب» و«محاولات تركيع روسيا»، بين شعارات وعبارات ترددت كثيراً لتحفيز المزاج الوطني على مواصلة شد الأحزمة، وتقبل القرارات الصعبة داخلياً، باعتبار أن روسيا تخوض مواجهة كبرى خارجياً، فإن هذا المدخل لم يعد يعمل كثيراً في ظروف وصلت فيها العقوبات الغربية إلى المؤسسات والشخصيات المقربة من الكرملين، وباتت تهدد القطاعات التي تعد «الخط الأخير» لصمود روسيا أمام الضغوط الخارجية، وبينها قطاعات النفط والغاز والمعادن، وأخيراً القطاع المصرفي برمّته.
والأسوأ من ذلك أن تداعيات العقوبات وقرارات الرد الروسية أثّرت مباشرة على حياة المواطنين، من خلال ارتفاع الأسعار الحاد، ومن خلال قرارات بوتين الصعبة لمواجهة تراجع النمو الاقتصادي، ومحاولته الحصول على مصادر تمويل داخلية، تعتمد بالدرجة الأولى على جيوب المواطنين، لمواجهة توقعات الحكومة بأن الجمود الاقتصادي سيدوم لفترة طويلة جداً.
وبين القرارات الصعبة الارتفاع الكبير للأسعار في كل المجالات، وبينها الارتفاع الحاد في أسعار البنزين، وقرار رفع ضريبة الدخل، ثم تمرير مشروع إصلاح النظام التقاعدي، بشكل يرفع سن التقاعد للرجال من 60 إلى 65 سنة، وللنساء من 55 إلى 63 سنة. هذا القانون الذي مرره مجلس الدوما من القراءة الأولى، فجّر الغضب في الشارع، لأنه يؤثر مباشرة على حياة عشرات الملايين من الروس، علماً بأن كل السلطات التي مرت في روسيا منذ العهد السوفياتي حافظت على النظام التقاعدي مستقراً، ولم تنجح في إدخال تعديلات عليه، حتى في أسوأ ظروف الفوضى في تسعينات القرن الماضي، لم يتمكن الرئيس السابق بوريس يلتسن من طرح هذا الموضوع لإقراره في البرلمان، ما يعكس درجة الصعوبة التي واجهت بوتين وهو يتخذ هذا القرار، بناء على توصية من الحكومة لمواجهة التحديات الراهنة.
واضطر بوتين بعد مرور أربعة شهور على السجالات الواسعة في الشارع حول مشروع القانون أن يتدخل بشكل شخصي ومباشر، عبر توجيه رسالة تلفزيونية نادرة إلى الشعب الروسي، أوضح فيها دوافع وظروف اتخاذ القرار برفع سن التقاعد. ولا يظهر بوتين في رسائل تلفزيونية مباشرة إلا في حالة تطورات خطرة. وبعد أن قدم عرضاً تاريخياً، وتحدث عن الأزمة الديموغرافية الحادة التي تعيشها روسيا، قال لمواطنيه إنه شخصياً كان ضد إدخال أي تعديلات على النظام التقاعدي، لكن هذا الإجراء لا بد منه.
وحاول بوتين امتصاص الغضب بظهوره المباشر في خطاب عاطفي للمواطنين، كما أنه لعب على مزاج نصف المجتمع، عبر تخفيف الإجراءات الجديدة قليلاً عن النساء، فأدخل تعديلاً يقضي برفع سن النساء إلى 60 سنة فقط بدلاً من 63 سنة.
هكذا، ظهر أن بوتين «حافظ على توازن القانون الجديد»، وفقاً لتعليق وزير المال السابق أليكسي كودرين، وأكد محافظته على النهج الذي وضعه القطاع الاقتصادي في الحكومة لمواجهة الصعوبات الحالية، على الرغم من أن القرار موجع للغالبية الساحقة من الشعب.
ظهور بوتين في الخطاب المتلفز هدف أيضاً إلى استعادة بعض ما فقده من شعبية، فهو «القيصر المنقذ»، وفقاً لوصف بعض المواقع المعارضة، الذي يخفف من وقع تصرفات الحكومة التي ظهرت بمظهر «الشرطي الذي يرفع الهراوة، فيأتي بوتين ليخفف من وقعها قليلاً على الناس».
والعنصر الثاني المهم أن روسيا مقبلة على انتخابات مجالس محلية وحكام الأقاليم الشهر المقبل، وثمة خطر من أن يفقد الكرملين عدداً من الشخصيات المقربة إليه في الأقاليم، ما يمكن أن يزيد من صعوبة الوضع الداخلي.
ترتيبات للخلافة
وفي هذا الإطار، حرص بوتين خلال الشهور التي أعقبت انتخابه في ولايته الرابعة والأخيرة على اتخاذ عدد من القرارات التي نظر إليها باعتبارها تدخلاً في إطار محاربة الفساد، من خلال إجراء مناقلات وتعديلات وحركة إقالات واسعة، طالت صفوف وزارات الدفاع والداخلية والطوارئ، وجهاز التحقيق المركزي وأجهزة سيادية أخرى في البلاد، وأطاحت برؤوس جنرالات. وفسّرت إقالة بعضهم بارتباطهم بملفات فساد، بينما شغل آخرون مواقع أخرى في وزارات وأجهزة مختلفة.
ويقول معارضون إن التحركات الواسعة لبوتين تضرب عصفورين بحجر واحد؛ فهي تهدف إلى إطاحة بعض الفاسدين الذي غدوا عبئًا على السلطة في الظروف الجديدة، لكنها في الوقت نفسه تشكل وسيلة أساسية لإعادة ترتيب البيت الداخلي، في إطار جهود بوتين الذي يدرك أن هذه ولايته الأخيرة في الكرملين لإيجاد خليفة قادر على إدارة التوازنات الصعبة بين مراكز الثقل الأساسي، والتكتلات القوية في البلاد، بكل مستوياتها العسكرية والأمنية والاقتصادية. ويتوقع بعضهم أن يكون العام الثاني لولاية بوتين حاسماً لجهة البدء بإبراز شخصية أو أكثر تكون مرشحة لشغل الموقع الرئاسي في وقت لاحق.
ويواجه بوتين تعقيدات أساسية على هذه الطريق، بينها تصاعد مزاج الاحتجاجات بشكل قوي، لذلك لجأت السلطات التنفيذية والتشريعية لمواجهة ذلك بسلسلة من القوانين والتعديلات التي وضعت قيوداً صارمة على الحركات الاحتجاجية، وقيدت نشاط وسائط التواصل الاجتماعي بشكل صارم، لكن الاستحقاق الأهم كما يبدو هو مدى قدرة الرئيس وفريقه على تحمل أعباء انفضاض محتمل لبعض حيتان المال، الذين استفادوا خلال السنوات الأخيرة بقربهم من الكرملين، وراكموا ثروات خرافية، لكنهم باتوا يواجهون حالياً بسبب سياسات الكرملين الخارجية ضغوطاً كبرى على أعمالهم وملاحقات في الغرب.
ويكفي كمثال أن المليادرير المقرب من بوتين أوليغ ديريباسكا، المعروف بـ«إمبراطور الألمنيوم»، خسر نصف ثروته مرة واحدة بسبب قرار العقوبات الأخير الذي فرضته وزارة الخزانة الأميركية، على خلفية حادثة تسميم العميل المزدوج في بريطانيا. وتبلغ ثروة الرجل حاليا نحو 4 مليارات دولار، ويتساءل بعضهم إلى أي درجة سيتحمل رجال مثله أعباء «اقترابه من سياسات الكرملين». الأمر ذاته ينسحب على ملياردير مثل رومان إبراموفيتش، صاحب فريق تشيلسي الشهير، الذي يفكر حالياً ببيع أصوله في النادي البريطاني، بعدما زادت الضغوط الغربية عليه. وأوردت لائحة عقوبات أميركية أسماء نحو 300 من رجال المال والأعمال المقربين من الكرملين، مما يعني أن هذا السيناريو أخذ في التصاعد، ويضع تحدياً جدياً أمام الكرملين الذي لم تعد مخاوفه تقتصر على ضبط مزاج الشارع الروسي في مرحلة مصيرية بالنسبة إلى البلاد.