لا تزال مدينة مروي الأثرية، شمال السودان، تحتل واجهة الأحداث وشاشات التلفزة وأجهزة البث المرئي والمسموع والمكتوب، منذ قرابة الأسبوع، بسبب استيلاء قوات «الدعم السريع» على مطارها والقاعد الجوية الموجودة هناك، وبسبب ما شهدته المنطقة الوادعة من عمليات قتالية مستمرة، يتصدر مشهدها اليوم طرف، ليستعيده الطرف الثاني في اليوم الذي يليه.
وتُعد مروي التي يجري فيها الصراع، إحدى أهم المناطق الأثرية في البلاد، ويرجع تاريخها إلى «مملكة كوش» وعاصمتها الجنوبية، وتقع على الضفة الشرقية لنهر النيل، وتبعد نحو 350 كيلومتراً عن الخرطوم، وتقع فيها أهم المواقع الأثرية للحضارة المروية، مثل البجراوية، والنقعة والمصورات، وتضم أكثر من 200 هرم كوشي، ويرجع تاريخ تأسيسها إلى 8 قرون قبل الميلاد، ما جعلها أحد أهم المزارات السياحية في البلاد.
واستعادت المدينة الشهيرة المنسية شهرتها، ونفضت عنها النسيان، مع إنشاء «سد مروي» الكهرومائي، ويقع عند جزيرة مروي التي أخذ منها اسمه، ويبلغ طوله نحو 9 كيلومترات بارتفاع 67 متراً، إلى جانب مشاريع رافقت إنشاءه، مثل الطرق والجسور والسكك الحديدية، وكذلك تحديث المطار القديم وتحويله إلى مطار دولي.
وفي التاريخ، فقد امتدت سلطة المملكة المروية بين 800 عام قبل الميلاد وعام 350 ميلادياً، وكان يُطلق عليها اسم «ميدوي»، وكشفت أبحاث آثارية مدافن ملكية كوشية ترجع إلى نحو 8 قرون قبل الميلاد. ويعد الملك الكوشي «أركماني» (280 قبل الميلاد)، أحد أشهر ملوك كوشي الذي أسهم في نشرة الثقافة المروية.
ومعابد الإله آمون، ومعبد إيزيس، والأضرحة الملوكية، تعد من أثمن المقتنيات الآثارية المروية، وهي تكشف عن مملكة تاريخية غنية، بلغت شأواً بعيداً في التطور، واشتهرت بصناعة الحديد، ما جعل المؤرخين يطلقون عليها لقب «بيرمنغهام أفريقيا». وإلى جانب شهرتها بصناعة الحديد، كانت مملكة مروي تصنع المنسوجات القطنية والمجوهرات والحلي الذهبية، وتتاجر بالحيوانات النادرة، واستخدمت نظام ري أكثر تطوراً من أنظمة الري في ذلك الوقت، وهو «الري الفيضي» من النيل.
واشتهرت مروي بأنها أرض الملكات، لما كانت تلعبه الملكة الأم، أو «الكنداكة»، من دور محوري في التاريخ المروي. واستطاعت نساء مروي انتزاع مكان خاص لهن، لذلك تسمت الثوريات السودانيات إبان الثورة الشعبية بـ«الكنداكات»، تيمناً بالملكات المرويات أو الكوشيات.
ولم يتوقف تطور مروي في الجوانب المادية وحدها، بل امتد إلى الجوانب الروحية؛ فقد عبد المرويون إلهاً خاصا هو «أبا داماك»، أو الإله الأسد، إلى جانب الآلهة الفرعونية التي كانت تُعبد بدرجة أقل، مثل آمون، وحورس، وإيزيس، واستطاعوا تطوير أبجدية كتابة شهيرة هي «اللغة المروية»، التي لا تزال عملية فك رموزها عصية على علماء الآثار واللغات القديمة.
واكتسبت مروي أهمية مضافة بإنشاء «مطـار مروي الدولي» باعتباره أحد أكبر المشاريع المرافقة لإنشاء «سد مروي»، على بُعد كيلومترين من المطار القديم، ويطل على طريق شريان الشمال الرابط بين مروي وجسم السد، ويُعتبر من المطارات الحديثة في السودان، وميناء جوياً يربط بين دول أفريقيا والخليج وأوروبا، ويزود الطائرات بالوقود ويساهم في إنعاش السياحة بالسودان. وقد صُمم بمواصفات هبوط وإقلاع للطائرات الضخمة.
وبدأت الدراسات الأولية للمشروع سنة 1993. وتم تصميمه على أحدث نظم التكنولوجيا العالمية. ويبلغ طول مهبط الطائرات قرابة 4 كيلومترات، وعرضه 60 متراً. والمساحة الكلية للمطار تبلغ 18 كيلومتراً مربعاً، بطول 6 كلم وعرض 3 كلم.
ويضم المطار ما يُعرف بـ«القاعدة» العسكرية الجوية، التي تشرف دفاعاتها الجوية على كل أنحاء السودان، وتُعتبر نقطة تمركز بديلة للقوات الجوية السودانية، وشهدت تدريبات مشتركة ومناورات جوية بين الجيشين السوداني والمصري في مارس (آذار) 2021. وعدها المراقبون وقتها رسالة إلى إثيوبيا بسبب الخلافات بشأن سد النهضة. وبعد التدريب، تمركزت القوات المصرية داخل القاعدة، ودعمت بقوات إضافية هذا العام، بحسب اتفاق سري بين جيشي البلدين، لتكون القاعدة العسكرية «مصرية - سودانية».
في 15 أبريل (نيسان) الحالي، أصبحت مفردة «مروي» هي الأكثر تداولاً في وسائل الإعلام المحلية والدولية، بعد اندلاع اشتباكات بين القوات الجوية السودانية وقوات «الدعم السريع»، وسيطرة قوات «الدعم السريع» على المطار الاستراتيجي والقاعدة الجوية داخله، وأسر عدد من العسكريين المصريين الموجودين هناك، وهو ما اعترفت به قيادة الجيش المصري، وقالت إن المقاتلين الأسرى كانوا في تدريبات مشتركة مع الجيش السوداني، وإن التنسيق يجري لضمان تأمين القوة المصرية وحفظ سلامتها.
منذ ذلك التاريخ، تشهد منطقة مطار مروي والقاعدة الجوية عمليات قتال وتبادل السيطرة على القاعدة الجوية؛ فقد سيطر عليها «الدعم السريع»، ثم استردتها القوات المسلحة، ثم عادت لـ«الدعم السريع». وتقول آخر التقارير الصادرة عن الجيش إن الأسرى المصريين نُقلوا للخرطوم، وإن الجيش استعاد المطار والقاعدة الجوية مجدداً.