قراران قاتلان اتخذهما النميري في أواخر عهده

الـ«سي آي إيه» تنبأت بسقوطه قبل عامين من الإطاحة به

الرئيس السوداني الراحل جعفر النميري يتوسط الرؤساء الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (يسار) والمصري الراحل أنور السادات والليبي الراحل معمر القذافي أثناء لقائهم مع السياسي السوفياتي أليكسي كوسيغن (غيتي)
الرئيس السوداني الراحل جعفر النميري يتوسط الرؤساء الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (يسار) والمصري الراحل أنور السادات والليبي الراحل معمر القذافي أثناء لقائهم مع السياسي السوفياتي أليكسي كوسيغن (غيتي)
TT
20

قراران قاتلان اتخذهما النميري في أواخر عهده

الرئيس السوداني الراحل جعفر النميري يتوسط الرؤساء الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (يسار) والمصري الراحل أنور السادات والليبي الراحل معمر القذافي أثناء لقائهم مع السياسي السوفياتي أليكسي كوسيغن (غيتي)
الرئيس السوداني الراحل جعفر النميري يتوسط الرؤساء الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (يسار) والمصري الراحل أنور السادات والليبي الراحل معمر القذافي أثناء لقائهم مع السياسي السوفياتي أليكسي كوسيغن (غيتي)

اعتقد محللو الاستخبارات أن الدوافع الشخصية والسياسية للرئيس السوداني الراحل جعفر النميري هي التي قادته إلى اتخاذ قرارات مثيرة دون مراعاة للعواقب المحتملة لسياسته، وأن قدرته على المحافظة على كرسيه أصبحت مهددة بدرجة كبيرة حال قرر مواصلة السير في الطريق نفسه، وما أوقع به كان اتخاذ قرارين، هما تطبيق الشريعة وتقسيم جنوب السودان، بحسب وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية.
ففي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1983، اشترك محللون من وكالة الاستخبارات المركزية مع زملاء لهم من استخبارات الجيش واستخبارات قوات البحرية واستخبارات القوات الجوية، لتقييم الوضع في السودان بعد أن أصدر الرئيس السوداني في ذلك الوقت جعفر نميري عددا من القرارات المثيرة للجدل، التي اعتبرتها الاستخبارات الأميركية مؤشرا خطرا لقرب زوال حليف مهم للولايات المتحدة في جزء مهم من العالم.
وخرجت الوكالات الاستخباراتية الأربع بتقييم وضع مؤلف من تسع صفحات تنبأت فيه بقرب سقوط نميري، وهو ما حدث بالفعل بعد أقل من عامين على صدور التقرير في انتفاضة شعبية ضده. ومن المصادفات أن العد التنازلي لرئاسة نميري أثناء وجوده في واشنطن في رحلة علاج.
ففي مارس (آذار) عام 1985، خرج السودانيون إلى الشوارع بتشجيع من النقابات والاتحادات والأحزاب للإعراب عن الغضب من النظام، فقرر نميري العودة إلى الخرطوم للعمل على إجهاض الانتفاضة ضده. وحين كان نميري في الجو عائدًا إلى بلاده، أعلن وزير دفاعه آنذاك، الفريق عبد الرحمن سوار الذهب، انحياز القوات المسلحة للشعب، فما كان من نميري إلا أن عدل عن العودة واضطر إلى تغيير وجهته إلى القاهرة التي اتخذ منها منفى دائما له حتى وفاته في عام 2000.
ومن غير المعروف عما إذا كانت الاستخبارات الأميركية قد أبلغت نميري بما هو مقبل عليه أثناء وجوده في واشنطن، أو ما إذا كان لديها معلومات محددة عما يخطط ضد الرجل، ولكن توقعات محلليها كانت تستند إلى أسباب أخرى قد لا يتفق معها أو في أجزاء منها الكثير من السودانيين الذين يدركون أكثر من غيرهم الأسباب المباشرة لسقوط نميري، ومع ذلك فإن الأسباب التي اعتمد عليها المحللون الأميركيون تستحق التأمل، خصوصا ما اعتبرته الاستخبارات الأميركية أخطر قرارين اتخذهما نمري في عهده، وأدت تداعياتهما إلى سقوطه.
لقد أجمع محللو الوكالات الأربع على أن أكثر قرارين إثارة للجدل في عهد نميري، هما إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية، وتقسيم جنوب السودان إلى ثلاثة أقسام، ورصد عملاء الاستخبارات الأميركية في الخرطوم مؤشرات التذمر في وقت مبكر؛ الأمر الذي دفع المحللين المسؤولين عن فرز المعلومات وتحويلها إلى استنتاجات جاهزة تقدم إلى مراكز اتخاذ القرار الأميركي، الذي يمكنه إشراك الحليف المعني بما لديه من معلومات إذا ما أراد ذلك.
ويجزم المحللون الأميركيون، في ذلك الوقت، بأن نطاق المشكلات التي باتت تواجه النميري، ستتسع، وأنه مقبل على تحديات هي الأخطر على نظامه منذ استيلائه على السلطة عام 1969.
واستدرك المحللون في تقريرهم بالقول إن الشهور المقبلة ستكشف مدى جدية النميري في تطبيق الشريعة الإسلامية ومدى تصميه على المضي قدما في إجراءاته بشأن تقسيم جنوب السودان؛ لأن الإجراءات العملية هي التي ستحدد مستوى المعارضة ضد حكومته لاحقا.
وأعتقد محللو الاستخبارات، أن الدوافع الشخصية والسياسية للنميري هي التي تقوده في هذا الاتجاه من دون مراعاة للعواقب المحتلمة لسياسيته، وأن قدرته على المحافظة على كرسيه ستصبح مهددة بدرجة كبيرة حال قرر مواصلة السير في الطريق نفسه. لكنهم لم يوضحوا ماهية تلك الدوافع الشخصية على وجه التحديد.
كما اعتقدوا أن الأحزاب السياسية والجماعات الجنوبية المعارضة المحظورة في عهد نميري تعمل على تشكيل جبهات مشتركة في مواجهة النظام. لكن التقرير يرجح أن تشكل الحساسيات والصراعات الشخصية، والدينية، والآيديولوجية عوائق أمام تكوين تحالفات حقيقية.
من جانب آخر، رصدت الاستخبارات الأميركية تحركات مصدرها ليبيا وإثيوبيا تهدف إلى زعزعة استقرار حكومة النميري، استغلالا للقلاقل التي تتسبب فيها أفعال النميري في الجنوب. وجاء في التقرير أن هاتين الدولتين تعملان على تشجيع المنشقين الجنوبيين المقيمين في إثيوبيا على زيادة الهجمات التي يقومون بها على جنوب السودان.
ووفقا للتقرير، تسببت إجراءات نميري المثيرة للجدل في زيادة حالة السخط في صفوف القوات المسلحة، خصوصا مع تردي الأوضاع الاقتصادية وتهالك الأسلحة والآليات التي يستخدمونها. وشكك التقرير في ولاء القوات المسلحة السودانية نميري، كما تنبأ أن يحجم الجيش عن الدفاع عن النميري حال قامت ضده احتجاجات شعبية أو تعرض لانقلاب عسكري. وهذا الاستنتاج تحقق بالفعل عندما أعلن سوار الذهب وقوفه إلى جانب الشعب في احتجاجاته ضد النميري.

أبرز التحديات أمام النميري
أصدر النميري عددا من القرارات المثيرة للجدل العام الجاري، مثل الكثير منها تحديا خطيرا لمنصبة. كان أهم تلك القرارات إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية، ووضع نهاية لوضع جنوب السودان باعتباره حالة خاصة أو منطقة مستقلة، ومن ضمن أسباب المشكلات أيضا المحاولات الفاشلة لنقل قوات عسكرية من الجنوب للشمال. غير أن تلك الخطوات قوبلت بالرفض من الكثير من السودانيين، وبخاصة في الجنوب، وربما دفعتهم إلى القيام بأنشطة معادية للنظام. غير أن جدية النميري في تطبيق الشريعة الإسلامية وإجراءاته المستقبلية تجاه الجنوب هي ما ستحدد رد الفعل تجاه سياساته. كذلك، على النميري أن يثبت للأعداد المتزايدة من المتشككين أنه بالفعل يمتلك القدرة والكفاءة على قيادة البلاد.
يعد جنوب السودان، غالبية سكانه من المسيحيين، الأعلى صوتا بين معارضي تطبيق الشريعة الإسلامية. وتسببت الإجراءات الحكومية في إحياء المخاوف القديمة من إحياء الهيمنة والتمييز العنصري من قبل الشمال المسلم. وعارض الكثير من القادة الجنوبيين، ومنهم من ساند النميري في سياساته في المنطقة في بداية حكمه، التحول إلى النمط الإسلامي. وفي أكتوبر (تشرين الأول) شارك آلاف عدة من الجنوبيين مسيرات احتجاجية بمدينة جوبا ضد القوانين الجديدة.
وشعر الكثير من الشماليين، حتى غير المتدينين، بقلق من تطبيق الإجراءات الجديدة، بيد أن اعتراضهم لم يتخذ شكلا عاما، وشملت الفئات الرافضة للنهج الجديد فئات من السودانيين العلمانيين، بعضهم في القوات المسلحة والمخابرات وأجهزة الأمن، وفي المستويات العليا في الجهاز المدني للدولة، وحتى المعارضة الهادئة استشعرت ضعف موقف النميري.
أبدت حكومات شقيقة للسودان بقلق من أن تتسبب حملة النميري لتطبيق الشريعة الإسلامية في إثارة القلاقل السياسية له، حيث ينصح أشقاء النميري العرب بإيجاد حكومة معتدلة في السودان. وقد شعر القادة المصريون بالغضب من عدم استشارة النميري لهم قبل الشروع فجأة في تطبيق الشريعة الإسلامية، بيد أنهم التزموا بمواصلة الدفاع عن السودان ضد أي اعتداء خارجي بالقوة نفسها.
وأكد نميري أيضا على الدور الكبير للشريعة الإسلامية في سياساته المقبلة. ومن شأن الإجراءات الجديدة، مثل تعيين قضاة إسلاميين في الجنوب، أو تشكيل هيئات استشارية إسلامية تابعة للحكومة أن تساهم في تفاقم الأوضاع.

مشاكل في الجنوب
- وصف قرار النميري في يونيو (حزيران) لتقسيم الجنوب إلى ثلاث مناطق صغيرة بصفته جزءا من برنامج يغطي الدولة بالكامل لتوزيع صلاحيات الحكومة المركزية وجعل الحكومات أكثر استجابة وقدرة على التنفيذ. بيد أن الخطة لقيت اعتراضات من قبيلة «الدنكة»، أكبر قبائل الجنوب، والتي تحكم سيطرتها على الحكومات بمختلف المناطق هناك منذ نهاية الحرب الأهلية عام 1972. في حين رأت القبائل الأصغر من «الدنكة» الإجراءات محاولة من النميري لزرع الفرقة بتقسيم البلاد ليسهل له حكمها.
- حلت سلسلة من أحداث العنف بجنوب السودان عام 1983، ومن المحتمل تدهور الأوضاع هناك في الشهور القليلة المقبلة، وربما يتعرض الأميركيون والمصالح الأميركية هناك لهجمات عن طريق جماعات جنوبية منشقة، وسيصبح من الصعب تحديد المسؤول عن الهجمات الفردية في الجنوب.
- وإثر محاولات النميري فصل الجنوب، وبعد محاولات الحكومة إجبار بعض القوات الجنوبية على العمل في الشمال، حاولت المعارضة الشمالية تنظيم صفوفها في مواجهة النظام، واجتمع بعض الساسة الجنوبيين المعارضين وقادة الفصائل المنشقة والضباط الجنوبيين في إثيوبيا، وشكلوا جبهة جنوبية متماسكة في مواجهة النظام، ناهيك عن بعض الطوائف التي شرعت في إعادة تنظيم صفوفها، وكذلك المتمردون.
- كانت ليبيا وإثيوبيا على إدراك بحالة الهياج التي تسبب فيها النميري في الجنوب، وربما يرون الوضع الراهن فرصة ممتازة لزعزعة استقرار الحكومة السودانية.
- بات واضحا أن القوات المسلحة والشرطة السودانية غير مهيأين للتصدي لأي عمليات انشقاق بعد أن تراجعت معنويات المقاتلين إثر عمليات التبديل والإحلال التي تمت بإرسال مقاتلي الجنوب إلى الشمال بداية العام الجاري.
- ربما دفع تفاقم أحداث العنف في الجنوب الحكومة في الشهور القليلة القادمة إلى إرسال المزيد من القوات الشمالية، وهي الخطوة التي قد تسبب مشكلات في ظل حساسية الجنوبيين من تواجد القوات العربية على أرضهم.

الوضع الاقتصادي
- زادت الأزمات الاقتصادية من مشكلات السودان السياسية والأمنية. فبسبب قلة التمويل، باتت الحكومة عاجزة عن توفير الاحتياجات والخدمات الأساسية، وتراجع الناتج المحلي الإجمالي بواقع 2 في المائة في العام المالي المنتهي في يونيو 1983. ورغم النجاح الذي حققته الحكومة في السيطرة على الموازنة العامة والعجز، فقد ارتفع معدل التضخم ليبلغ 41 في المائة.
– بلغت ديون السودان الخارجية 9 مليارات دولار، وهو مبلغ يفوق إجمالي الناتج المحلي لعام كامل، ولكي تسدد السودان ما عليها من التزامات مالية للدائنين، كان عليها أن تدفع نحو مليار دولار سنويا فوائد على الديون، وهو مبلغ يفوق إجمالي صادراتها السنوية.
- يتعين على السودان الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، لا لكي تكون مستعدة للوفاء بمتطلبات الصندوق عام 1984، لكن لتجنب التخلف عن التزاماتها لسنوات. لكن فرص إجراء تغييرات هيكلية تحتاج إليها البلاد على المدى البعيد لكي تتعافى اقتصاديا باتت باهتة

أهمية السودان ونظام النميري للولايات المتحدة
1 - يعد السودان أكبر دولة أفريقية من حيث المساحة، ويحتل موقعًا استراتيجيًا في الشرق الأوسط والقرن الأفريقي. وفي السنوات الأخيرة لعبت حكومة الرئيس جعفر النميري دورًا مهمًا في دعم جهود الولايات المتحدة لمنع تمدد النفوذ الليبي والسوفياتي في المنطقة، وكذلك في حماية طريق إمداد الولايات المتحدة باحتياجاتها النفطية.
2 - وفي مارس (آذار) 1981، عرضت الحكومة السودانية السماح للولايات المتحدة استخدام القواعد العسكرية السودانية، حيث وافق السودانيون العام الجاري رسميًا على السماح للولايات المتحدة بنشر معدات تابعة للقيادة العسكرية الأميركية بميناء بورت سودان، وكذلك سمح النميري بنشر طائرات «بوينغ» بميناء الخرطوم الجوي خلال فترة الأزمة مع تشاد الصيف الحالي.
3 - ساند النميري الأهداف السياسية للولايات المتحدة في المنطقة، منها اتفاق كامب ديفيد، وفي سبتمبر (أيلول) 1982، دعم مبادرة السلام الأميركية في الشرق الأوسط. في السودان استثمارات أميركية خاصة كبيرة، حيث يعمل عدد كبير من الشركات النفط الأميركية في مجال الاستكشافات وتنمية قطاع النفط في السودان.



هدنة 10 سنوات والتخلي عن حكم غزة... عرض حماس «الملحّ» بعد حرب 7 أكتوبر

أطفال مع أهليهم يُلوِّحون بعد سريان اتفاق الهدنة في مخيم النصيرات (أ.ف.ب)
أطفال مع أهليهم يُلوِّحون بعد سريان اتفاق الهدنة في مخيم النصيرات (أ.ف.ب)
TT
20

هدنة 10 سنوات والتخلي عن حكم غزة... عرض حماس «الملحّ» بعد حرب 7 أكتوبر

أطفال مع أهليهم يُلوِّحون بعد سريان اتفاق الهدنة في مخيم النصيرات (أ.ف.ب)
أطفال مع أهليهم يُلوِّحون بعد سريان اتفاق الهدنة في مخيم النصيرات (أ.ف.ب)

لم تكن مجرد مزاعم أو بالونات اختبار أطلقها في مقابلات مع وسائل إعلام عبرية مطلع الشهر الحالي تلك التصريحات المفاجئة التي صدرت عن المفاوض الأميركي السابق لشؤون الرهائن آدم بوهلر، إذ قال إن حركة «حماس» اقترحت تبادل جميع الأسرى وهدنة من 5 إلى 10 سنوات تتخلى فيها عن سلاحها، وتكون الولايات المتحدة ودول أخرى ضامنة ألا تشكل الحركة تهديداً عسكرياً لإسرائيل، وألا تشارك في السياسة مستقبلاً، وضامنة أيضاً لعدم وجود أنفاق.

فقد أكدت مصادر داخل حركة «حماس» لـ«الشرق الأوسط» أن قيادة الحركة طرحت بالفعل هذه الفكرة، وليس لعشر سنوات فحسب، بل مع احتمال تمديدها أكثر من ذلك.

وشرح مصدر مسؤول أن الحركة منفتحة على هذا الخيار منذ قبل الحرب، وليس بعدها، لا بل إن الفكرة كانت مطروحة في سنوات سابقة، لكن إسرائيل هي من كانت ترفضها.

وأعادت المصادر التأكيد على أن قيادة الحركة لم تلتزم لأي طرف بأنها ستقبل بنزع سلاحها، وعدت هذا الأمر شأناً فلسطينياً، وأنه فقط يمكن ذلك في حالة واحدة، ضمن مسار سياسي واضح يسمح بإقامة دولة فلسطينية.

موقف تاريخي متكرّر

قبل نحو عام ونصف العام من اغتيال الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة «حماس»، في الثاني والعشرين من مارس (آذار) 2004، ظهر ياسين أمام منزله في حي الصبرة جنوب مدينة غزة، مؤكداً أن حركته منفتحة على هدنة لمدة 10 سنوات أو أكثر، شريطة انسحاب إسرائيل من كل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، والإفراج عن المعتقلين الفلسطينيين، وعدم التدخل في الشأن الفلسطيني الداخلي.

مسلحو «حماس» يسلمون رهينة إسرائيلية إلى أعضاء اللجنة الدولية للصليب الأحمر ضمن اتفاق الهدنة (رويترز)
مسلحو «حماس» يسلمون رهينة إسرائيلية إلى أعضاء اللجنة الدولية للصليب الأحمر ضمن اتفاق الهدنة (رويترز)

جاءت تصريحات ياسين لتؤكد جدلاً حول تصريحات سابقة له، تعود إلى عام 1997، عندما عاد إلى قطاع غزة عام بعد إطلاق سراحه من السجون الإسرائيلية إلى الأردن، وأكد خلالها استعداد حركته لهدنة تستمر عدة سنوات مع إسرائيل بعد هجمات «انتحارية» نفذتها حركته في داخل المدن الإسرائيلية.

وطرح ياسين لم يكن رأياً شخصياً، فقد تبنى عبد العزيز الرنتيسي الذي قاد «حماس» لنحو شهر بعد اغتيال ياسين، قبل أن تغتاله إسرائيل في أبريل (نيسان) 2004، النهج نفسه، وأكد موافقة حركته على هدنة طويلة الأمد تمتد لعشر سنوات، حتى أنه صرح بذلك لوكالة «رويترز» في السادس والعشرين من يناير (كانون الثاني) 2004، أي قبل اغتياله، واغتيال أحمد ياسين، وفي خضم سلسلة هجمات كانت تقودها الحركة من جانب، وأخرى تنفذها إسرائيل ضد قيادات الحركة في الضفة وغزة من جانب آخر.

ولم تتخل «حماس» عن الفكرة حتى بعدما تغيرت واشتد عودها وحكمت قطاع غزة الذي سيطرت عليه في عام 2007 بعد اشتباكات داخلية دامية مع السلطة الفلسطينية.

وتظهر تصريحات لقادة الحركة، بينهم رئيسا المكتب السياسي السابقان، خالد مشعل، وإسماعيل هنية، موافقة حركتهم على هدنة طويلة الأمد، تقابلها إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، وعدم الاعتراف بإسرائيل.

لم تكن إقامة الدولة الفلسطينية ضمن رؤية «حماس» التي كانت تطرح على الدوام تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وتهاجم السلطة الفلسطينية التي وقعت اتفاقية أوسلو «الخيانية»، قبل أن تحول الحركة الأقوال إلى أفعال، وتغير عام 2017 ميثاقها الذي كان ينص على إقامة دولة فلسطينية على حدود 1948، معلنةً التزامها بإقامة دولة على حدود 1967. وأكد الميثاق على التخلي عن باقي الأراضي الفلسطينية، وضمان عودة اللاجئين للأراضي التي هجروا منها، وأنه لا تخلٍ عن المقاومة المسلّحة واعتبارها مشروعة، إلى جانب التأكيد على عدم اعتراف الحركة بإسرائيل، وهو الموقف الذي عاد وتبناه إسماعيل هنية بشكل أكبر خلال توليه منصب رئيس وزراء حكومة «حماس» ورئاسة مكتبها السياسي لسنوات.

 

فلسطينيون في سوق أُقيمت في الهواء الطلق قرب أنقاض المباني التي دمرتها الضربات الإسرائيلية وسط هدنة مؤقتة في مخيم النصيرات بقطاع غزة (رويترز)
فلسطينيون في سوق أُقيمت في الهواء الطلق قرب أنقاض المباني التي دمرتها الضربات الإسرائيلية وسط هدنة مؤقتة في مخيم النصيرات بقطاع غزة (رويترز)

براغماتية العرض

حسب مصادر في الحركة، فإن البراغماتية التي أظهرتها «حماس» عندما غيّرت الميثاق وقبلت بدولة فلسطينية كانت جزءاً من رؤية الحركة ضرورة إقامة هدنة طويلة.

ولكن على الرغم من أن أي جولة من المفاوضات بين إسرائيل وحماس لم تصل إلى هدنة طويلة، ولكن إلى هدن مفتوحة، كشفت وسائل إعلام إسرائيلية أن المسألة كانت على طاولة المفاوضات فعلاً.

وكان ضابط كبير في جهاز الموساد الإسرائيلي كشف لـ«القناة 13» العبرية، في ديسمبر (كانون الأول) 2013، خلال برنامج تناول الكواليس التي سبقت محاولة اغتيال خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» آنذاك، في الأردن عام 1997، وهي التي أفضت في النهاية للإفراج عن الشيخ ياسين، أنه التقى بصفته مسؤولاً عن العلاقات مع الأردن، العاهل الأردني حينها الملك حسين، الذي نقل له طرحاً من «حماس» بالتوصل لهدنة طويلة الأمد تستمر 10 سنوات، توقف فيها الحركة هجماتها التفجيرية العنيفة في تلك الحقبة داخل المدن الإسرائيلية، لكن تل أبيب لم تأخذ ذلك على محمل الجد، وتجاهلت الرسالة التي علم بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو آنذاك، بعد أيام من مصادقته على قرار تنفيذ العملية ضد مشعل.

وحسب الرئيس السابق لجهاز الموساد الإسرائيلي، أفرايم هليفي، في مقابلة سابقة مع «القناة 12»، فإن إسرائيل رفضت، قبل 7 سنوات من اغتيال ياسين، اقتراحاً بإعلان هدنة مع الحركة لمدة 30 عاماً، كان عرضه ياسين بنفسه عبر وساطة الأردن وجهات أخرى، وهو ما لم تؤكده الحركة أو أي مصادر أخرى.

فلسطينيون يتفقدون موقع غارة إسرائيلية على مرفأ الصيادين بدير البلح وسط قطاع غزة يوم السبت (أ.ف.ب)
فلسطينيون يتفقدون موقع غارة إسرائيلية على مرفأ الصيادين بدير البلح وسط قطاع غزة يوم السبت (أ.ف.ب)

ويبدو أن طرح «حماس» الذي لم يلق قبولاً جعل الحركة تطمع في تثبيته عبر مفاوضات مباشرة، وهو ما يفسر تصريح موسى أبو مرزوق حين كان نائباً لمشعل في رئاسة المكتب السياسي لحركة «حماس»، بعد حرب عام 2014 مقترحاً إجراء مفاوضات مع إسرائيل.

وظهر أبو مرزوق، وهو يقول في تصريحات متلفزة لفضائية «القدس» رداً على سؤال حول إمكانية إجراء «حماس» مفاوضات مع إسرائيل: «من الناحية الشرعية، لا غبار على مفاوضة الاحتلال، فكما تفاوضه بالسلاح تفاوضه بالكلام. أعتقد إذا بقي الحال على ما هو عليه فلا مانع من ذلك، لأنه أصبح شبه مطلب شعبي عند كل الناس، وقد تجد (حماس) نفسها مضطرة لهذا السلوك».

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن هذا الطرح، أي المفاوضات المباشرة مع إسرائيل حول اتفاق هدنة طويلة، كثيراً ما نُوقش داخل أطر الحركة المختلفة. وأشارت المصادر إلى أنه في بعض الفترات كان يتم طرح ذلك من قبل الوسطاء، كما في مفاوضات وقف إطلاق النار عام 2005، وعام 2014 بعد الحرب الإسرائيلية، ثم أعيد طرحه عام 2016، لكن من دون التوصل إلى أي نتائج.

وحسب المصادر، فإن سياسات الحركة وأفكارها ليست منغلقةً بل منفتحة وتطورت كثيراً مع الوقت.

فلسطينيون نازحون يسيرون عبر طريق موحل وسط الدمار في جباليا شمال قطاع غزة خلال الهدنة بين إسرائيل و«حماس» (أ.ف.ب)
فلسطينيون نازحون يسيرون عبر طريق موحل وسط الدمار في جباليا شمال قطاع غزة خلال الهدنة بين إسرائيل و«حماس» (أ.ف.ب)

الهدنة التي أصبحت ملحَّة

لكن إذا كانت رؤية الحركة تجاه هدنة طويلة ثبتت على ما هي عليه منذ عقود، فإن أسباب الهدنة ومسببات المطالبة بها تغيرت بعد السابع من أكتوبر 2023، فلا يمكن إخفاء حجم الضرر الذي تعرضت له الحركة في الحرب الحالية على قطاع غزة، وليس سراً أنها تلقت أكبر ضربة قاسية منذ تأسيسها على جميع الصعد.

وقال الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم إن حركة «حماس» تتميز بأنها حركة فتية ومتجددة في أفكارها، وقد غيَّرت سياساتها خلال حقبات زمنية مختلفة.

ويرى إبراهيم أن ذلك ميَّز «حماس» وجعلها متفوقة، لكن ذلك بقي صحيحاً حتى السابع من أكتوبر، عندما تغير كل شيء.

يؤكد إبراهيم على أن نتائج هجوم السابع من أكتوبر على الحركة نفسها وشعبيتها شكّلت عاملاً مهماً في قرارات الحركة المستقبلية على كافة الأصعدة.

وحسب إبراهيم، يمكن تلمس أول تأثير مهم في الحركة حتى الآن، وهو تنازلها عن حكم القطاع.

ولا تخفي «حماس»، وبشكل واضح، أنها ترغب في التخلي عن حكم غزة، في إطار المفاوضات الجارية حالياً، لكنها تشترط أن يكون ذلك ضمن وفاق وطني، وأن يتم إجراء انتخابات عامة فلسطينية في غضون عام، وهو أمر تنص عليه المبادرة المصرية التي تبنتها القمة العربية الأخيرة.

وإلى جانب التخلّي عن الحكم أعادت «حماس» طرح هدنة طويلة الأمد.

 

استراحة محارب ورصّ صفوف

قالت مصادر من داخل «حماس» إنه منذ طرح الشيخ أحمد ياسين هذه الفكرة، كانت تقوم بالأساس على وقف القتل، لكن اليوم هناك الكثير من الأهداف الأخرى وراء هذا الطرح، من بينها «أخذ نفس لإعادة ترتيب أوضاع الحركة بعد الحرب الحالية، وإجراء مراجعة شاملة، بما في ذلك العلاقة مع السلطة والفصائل وإسرائيل».

أفراد من حركة «حماس» في مخيم النصيرات مع بدء الهدنة مع إسرائيل (أ.ف.ب)
أفراد من حركة «حماس» في مخيم النصيرات مع بدء الهدنة مع إسرائيل (أ.ف.ب)

وأضافت المصادر: «ستحاول الحركة خلال ذلك التوصل لاتفاق وطني جامع مع جميع الفصائل لإعادة بناء منظمة التحرير والمجلس الوطني وانضمام الحركة إليهما».

وأقرت المصادر بأن «حماس» بعد الحرب الحالية بحاجة لتجديد دماء القيادة فيها، وكذلك العناصر المقاتلة، بعد أن فقدت الآلاف منهم في قطاع غزة.

وأوضحت المصادر: «خلال الحرب استمرت الحركة في سد الفراغات، وفق الظروف الميدانية، وضمن عمل منظم اتبعته وفق ما تنص عليه اللوائح الداخلية في تولي المناصب، لكن ما زلنا بحاجة لضبط الوضع».

وتابعت: «الحركة تأثرت بشدة، وهي بحاجة حالياً لهدنة طويلة الأمد من أجل إعادة بناء نفسها».

وخلال فترة وقف إطلاق النار التي امتدت في مرحلتها الأولى لـ58 يوماً فعلياً قبل أن تستأنف إسرائيل ضرباتها بقوة، استغلت الحركة وقف إطلاق النار المؤقت لإعادة ترتيب صفوفها ومحاولة إعادة هيكلة التنظيم سياسياً وحكومياً وعسكرياً.

وكانت الحركة حاولت إظهار قوتها أثناء إجراء صفقات التبادل، وأرسلت رسائل تحدٍ لإسرائيل.

لكن إسرائيل ردت بضربات متتالية باغتيال القيادات القائمة على محاولة إعادة ترتيب صفوفها، منهم أعضاء مكتب سياسي مثل محمد الجماصي، وياسر حرب، أو شخصيات حكومية مثل عصام الدعاليس، أو عسكرية مثل أحمد شمالي نائب قائد «لواء غزة» في «كتائب القسام» الذي كان يقود إعادة هيكلة الكتائب، علماً بأن «حماس» تعتبر «القسام» درة التاج.

 

مقاتلون جدد

خلال سنوات مضت عملت الحركة على تخريج جيل جديد من المقاتلين وضمهم لصفوفها، خصوصاً الجيل الفلسطيني الصاعد من الشباب الذين كانت تسعى دوماً لاستقطابهم وتعمل على تدريبهم عسكرياً، وشارك عدد منهم في هجوم السابع من أكتوبر، فيما استخدم آخرون لسد الفراغ وقد أعيد تنشيطهم لكي يشاركوا في هجمات ضد القوات الإسرائيلية البرية، وهو ما حصل في مخيم جباليا وبلدتي بيت لاهيا وبيت حانون في الأشهر الأربعة الأخيرة قبل وقف إطلاق النار.

وكانت «الشرق الأوسط» انفردت بتقرير خاص عن نجاح «حماس» في تجنيد أولئك، ونشرت صوراً لمطوية وكتيب حول تعليمات إطلاق القذائف المضادة للدروع تجاه الآليات الإسرائيلية.

صورة ملتقطة 15 فبراير 2025 في خان يونس بقطاع غزة تُظهر مقاتلين من حركة «الجهاد الإسلامي» و«كتائب القسام» الجناح العسكري لحركة «حماس» يقفون خلال تسليم 3 رهائن إسرائيليين لممثلي الصليب الأحمر (د.ب.أ)
صورة ملتقطة 15 فبراير 2025 في خان يونس بقطاع غزة تُظهر مقاتلين من حركة «الجهاد الإسلامي» و«كتائب القسام» الجناح العسكري لحركة «حماس» يقفون خلال تسليم 3 رهائن إسرائيليين لممثلي الصليب الأحمر (د.ب.أ)

وقال المحلل السياسي مصطفى إبراهيم: «بالتأكيد تسعى (حماس) بعد هذه الحرب الإسرائيلية الطاحنة لتجديد الدماء فيها بعدما فقدت الآلاف من قياداتها وعناصرها، وهذا سيكون أحد أهم أهداف الهدنة طويلة الأمد في حال تم التوصل لاتفاق بشأنها».

وفي حال نجحت الجهود الرامية للتوصل لوقف إطلاق نار دائم، وربما لسنوات طويلة، وهو أمر تنخرط به الولايات المتحدة، فإن السؤال الذي سيبقى مطروحاً، حول قدرة «حماس» على البقاء وعلى إعادة تشكيل نفسها في مواجهة إصرار إسرائيلي وقناعة فلسطينية رسمية وعربية على إخراج الحركة من المشهد.

لم تستطع إسرائيل بعد عقود من المواجهة وحرب دموية طاحنة مستمرة منذ أكثر من عام ونصف العام هزيمة الفكرة، وتريد هزيمة التنظيم نفسه، وهو أمر لن يحصل أغلب الظن بإعطاء الحركة سنوات طويلة من الراحة.