التصاميم العصرية تعيد للذهب عزه وبريقه

ارتفاع أسعار الأزياء والإكسسوارات جعل الإقبال على قطعة مجوهرات بنفس السعر استثمارا مبررا

التصاميم العصرية تعيد للذهب عزه وبريقه
TT

التصاميم العصرية تعيد للذهب عزه وبريقه

التصاميم العصرية تعيد للذهب عزه وبريقه

عندما أقامت دار «كارتييه» معرضا في «لو لوغران باليه» في نهاية العام الماضي تحتفل به بـ160 سنة من الأناقة والفخامة من خلال 600 قطعة مجوهرات تشد الأنفاس، لم تكن تستعرض فقط قدراتها التصميمية واهتمامها بالتفرد من خلال بريق الأحجار الكريمة والنادرة، بل استعرضت أيضا تلك العلاقة الحميمة التي ربطت المجوهرات بثريات وأنيقات العالم، مؤكدة أنهن فعلا كن يتعاملن معها من منطلق أنها أفضل صديق للمرأة، كما جاء في أغنية مارلين مونرو الشهيرة. من ملكات وأميرات بريطانيا إلى دوقة ويندسور واليس سيمبسونز التي كانت تطلب تصاميم مميزة من الدار، مرورا بسيدات المجتمع المخملي في أميركا وأوروبا اللاتي لم يكن يستغنين عن تصاميم «كارتييه» أو «فان كليف آند آربلز» وغيرها من البيوت. فقد كانت هذه المجوهرات سواء كانت مرصعة بالأحجار الكريمة أو مصنوعة من الذهب وحده، تنعم بمكانة مهمة كزينة وخزينة، وإن كانت الأحجار الضخمة والنادرة في صفائها وألوانها، هي المطلوبة أكثر في وقت من الأوقات.
مرت السنوات، وبدأت المجوهرات الرفيعة تفقد صلتها بعالم الموضة المعاصرة، لأن تصاميمها بقيت متمسكة بالكلاسيكية وتعتمد على بريق الاحجار أكثر مما تهتم بالتصميم العصري. وهكذا، بحلول السبعينات بدأت الأطقم الذهبية المطعمة بالأحجار تتراجع وتفقد جاذبيتها في عيون المرأة الشابة. فهذه الأخيرة ربطتها في مخيلتها بموضة الجدات والأمهات، وأصبحت ترمز بالنسبة لها إلى حقبة ولت لا تخاطب جيلها أو تمس وجدانه، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المجوهرات مسألة عاطفية بحتة، تشعل الرغبة وتثير الحب والإعجاب وما شابه ذلك من مشاعر. في الثمانينات، بدأ الذهب يستعيد قوته، بفضل الموضة، ومنذ بداية التسعينات وهو يستقوي. فقد استعادت المجوهرات مجدها القديم، والفضل هنا يعود أيضا إلى جيل من الصاغة والمصممين، الذين انتبهوا إلى أنه بات عليهم أن ينزلوا من أبراجهم العالية ويتوددون لامرأة أصبحت قدراتها الشرائية كبيرة لا يضاهيها سوى رغبة محمومة في الحصول على قطع متميزة. انتبه هؤلاء أيضا إلى قوة تأثير نجمات هوليوود ووظفنها بشكل جيد، ليعود بريقها إلى اللمعان في المهرجانات السينمائية ومناسبات السجاد الأحمر، لتنافس الأزياء قوة وجمالا في بعض الأحيان، أو على الأقل تكملها. طبعا، التصاميم التي كانت تفضلها نجمات مثل إليزابيث تايلور وجينا لولوبريجيدا وغيرهما تغيرت لتظهر تصاميم جديدة تخاطب جيلا جديدا من النجمات من مثيلات كايت بلانشيت، وتيلدا سوينتون بل وحتى من هن أصغر سنا منهما. فقد أصبحت التصاميم أكثر حداثة تستعرض فنيتها أكثر مما تستعرض حجم الأحجار وفخامتها، ومع ذلك فإن النتيجة دائما رائعة، سواء كانت من معامل «كارتييه» و«فان كليف آند أربلز»، أو من أنامل مصممات شابات دخلن المجال من أبواب مختلفة، مثل اللبنانية دينا كمال، التي استبدلت فن العمارة والتصميم الهندسي بتصميم المجوهرات والإسمنت بالذهب، والألمانية جوليا موغنبورغ، مؤسسة ماركة «بلماكس» التي دخلت عالم المجوهرات من باب الرسم والنحت. فهي تتعامل مع الذهب والمواد المترفة من نظرة فنية محضة، إلى حد أنها حولت محلها الواقع بـ«ديفيز ستريت» المقابل لفندق كلاريدجز، إلى متحف تستعرض فيه أعمال بعض الفنانين وتقيم به معارض خاصة تتعامل مع المجوهرات كفن قائم بذاته. آخر هذه المعارض سيكون عن الذهب، الذي تقول إنه مادة لم تغب أبدا، «فهو لم يفقد جاذبيته على مدى العصور وظل دائما يثير خيال كل الثقافات والحضارات التي مرت علينا ويحركها إلى اليوم». ولا تنكر أنه اكتسب قوة أكبر في الآونة الأخيرة، وترد ذلك إلى أن المجوهرات نفسها اكتسبت قوة جعلت الجيل الجديد يقدر كل ما هو ثمين ونادر. وتتابع في حديث خاص مع «الشرق الأوسط» أن «الذهب يلهم الإنسان، والجواهر عموما تشكل جزءا من حلم، وأجمل قطعة هي التي تحول هذا الحلم إلى حقيقة عندما تحصل عليها المرأة وترتديها باعتزاز». في المواسم الأخيرة، بدأت جوليا تهتم أكثر بمزج الذهب واللؤلؤ، رغم أن الماس والذهب كانا ولا يزالان أكثر كلاسيكية وأكثر استعمالا. والسبب حسب تفسيرها أنها تريد أن تعطي الذهب حقه من البريق عوض أن تغطيه بالأحجار المتنوعة، الأمر الذي يجعلها تبحث دائما عن طرق جديدة وأحجار مختلفة لمزجه بها مثل الزمرد الذي يتناغم لونه الأخضر العميق مع لون الذهب الأصفر بالذات، ومن ثم لا يمكن أن تخيب قطعة يجتمعان فيها الظن. أما ما يجعل القطعة مثيرة وعصرية بالنسبة لها «فهو اختيار الأشكال والتصاميم الجريئة، وليس المواد والمعادن التي تدخل فيها». ومع ذلك، تؤكد أن الذهب كان ولا يزال عنصرا مهما بالنسبة لها، ولصيقا بكل القطع التي تحمل اسم «بلماكس»، لما يمنحه لها من إمكانات هائلة لصياغة أشكال ساحرة تشبه إلى حد ما عملية بناء بيت من الخشب، «فاستعمال مواد طبيعية ومرنة جزء أساسي بالنسبة لي، ولولا الذهب لما كانت هناك ماركة اسمها (بلماكس) الآن».
من جهتها، بنت دينا كمال اسمها على خاتم الخنصر قبل أن تتوسع إلى قطع أخرى لا تقل حداثة وجمالا، جعلتها تتوافر في محلات مهمة مثل «دوفر ستريت» بلندن وغيرها. تعترف بأن حبها للذهب تحديدا واحد من الأمور التي شجعتها على دخول مجال المجوهرات منذ أربع سنوات تقريبا. دينا تعيد سبب القوة التي اكتسبها الذهب أخيرا إلى الأزمة الاقتصادية العالمية، «فقد أصبحت الرغبة في الاستثمار في قطع رفيعة وراقية أقوى كأنها مضاد للأزمة، خصوصا بعد أن رأت المرأة أنها يمكن أن تستمتع بالتصاميم الجديدة بشكل يومي وتستفيد منها أكثر من دون أن تفقد قيمتها. وهذا ما ساعد على نشر ثقافة استعمال المجوهرات في مناسبات النهار وبأسلوب منطلق لا يتطلب أناقة عالية بالضرورة».
أغلب زبونات كل من «بلماكس» للمصممة جوليا موغنبورغ ودينا كمال من النساء اللاتي يقدرن جمال التصميم والخامات في الوقت ذاته. نساء يردن تصاميم مختلفة عما هو مطروح في السوق، من ناحية جرأتها وتفردها، لأنهن أكثر دراية بالموضة ومتابعات لكل تفاصيلها ومستجداتها. فقطعة مجوهرات من الذهب لا تبدو نشازا مع فستان في النهار أو المساء على حد سواء. بالعكس، فإن الكثير من فساتين السهرة تأتي بتصاميم هادئة تحتاج إلى بعض البريق كأن مصمميها وضعوا هذا الأمر نصب أعينهم عند تصميمها حتى يتيحوا للمرأة أن تلعب بها وبالمجوهرات في الوقت ذاته.
مثل جوليا موغنبورغ، ترى دينا كامل أن التصاميم العصرية كان لها تأثير إيجابي في استقطاب زبونات جديدات، مشيرة إلى أن هذه التصاميم «لا تفقد المعادن المترفة قيمتها». بالعكس، فهي تضيف إليها مظهرا يبدو لا مباليا يمنحها المزيد من السحر، لكن على شرط أن يكون التصميم مبتكرا في حدود معينة لا تحولها إلى صرعات مجنونة. الخوف بالنسبة لها أن «هناك مصممين أخذوا معنى الابتكار إلى حدود بعيدة، مما جعلها تبدو أقرب إلى الإكسسوارات منها إلى مجوهرات». فالتصميم العصري، كما تقول دينا يعني «دراسة الشكل وربطه بعصره، لكن من دون أن يتجاهل أن هذه الخامات قديمة قدم التاريخ ومن ثم تخضع لأبجديات مهمة عند تصميمها واختيار أحجامها حتى تأتي متوازنة. مثلا، لا يعني التصميم البسيط جدا أنه عصري فقط لأنه بعيد عن التعقيدات، فالمسألة أكبر من ذلك بكثير ولا يمكن أن نتجاهل فيها الماضي وإرثه. أكبر دليل على هذا أن الذهب يعد من أقدم الخامات التي استعملت في صناعة المجوهرات، ومع ذلك لا يزال يعد مادة عصرية ورائعة تصاغ منها أجمل القطع».
وحسب دور المجوهرات الكبيرة والمصممين المستقلين، فإن الحدث الأبرز في السنوات الأخيرة الإقبال الكبير من النساء تحديدا على شراء قطع ثمينة على شرط أن تكون فريدة كنوع من الاستثمار. فهي لم تعد تنتظرها كهدايا في المناسبات من الرجل، بل لا تتردد في البحث عنها وشرائها حسب ذوقها الخاص، وأحيانا تفضلها على حقيبة يد ستتغير موضتها من موسم إلى آخر. وإنفاقها سعرا يتراوح ما بين 3.000 إلى 5.000 جنيه إسترليني، على قطعة مجوهرات يمكنها استعمالها بشكل يومي، للنهار والمساء، مبرر أكثر من شراء حقيبة يد بنفس السعر أو أكثر. طبعا، قد يصل حجم الإنفاق إلى الملايين حسب إمكاناتها وتفرد القطعة. ويشير المتابعون إلى أن ظهور هذه الشريحة من الزبونات المستعدات لإنفاق آلاف أو عشرات الآلاف من الدولارات على المجوهرات الراقية، يعود في جانب منه إلى ارتفاع أسعار منتجات الموضة الأخرى طوال السنوات الخمس الماضية. فإنفاق آلاف الجنيهات على معطف أو حقيبة يد أو زوج من الأحذية، لم يعد يثير الدهشة، فما البال إذا كان على قطعة مجوهرات ستبقى معها طوال العمر، وقد تورثها لأجيال أخرى. وترحب جوليا موغنبورغ بهذه الظاهرة، معلقة أن «المرأة أصبحت تتمتع باستقلالية مادية تمنحها الحرية في أن تشتري ما تريد. وهي عموما تختار قطعة مجوهرات بتصميم يحرك مشاعرها، أو مرصعة بأحجار تمنحها القوة والثقة. في هذه الحالة، فإن جمال القطعة نفسها وتميزها يطغى على فكرة توريثها أو الاستثمار فيها. فهي تقتنيها لكي تزيد من جمالها، ولا بأس أن تسحر الناظر إليها أيضا». في المقابل، ترى دينا كمال أن الأسباب مختلفة، فبينما هناك من النساء من تتبعن توجهات الموضة وتقبل على كل ما هو غال على أساس أنه مضمون يعكس الثراء والجاه، هناك من تتعامل معه كقطع فنية لا تفقد قيمتها. وفي كل الأحوال هي استثمار بعيد المدى.

* الذهب.. عرض لمسيرته كزينة وخزينة
* يسلط المعرض الضوء على طرق استعمالاته المتنوعة في صناعة المجوهرات كما على علاقته بالثقافة البشرية وكيف أثر في تطورها. فهو، كما تقول المصممة جوليا موغنبورغ، يعكس مكنونات الروح ويثير عواطف متناقضة فيها. فقد يرمز إلى الصفاء والحب الأبدي، لهذا فهو لصيق بمناسبات الزواج ووسيلة للتعبير عن الحب، كما قد يرمز لأسوأ ما في النفس البشرية عندما يثير الرغبة المحمومة والجشع. فضلا عن علاقته بالمجتمعات وتطورها، الأمر الذي يمكن تتبعه من أيام المصريين القدامى إلى الآن، مرورا بحمى الذهب بكاليفورنيا وما أشعلته من رغبة في تحقيق الحلم والثروة. لهذا، كله، فإنه بالنسبة لجوليا موغنبورغ، يعد الأساس الذي بنت عليه ماركة «بلماكس»، حيث لا يقتصر استعماله على المجوهرات فحسب، بل أيضا على مستحضرات التجميل التي تطرحها. فهو دائما يظهر في أحمر الشفاه أو ظلال الجفون على شكل ذرات أو رقائق دقيقة جدا تزيد البشرة جمالا وألقا.
G.O.L.D.
سيمتد من 22 أبريل (نيسان) 2014 إلى 17 مايو (أيار) 2014
Belmacz 45 Davies Street
London W1K 4LX



أسابيع الموضة العالمية لخريف وشتاء 2026 تنتهي في باريس ببدايات جديدة

شهد الأسبوع ثلاث بدايات: «دريز فان نوتن» و«جيڤنشي» و«توم فورد»
شهد الأسبوع ثلاث بدايات: «دريز فان نوتن» و«جيڤنشي» و«توم فورد»
TT

أسابيع الموضة العالمية لخريف وشتاء 2026 تنتهي في باريس ببدايات جديدة

شهد الأسبوع ثلاث بدايات: «دريز فان نوتن» و«جيڤنشي» و«توم فورد»
شهد الأسبوع ثلاث بدايات: «دريز فان نوتن» و«جيڤنشي» و«توم فورد»

تسعة أيام هي المدة التي استغرقها أسبوع باريس لخريف وشتاء 2025-2026. كان مسك ختام لدورة سنوية تبدأ في نيويورك وتمر بلندن وميلانو وتنتهي بباريس. لكنك لو سألت أي شخص حضر فعالياته بالكامل، لجاءك الرد، ومن دون تردد، بأنه طول مدته مبالغ فيها، مقارنة بغيره من أسابيع الموضة العالمية. لندن مثلاً لم يعد يتعدى أسبوعها الأربعة أيام. لكن منذ سنوات وباريس تتعمد وضع برنامج يجعل من الصعب على ضيوفها من عشاق الموضة مغادرتها قبل انتهائه. فـ«ديور» تقدم عرضها في الأيام الأولى و«شانيل» و«لويس فويتون» و«سان لوران» في الأواخر وبينهم إيلي صعب وفالنتينو وهرميس وستيلا ماكارتني وبالمان وآخرون لا يقلون أهمية. الأسباب مكيافيلية. فكلما امتدت إقامتهم، انتعشت الفنادق والمطاعم وتحركت المحلات ووسائل النقل.

اختتمت دار «سان لوران» الأسبوع ودورة الموضة العالمية في باريس (أ.ف.ب)

ومع ذلك لا بد من الإشارة إلى أن هناك إجماعاً على أن باريس ليست مثل غيرها وتستحق العناء والجهد. لا تزال عاصمة الموضة بلا منازع، إبداعاً وعروضاً، بفضل بيوت الأزياء ذات الإمكانات الضخمة التي تمدَها بكل ما يعزز سحرها ويرسخ مكانتها.

أسبوعها الأخير اختتم بعروض كل من «ميو ميو» و«سان لوران» و«شانيل». كان حافلاً بالأحداث، كما كان مثيراً ما بين انتظار بدايات مصممين تم تعيينهم مؤخراً ولم يسعفهم الوقت لكي يباشروا العمل ويتحفونا بما جادت به مخيلتهم، وبين متابعة عروض مصممين سجلوا بداياتهم فعلياً هذا الموسم لأول مرة بعد التحاقهم ببيوت عريقة.

اعتمدت «شانيل» مرة أخرى على فريق قسمها الإبداعي في انتظار أول تشكيلة لمصممها الجديد ماثيو بلايزي (شانيل)

«شانيل» مثلاً، ومعها أوساط الموضة، لا تزال تنتظر ما سيقدمه المصمم ماثيو بلايزي في الموسم المقبل. اعتمدت مرة أخرى على فريقها الإبداعي لتقديم تشكيلة تلعب على أيقوناتها، بينما اكتفت «لويفي» بتقديم عرض أصغر مما عوّدتنا عليه بسبب انتقال مصممها جوناثان أندرسون إلى «ديور».

لكن بالنسبة لـ«جيڤنشي» و«توم فورد» و«دريز فان نوتن» فإن الانتظار انتهى. «جيڤنشي» قدمت أول تشكيلة لها من إبداع سارة بيرتون، و«توم فورد» أول تجربة لحيدر أكرمان و«دريز فان نوتن» أول عرض لجوليان كلوسنر. ثلاثة أسماء لم تخيب الآمال بقدر ما أيقظت الأمل بولادة عهد جديد.

سارة بيرتون

من عرض سارة بيرتون لدار جيڤنشي (جيڤنشي)

المصممة التي التحقت بدار «جيڤنشي» مؤخراً، جاءت بعد تجربة عقود مع المصمم الراحل ألكسندر ماكوين. خلفته في الدار التي أسسها ولا تزال تحمل اسمه حتى الآن، والطريف في التعيين الأخير أن بداية رفيق دربها الراحل ماكوين، كانت أيضاً في «جيڤنشي». سارة بيرتون برهنت على مدى عقود أنها تحترم إرث المؤسسين. لا تحاول أن «تتشاطر» عليهم بقدر ما توظف بصمتها للإبقاء على إرثهم حياً. وهذا تحديداً ما قامت به في هذه التشكيلة التي قالت إنها عادت فيها إلى الجذور. برَرت ذلك قائلة: «للمضي قدماً، لا بدّ من العودة إلى الجذور. وبالنسبة لي، تبدأ الحكاية دائماً من المشغل. هو القلب النابض والملهم».

من إبداعات سارة بيرتون (جيڤنشي)

حاولت استكشاف شخصية الدار من خلال قراءة شخصية صاحبها الراحل هيبار دي جيڤنشي. كان يحب الخطوط الواضحة التي تبرز تضاريس الجسم وجمالياتها من دون مبالغات أو تفاصيل لا داعي لها. أثارها هذا الأمر وخلال بحثها في الأرشيف قالت إنها اكتشفت طروداً مغلَّفة بورق بني، تضم قصّات من قماش الكاليكو من مجموعته الأولى لعام 1952.

درستها وسرعان ما اكتشفت أنها، مثل هيبار دي جيڤنشي، تعشق التفصيل وتقدر العلاقة بين عملية الابتكار التي تولد في الاستوديو، والحرفية التي تُنفذ في المشغل.

عادت بيرتون لأرشيف الدار لتستلهم منه خطوطاً أنثوية واضحة وسلسة (جيفنشي)

أما كيف جسَّدت القواسم المشتركة بينها وبين المؤسس، فمن خلال أساليب تقليدية وكلاسيكية قامت بتفكيكها بتنعيمها، وإضافة تفاصيل أنثوية. والنتيجة أن المرأة تبدو في الظاهر ناعمة إلا أن خلفها تكمن قوة لا تظهر إلا عند الحاجة، وهو ما جسّدته أيضاً في مزجها بين الكلاسيكي والانسيابي، من خلال الأكتاف البارزة بشكل مبالغ فيه أحياناً، والخصور المحددة، والفساتين المكونة من أمتار من القماش، ومع ذلك تكشف عن الظهر، بحيث تبدو من الأمام محتشمة ومن الظهر بلمسات أنثوية مثيرة. الفكرة هنا مرة أخرى كانت اللعب على القوة الكامنة بداخل كل أنثى.

عادت سارة بيرتون إلى أرشيف الدار وأخذت منه عدة عناصر لعبت عليها مثل القميص الأبيض (جيڤنشي)

أسلوب هيبار دو جيڤنشي يُطِل في الكثير من الإطلالات، مثل فساتين قصيرة مصنوعة من دانتيل شانتيلي وأخرى مستلهمة من الملابس الداخلية تطبعها حسِية الخمسينيات من دون أن ننسى القميص الأبيض، الذي أخذ عدة أشكال. كل هذا ترجمته سارة بيرتون برؤية معاصرة ذكرتنا إلى حد ما بعهدها في دار «إلكسندر ماكوين».

توم فورد:

جمع حيدر أكرمان في تشكيلته الأولى بين جرأة توم فورد وبين أسلوبه الخاص لدار (توم فورد)

كان كل ما في العرض أشبه بلقاء دافئ بين جرأة المصمم المتقاعد توم فورد ورومانسية خليفته الحالي حيدر أكرمان. يشرح هذا الأخير بعد عرضه هذه العلاقة قائلاً: «عند دخولي عالم السيد توم فورد، شدّني أن شخصيته تنعكس في كل شيء. ثم انتبهت أنه يمثل حياة الليل والسّهر، بينما أنا أمثّل صباح اليوم القادم، وهو ما كان بداية رقصتنا مع بعض». من هذا المنظور لم يُغيِب أسلوب سلفه المثير، بالعكس أعاده إلى الواجهة بعد أن ضخه بجرعة ديناميكية من الرومانسية والأنوثة المفصلة. هذا التفصيل ساهم في التخفيف من جرعة الإثارة الحسية التي برع توم فورد فيها والتصقت به منذ أن كان في دار «غوتشي».

من أول عرض يقدمه حيدر أكرمان لدار «توم فورد» (توم فورد)

هذه العلاقة بين الأمس الذي يمثله توم فورد والحاضر الذي يمثله أكرمان «مبنية على الحب. فأنا أرى أن الحب جوهر كل شيء» وفق ما قاله هذا الأخير. تخيل هذه التشكيلة كقصة حب، تبدأ بنظرة وابتسامة، ثم التعرّف على الاختلافات بهدف استكشاف القواسم المشتركة للبناء عليها.

وهذا ما كان. فرغم شخصيته الجادة، لم يرفض أكرمان أن الحواس تلعب دورها في التقريب بين الأشخاص، كما على اختياراتنا فيما يخص الأزياء. كلاهما يبدأ بحاسة النظر ويتطور إلى رغبة ملحة في الحصول على الشيء والحفاظ عليه.

إيحاءات رجالية ظهرت في عرض «توم فورد» عبارة عن بدلات وتوكسيدو (توم فورد)

صبَ كل هذه الأفكار والأحاسيس في تشكيلة غلبت عليها تصاميم مستوحاة من عالم الليل بإيحاءات رجالية، مثل سترة توكسيدو اكتسبت طولاً يصل إلى الكاحل وبدلات ناعمة بألوان فاتحة، وفساتين مفصلة بأسلوب سهل لكن ممتنع. خلا أغلبها تقريباً من أي تفاصيل لا داعي لها، واعتمد فيها فقط على التفصيل والأقمشة لإبراز قدراته.

جوليان كلوسنر

جوليان كلوسنر احترم جينات «دريز فان نوتن» في تشكيلته الأولية (أ.ب)

مصمم آخر شهدت باريس بدايته هذا الموسم. عمل مع المصمم البلجيكي الأصل دريز فان نوتن لست سنوات. تعلم فيها أسلوبه وحرفته، قبل أن يتسلم منه المشعل إثر تقاعده المُبكِر. تُطل أول عارضة على المنصة، فتشعر بأن جينات الدار في مأمن من أي تغييرات جذرية. أسلوب دريز حضر في النقشات الغنية والتفاصيل الباروكية وتضارب الأقمشة التي تحمل لمسات «فينتاج». تنتابك طوال العرض مشاعر متضاربة ما بين إطلالات تُنسي بأن دريز فان نوتن ترك الدار، وبين أخرى دمج فيها الكلاسيكي بالرياضي تُذكر بأن فصلاً جديداً بدأ يُكتب بهدوء. فالمصمم الجديد اجتهد في وضع لمسات تترجم رؤية خاصة به. كل ما في الأمر أنها لا تزال خجولة بعض الشيء.

من عرض «دريز فان نوتن» الذي أبدعه جوليان كلوسنر (أ.ب)

في لقاء جانبي له، شرح كلاوسنر رؤيته قائلاً: «أردت أن أطلق العنان لخيالي قليلاً، بأن أجعل بعض القطع أكثر قوة وتأثيراً، لكن كان لدي دائماً ما يُذكِرني أن الأمر يتعلق بخزانة متكاملة يجب أن تضم قطعاً تناسب حياة المرأة في الواقع، وهذا يعني أنها يجب أن تكون مرنة».

اختيار «أوبرا غارنييه» مسرحاً لعرضه، لم يكن فقط ملائماً لتشكيلة غنية بالتفاصيل. كان يشي بالعهد الجديد، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن عروض الدار كانت تقام سابقاً في أماكن أكثر وظيفية ذات أرضيات أسمنتية. طبعاً لا يمكن أن نتجاهل أنه يعكس أيضاً شغف المصمم الجديد بالمسرح، وهو ما ظهر حيناً في أقمشة تستحضر ستائر المسارح وحيناً آخر في شراشيب زينت جاكيتات بوليرو وأكمام فساتين. لكن هل كانت التصاميم مسرحية؟ أبداً. كل ما فيها كان واقعياً حتى في أقصى حالاته الفنية.

أقمشة متنوعة في الإطلالة الواحدة مع نقشات متضاربة في عرض «دريز فان نوتن» (أ.ب)

إذا كان لا بد من المقارنة بين جوليان وبيرتون وأكرمان، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن أنه أفضل حظاً منهما، لأنه تسلم الدار من دريز فان نوتن، وهي في وضع جيد. فتقاعُد دريز وهو في عز تألقه، كان باختياره لكي يعيش «حياة ويمارس هوايات أجَّلَها طويلاً بسبب استنزاف العمل لوقتي وجهدي» وفق تصريح سابق له، وبالتالي لم يكن مفروضاً على جوليان أن يعود إلى منتصف القرن الماضي لرسم بداية جديدة كما هو الحال بالنسبة لسارة بيرتون، ولا أن يصحح ما خلَفه مصممون سبقوه على الدار من آثار لم تحقق المطلوب كما هو الحال بالنسبة لأكرمان.

تضارب الألوان والنقشات في تشكيلة «دريز فان نوتن» الذي أبدعه جوليان كلوسنر (أ.ب)

من جهة أخرى، يمكن أن نرى أن مهمة جوليان التي تبدو أسهل ولا تتطلب منه سوى ضمان استمرارية ما بناه سلفه، هي في الحقيقة صعبة، لا سيما في حال لم يُتقن توجيه الدفة في الاتجاه الصحيح، ومن ثم الإخلال بالتوازن العجيب الذي خلقه دريز فان نوتن وأغوى به عالم الموضة.