سنوات السينما

فريد شوقي ونبيلة عبيد في «الشيطان يعظ»
فريد شوقي ونبيلة عبيد في «الشيطان يعظ»
TT

سنوات السينما

فريد شوقي ونبيلة عبيد في «الشيطان يعظ»
فريد شوقي ونبيلة عبيد في «الشيطان يعظ»

- الشيطان يعظ (1981)
- العودة الحميدة إلى قصص أحياء مصر الشعبية
عرفت السينما المصرية في سبعينات وثمانينات القرن الماضي ارتفاع معدل الأفلام التي تتناول الصراع على السُلطة في الأحياء الشعبية. بعض هذه الأفلام كانت استيحاء من روايات نجيب محفوظ، وبعضها الآخر كانت حياكة على الهامش. بعضها كان، بالتالي، كناية عن دراسة في السلوك الفردي والواقع الاجتماعي لأحياء القاهرة الشعبية، وبعضها الآخر كان مجرد استنساخ يُـراد من ورائه استخدام النوع الماثل لترفيه من العنف والقتل وأفعال من الغرام والانتقام.
«الشيطان يعظ» هو من الأفلام الأفضل. مقتبس عن إحدى أعمال الكاتب الراحل محفوظ، ومتمتع بدراية المخرج أشرف فهمي في تحقيق أفلام جيدة حتى حين يستند إلى حكاية شعبية يمكن اعتبارها مألوفة في هذا النطاق.
إنها عشرينات القرن الماضي والمكوجي شطا (نور الشريف) شغوف بحياة المعلمين والفتوات، ويود التودد إلى المعلم الديناري (فريد شوقي) الذي يطلب منه مراقبة الفتاة الشابة وداد (نبيلة عبيد) التي يود الديناري الزواج منها. لكن شطا يقع في حب وداد وتبادله هي الحب فيتزوجان يلجآن إلى معلم منافس هو الشبلي (عادل أدهم) التي تحلو وداد في عينيه فيغتصبها أمام زوجها. يدفع الشعور بالعار بشطا للعودة إلى الديناري الذي يظهر تعاطفاً مع المكوجي. ذات يوم يغزو الشبلي حارة الديناري برجاله، وتنشب بين المعلمين ورجالهما الأشداء معركة عنيفة. يدخل فيها المكوجي باحثاً عن الذي انتهك عرضه ويلقاه. يصارعه حتى يقتله. يخرج إلى الرجال معلناً أنه قد قتل المعلم وثأر لنفسه وعرضه، لكن أحد رجال المعلم يفاجئه من الخلف ويقتله. في الوقت ذاته تكون زوجته قد وضعت مولودها. يعرض الديناري أن يربيه، لكن الأم ترفض ذلك العرض، فهي تريد أن تنتقل به إلى أرض آمنة طامحة إلى مستقبل أفضل.
العناصر الجوهرية التي يرتكز عليها «الشيطان يعظ» هي قصة صراع بين حارات وموت شاب فتنه ذلك العالم وأراد الالتحاق به لما يمثله من القوة والسلطان. وسيناريو أحمد صالح يوفر نظرة على عالم من القسوة والعنف يظلل الحياة العادية في كنف تلك الأحياء في ذلك الزمان، مع الإيحاء بأنه استمر لما بعد ذلك، كما مجموعة من التقاليد المرمية على عاتق الناس الذين هم في النهاية يتحملون تبعية التخلف الاجتماعي الواسع الذي يعيشونه.
الواقعية، كما مارسها كامل التلمساني في «السوق السوداء» (1945) وصلاح أبو سيف في «الأسطى حسن» (1952) و«الفتوة» (1975) وأفلامه الأخرى، موجودة هنا بصورتها التقليدية: الحارة المصرية الضيقة المليئة بالوجوه الشعبية وما ينتشر على جوانبها من دكاكين ومقاهٍ وبيوت متلاصقة وحوارٍ متفرعة. هرم الفتوات المتمثل أولاً في المعلم القاسي والمتسلط ثم مساعديه وممثليه، ورجال هؤلاء الأشداء، وانتهاءً بمن يقع عليه تأثير هذه التركيبة من الناس البسطاء. وهناك الأدوات التقليدية في تلك الأجواء: التدخين، العصي، السكاكين، فناجين القهوة، عربات الحنطور والجلابيات الواسعة والعمائم الكبيرة التي فوقها. ثم نتلقف ما هو ضروري ومتوقع، وهي المعارك التي تدور بين فريق وآخر.
لم يكن أشرف فهمي‫ وحده بطل هذه العودة، فقبله بثلاث سنوات أنجز المخرج هشام أبو النصر فيلمه الجيد «الأقمر» الذي كتبه فايز غالي عن قصة لإسماعيل ولي الدين.‬ ومثلها جميعاً نجد «الشيطان يعظ» مليئاً بالرموز والبحث عن مستقبل أفضل لمصر.


مقالات ذات صلة

«سنووايت» يستهل عروضه التجارية ويعوّل على حبكته الإنسانية

يوميات الشرق مريم شريف ونهال المهدي شقيقتها بالفيلم (الشركة المنتجة)

«سنووايت» يستهل عروضه التجارية ويعوّل على حبكته الإنسانية

تنطلق، الأربعاء، العروض التجارية للفيلم المصري «سنووايت» الذي شهد عرضه العالمي الأول في الدورة الرابعة بمهرجان البحر الأحمر السينمائي.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق الفنان شكري سرحان قدم أدواراً مهمة في السينما المصرية (أرشيفية)

تصاعد الجدل حول انتقاد رموز الفن المصري بعد أزمة «شكري سرحان»

تصاعد الجدل خلال الأيام القليلة الماضية حول أزمة انتقاد رموز الفن المصري على خلفية انتقاد موهبة الفنان الراحل شكري سرحان بعد مرور 27 عاماً على رحيله.

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق لقطة من الفيلم صوّرته الحاج في أثناء «ثورة أكتوبر» (ميريام الحاج)

«متل قصص الحب»... رحلة سينمائية استغرقت 7 سنوات

بعد فيلمها الوثائقي الأول «هدنة» تقدّم اليوم المخرجة ميريام الحاج ثاني أعمالها السينمائية الطويلة «متل قصص الحب».

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق لوحات المعرض يستعيد بها الفنان رضا خليل ذكريات صباه (الشرق الأوسط)

«سينما ترسو»... يستعيد ملامح أفلام المُهمشين والبسطاء

معرض «سينما ترسو» يتضمن أفكاراً عدّة مستوحاة من سينما المهمشين والبسطاء تستدعي الذكريات والبهجة

محمد عجم (القاهرة )
يوميات الشرق من أفلام شاشات الواقع «النهار هو الليل» لغسان سلهب (المكتب الإعلامي للمهرجان)

مهرجان «شاشات الواقع» في دورته الـ19 بانوراما سينما منوعة

نحو 35 فيلماً وثائقياً طويلاً وشرائط سينمائية قصيرة، يتألف منها برنامج عروض المهرجان الذي يتميز هذه السنة بحضور كثيف لصنّاع السينما اللبنانيين.

فيفيان حداد (بيروت)

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

المخرج إيستوود مع نيكولاس هاولت (وورنر)
المخرج إيستوود مع نيكولاس هاولت (وورنر)
TT

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

المخرج إيستوود مع نيكولاس هاولت (وورنر)
المخرج إيستوود مع نيكولاس هاولت (وورنر)

ماذا تفعل لو أنك اكتشفت أن الشخص المتهم بجريمة قتل بريء، لكنك لا تستطيع إنقاذه لأنك أنت من ارتكبها؟ لو اعترفت لبرّأت المتهم لكنك ستحلّ مكانه في السجن لثلاثين سنة مقبلة.

بالنسبة لجوستن (نيكولاس هاولت) في جديد كلينت إيستوود «محلّف رقم 2» (Juror ‪#‬2) هناك طريقة ثانية. بوصفه محلّفاً في القضية المرفوعة في المحكمة سيحاول بعثرة قناعات المحلّفين الآخرين من أن المتهم هو مذنب بالفعل، وذلك عن طريق طرح نظريات (وليس براهين) لإثارة الرّيب في قناعات الآخرين. ليس أن قناعات الآخرين ليست مدفوعة بقصر نظر أو أنانيات أو الرغبة في الانتهاء من المداولات والعودة إلى ممارسة نشاطات أخرى، لكن المحور هو أن جوستن واثق من أن جيمس (غبريال باسو) لم يقتل المرأة التي تشاجر معها والمتهم بقتلها. جيمس لا يملك الدليل، لقد شُوهد وهو يعنّفها في تلك الليلة الماطرة واعترف بأنه وصديقته كثيراً ما تشاجرا، لكنه أكد أنه لم يلحق بها في تلك الليلة المعتمدة ويدهسها. من فعل ذلك، ومن دون أن يدري، هو جيمس وهو في طريق عودته إلى البيت حيث تنتظره زوجته الحامل.

ليوناردو دي كابريو في «ج. إدغار» (وورنر)

بدوره، لم يُدرك في ذلك الظلام وفي تلك الليلة الممطرة فوق ذلك الطريق خارج المدينة ما صدم. ظن أنه غزالاً عابراً. نزل من السيارة ونظر حوله ولم يجد شيئاً ركب سيارته وانطلق مجدداً.

لكنه الآن يُدرك أنه صدم تلك المرأة التي يُحاكم صديقها على جريمة لم يرتكبها. لذا يسعى لإصدار قرار محلّفين ببراءته.

محاكمات مفتوحة

يؤسّس إيستوود (94 سنة) في فيلمه الجديد (وربما الأخير) لما سبق، ثم يُمعن في إضافة تعقيدات على الحبكة تتناول موقف جوستن المصيري، موقف باقي المحلّفين حياله ثم موقف المدعية العامّة فايث (توني كوليت) التي لا يُخالجها أي شك في أن جيمس هو القاتل. في بالها أيضاً أن فوزها في هذه القضية سيساعدها على الارتقاء إلى منصب أعلى.

إنه فيلم محاكمات وليس فيلم محاكمة واحدة. كعادته يُلقي إيستوود نظرة فاحصة وناقدة على كل ما يرد في أفلامه. على بطله الذي تشبّع بالقتل خلال الحرب العراقية في «قنّاص أميركي» (American Sniper)، ومن خلاله حاكم الحرب ومسؤولية من أرسله إلى هناك.

«محلّف رقم 2» خلال المداولات (وورنر)

في «بيرد» (Bird) قدّم سيرة حياة عازف الجاز تشارلي بيرد بايكر الذي سقط مدمناً على المخدّرات، ومن خلاله الطقوس التي تُحيط بأجوائه والمسؤولة عن مصيره.

نراه في «ج. إدغار» (J‪.‬ Edgar) يعرض لحياة ج. إدغار هوڤر، واحد من أقوى الشخصيات السياسية في الولايات المتحدة خلال القرن العشرين، لكنه يمضي ليحاكمه باحثاً في استخدامه سُلطته لهدم الآخرين. وعندما تناول جزءاً من سيرة حياة المخرج جون هيوستن، ذلك الجزء الذي أمضاه في أفريقيا ببندقية اصطاد بها الفيلة، انتقد هذا المنوال ودوافعه وتبعاته.

أما في «سُلطة مطلقة» (Absolute Power) فخيّر المُشاهد ما بين الحكم على لص منازل أو الحكم على رئيس الجمهورية الذي شاهده اللص وهو يقتل عشيقته.

في الواقع كل أفلام إيستوود مخرجاً (من منتصف السبعينات وما بعد) كانت سلسلة من محاكماته للمجتمع. للسُلطة، للقانون، للسياسة، للإعلام وللمصالح التي تربطها مع بعضها بعضاً، ومن ثم الفرد الواقع ضحية كل ذلك التآلف.

في «محلّف رقم 2» يعمّق منظوره من دون أن يشعر المُشاهد بأي ثقل أو عناء. بالنسبة إلى إيستوود هو أستاذ في كيف يطرح الأفكار العميقة والحبكات المستعصية بأسلوب سهل تستطيع أن تأخذه كعمل تشويقي أو تذهب به لما بعد به متجاوزاً حبكته الظاهرة إلى تلك البعيدة.

المواقف في هذا الفيلم متعددة. جوستِن يضع عدداً من رفاقه المحلّفين في شكوك ويُثير غرابة عدد آخر. أحدهم يخبره بأنه يقرأه ككتاب مفتوح ملئ بالنظريات، لكن من دون براهين. يسأله لماذا. جوستن لا يستطيع الإجابة على هذا السؤال.

رقصات التانغو

هو دراما محاكمات، كما كثير من الأفلام من قبله ومن بعده، «12 رجلاً غاضباً» (12Angry Men) الذي حققه سيدني لومَت في 1957 ويُشار إليه أحياناً بأنه أفضل فيلم محاكمات (نظرة موضع نقاش)، لكن على عكس معظمها من ناحية طروحاتها وأبعادها من ناحية، وعلى عكسها على نحو جامع من حيث تخطيه الشكل المستطيل المعتاد لأفلام المحاكمات. مثال، عوضاً أن يقضي إيستوود الوقت في قاعة المحكمة، يقطع قبلها وخلالها وبعدها لمشاهد خارجية داعمة. وعوض تقديم الأحداث كمشاهد استرجاعية (Flashbacks) يوردها ضمن تداول المحكمة كمشاهد موازية لما يدور متجنّباً مشاهد داخلية طويلة.

لا يترك إيستوود نافذة مفتوحة ولا يستخدم مواقف للتخفيف ولا يضيّع الوقت في سردٍ مُعاد أو موقف مكرر. هو أذكى من الوقوع في رقصات التانغو التي تسميها هوليوود اليوم أفلاماً.

فيلم إيستوود، كمعظم أعماله، عمل راقٍ وجاد. لا مزح فيه ولا عواطف ملتاعة عملاً بمقولة أرسطو «القانون هو سبب وجيه من دون العاطفة». إنه كما لو أن إيستوود استوحى من هذا التعريف كيفية معالجة هذا الفيلم وطرحه لولا أنه دائماً ما عالج أفلامه على هذا النحو بصرف النظر عما يسرد فيه. حتى فيلما الوسترن الشهيران له وهما «The Outlaw Josey Wales» و«Unforgiven» حملا لجانب إتقان العمل البُعد النقدي للتاريخ وللمؤسسة.