أصابعُ عمياءُ

أصابعُ عمياءُ
TT

أصابعُ عمياءُ

أصابعُ عمياءُ

زرت عمتي (ثمينة) في بيتها وكان الوقت ظهراً وهي منهمكة في طبخ فطورها. سألتني عن صحة أمي، وهل سمح لها الطبيب بالصيام. أخبرتها أنها تلازم الفراش منذ انتهت العمليّة الجراحيّة في ظهرها بالفشل. قالت عمّتي:
«أصلّي في كلّ وقت وأدعو لها بالشفاء».
البيت فيه غرفة واحدة فقط تستعملها عمتي للنوم والمعيشة، لذلك فهي تطبخ في باحة البيت. مسحة من الفقر الرصين هنا، حيث الطمأنينة البيتية تسجّل حضورها بقوة. ثم انطفأ التيار الكهربائي وتوقّفت المروحة عن الدوران، وصار الحَرّ يتغلغل في أعماقي وأنا جالس على الأريكة. ثمة ألم في عيني وصدري وأخذت الأرض الملتهبة تنفث زفيرها مع الجدران ومع المجاري الطافحة وكلّ شيء هنا يملأني بالغيظ حتى كدت أنفجر. لقد سلبتني قساوة الظهيرة مع الظمأ الشديد وفساد الهواء كل ما يمكنني احتماله. ثم حكيت لعمّتي عن مشروع هجرتي إلى ألمانيا. التمع في عينيها شيء يشبه الدهشة، ومسحتْ بصدر دشداشتها وجهها المبلّل بالعرق. قالت بغضب:
«أنتم الشباب كأنما أصابكم العمى. ما الذي تفعله في البلاد الغريبة وأهلك هنا وتراب أبيك وأجدادك؟».
وجه عمّتي يفضح حبّها لي رغم انفعالها. أخبرتها عن عقد العمل الذي يمنحني عطلة شهر تقريباً أزور فيه بلدي كلّ عام. الحرّ الشديد جعل عتبها علي يبدو ميتاً. قلتُ:
«لست طفلاً يا عمتي».
«أنتم الشباب جميعاً بلا عقل وتشبهون الأطفال، لا تعرفون ما يضرّكم وما ينفعكم».
كان صوتها منهكاً بسبب الصّيام، ونظراتها مشدودة إلى الحائط. تابعتْ:
«الله سبحانه وتعالى خلقنا بأتمّ صورة، وأكمل ما في هذه الصورة العينان اللتان في القلب. إيّاك أن تكون أعمى القلب».
ثم عادت المروحة إلى العمل، وأخذت تثير هواءً ساخناً يشبه رياح السموم. عمتي تعمل وتلهث بسبب الحرّ، وبسبب هذا الخبر الغريب الذي سمعته مني. خِلتُها تختضّ في أعماقها:
«لا أريد لأبيك أن يغضب عليك. ألا تريده أن يرقد مرتاحاً في القبر؟».
«لا أريد إغضاب أبي».
كانت يدي تؤشر أثناء كلامي، كأنها تؤكد حيرتي في كيفية إقناع العجوز بموضوع هجرتي. شمس الهاجرة شديدة وعمتي تتحرك في مكانها الضيّق، ثوبها الغامق اللون مبلّل بالعرق وملوّث بغبار أبيضَ في بعض جوانبه. أضافت البصل المفروم إلى القِدْر، وقلّلت نار الموقد، ثم تلمسّت بأصابعَ عمياءَ قنانِي صغيرة مصفوفة على طاولة الموقد. تناولت إحداها، ونثرت منها مسحوقاً أبيضَ داخل القِدر. عيناها تنظران إلى لا شيء.
«عمّتي، هل صرتِ كفيفة؟».
«بل إنني أنظر مثل من يرى خلال الضّباب».
قالت، وقد رقّ صوتها، ثم سألتني عن موعد مغادرتي، وبدأ الحرّ يقسو علي أكثر والعرق يسيل مني بغزارة. أشعر الآن بحزن خفيف يمرّ في نفسي ولم أستطع التغلّب عليه. حي السراي حيث تسكن عمّتي لم يكن في السّابق بهذه القذارة، ورائحة المجاري الطّافحة تكاد تلتصق بكل موجودات البيت والزّقاق والحي كلّه. هل يمكن إجراء مقارنة بين هذه الزاوية البائسة من العالم، والمدن الحديثة التي نراها في الأفلام مثل عجائب الدنيا، ناطحات سحاب، طرق معبّدة وحدائق ساحرة، بينما يموت الناس هنا وهم أحياء في بيوت مهدّمة وشوارع غارقة في أقذار تمتصّها الأرض.
«علينا أن نكون ممتنّين للنّعمة التي أنعم بها الله علينا سبحانه وتعالى، إننا نعيش في بلدنا».
قالت العجوز، وأنا أبذل ما بوسعي لالتقاط معنى كلامها، بينما كانت أنظارها تخترق الضّباب، وصوتها مُشبَع بإصرار شديد:
«أريدك أن تكون شاكراً هذه النّعمةَ».
«لكنني سأعود حتماً. لا تقلقي يا عمتي، أرجوك».
لم تستطع منع نفسها من العودة إلى اللّوم، في صوتها ذي النّبرة الحنونة:
«وهل سيهون عليك فراق بلدك؟».
صوتها حلو، مؤثر وغير حازم في الوقت ذاته. ها هي تجلس قربي على الأريكة وقد أتمّت الطّبخ، تسبّح وعيناها نديّتان بالدّعاء، مستغرقة في تمتمتها الخافتة وتحديقها بإصرار في حائط المطبخ. كانت تجسّني بقلبها وتتنفّس بعمق. لغة خفيّة سادتْ بيننا كنا نسمعها معاً، ونحن صامتَين. لغة تتجاوز حدود الكلام. ما هي هذه اللّغة، وكيف تكون طبيعتها؟ لا أعرف، لكني متأكد أنه ليس ثمة شكل لحروفها. ثم قامت العجوز ودخلت غرفتها، وسمعتها تكلمني من الداخل كأنها تصيح من قعر بئر:
«لا ينسيك العمل هناك صلاتك وصومك. أنت صائم، أليس كذلك؟».
أجبتُ بـ«نعم» كاذبة أثقلتُها بالفخر والكبرياء الزّائفة وقد تيبّس شعري بفعل الحرّ، كذلك وجهي ويدي. عادت تحمل مصحفاً ملفوفاً بقماش مخمليّ. قبّلتْه، وقالت بنبرة مستنفذة بسبب الصّهد:
«كلام الله الذي سوف يحرسك من كلّ شرّ».
كنت أتطلّع إلى عينيها وأفكّر في طبيعة نفسها العجيبة. هل يُعقل أنها صائمة وسْط هذا اللّهب، في هذا الجحيم الذي يقذف بما فيه باستمرار؟ منذ أوّل الفجر الحارّ البعيد وإلى الآن لم تدخل جوفها قطرة ماء واحدة، ولم تأكل، بينما أكاد أموت من العطش رغم قناني الماء والعصائر والمثلّجات العديدة التي تناولتها قبل المجيء إلى بيتها.
«ليكن قلبك عامراً بالإيمان، في اللّيل والنهار، لا تنسَ ذكر الله».
راحت عمّتي تكرّر على مسامعي مثل هذا الكلام، وكانت نار الموقد تئزّ وتتبارى مع الشّمس في شدّة الحرارة. من يستطيع أن يعيش دقيقة أخرى في هذا الجحيم، جهنّم على الأرض؟ كنت أشعر بجوع قاسٍ وجوفي يابس من شدّة العطش. طمأنت عمّتي في الأخير بكلام غامض، ثم قمت مودّعاً والأسى الذي ينشره المكان قادني مع وجهها المختنق من الحرّ إلى الخارج.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

وزير الثقافة السعودي يلتقي مبتعثي «صناعة المانجا» في اليابان

وزير الثقافة السعودي مع عدد من الطلاب المبتعثين وقيادات هيئة الأدب والنشر والترجمة وشركة «مانجا للإنتاج» (واس)
وزير الثقافة السعودي مع عدد من الطلاب المبتعثين وقيادات هيئة الأدب والنشر والترجمة وشركة «مانجا للإنتاج» (واس)
TT

وزير الثقافة السعودي يلتقي مبتعثي «صناعة المانجا» في اليابان

وزير الثقافة السعودي مع عدد من الطلاب المبتعثين وقيادات هيئة الأدب والنشر والترجمة وشركة «مانجا للإنتاج» (واس)
وزير الثقافة السعودي مع عدد من الطلاب المبتعثين وقيادات هيئة الأدب والنشر والترجمة وشركة «مانجا للإنتاج» (واس)

حث الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، وزير الثقافة السعودي رئيس مجلس إدارة هيئة الأدب والنشر والترجمة، السبت، الطلاب المبتعثين في برنامج أسس صناعة القصص المصورة «المانجا» في اليابان، على أهمية التأهيل العلمي والأكاديمي في التخصصات الثقافية للإسهام بعد تخرجهم في رحلة تطوير المنظومة الثقافية في بلادهم.

وأكد الأمير بدر بن عبد الله، خلال لقائه عدداً من الطلاب المبتعثين في مقر إقامته في طوكيو، دعم القيادة السعودية لكل ما من شأنه تنمية القدرات البشرية في المجالات كافة.

ويُقام البرنامج التدريبي بالتعاون بين هيئة الأدب والنشر والترجمة، وشركة «مانجا للإنتاج»، التابعة لمؤسسة محمد بن سلمان «مسك»، الذي يستهدف موهوبي فن المانجا ضمن برنامج تدريبي احترافي باستخدام التقنيات اليابانية؛ منبع هذا الفن.

حضر اللقاء الدكتور محمد علوان الرئيس التنفيذي لهيئة الأدب والنشر والترجمة، والدكتور عصام بخاري الرئيس التنفيذي لشركة «مانجا للإنتاج»، وعددٌ من الطلاب والطالبات المبتعثين لدراسة فن المانجا في أكاديمية كادوكاوا، إحدى أكبر الأكاديميات في اليابان، التي تهتم بتدريب واستقطاب الخبرات والمهتمين بصناعة القصص المصورة.

يشار إلى أن البرنامج التدريبي يتضمن 3 مراحل رئيسية، بدءاً من ورش العمل الافتراضية التي تقدم نظرةً عامة حول مراحل صناعة القصص المصورة، تليها مرحلة البرنامج التدريبي المكثّف، ومن ثم ابتعاث المتدربين إلى اليابان للالتحاق بأكاديمية كادوكاوا الرائدة في مجال صناعة المانجا عالمياً.

كما تم ضمن البرنامج إطلاق عدد من المسابقات المتعلقة بفن المانجا، وهي مسابقة «منجنها» لتحويل الأمثلة العربية إلى مانجا، ومسابقة «مانجا القصيد» لتحويل القصائد العربية إلى مانجا، ومؤخراً بالتزامن مع عام الإبل 2024 أُطلقت مسابقة «مانجا الإبل» للتعبير عن أصالة ورمزية الإبل في الثقافة السعودية بفن المانجا.

وتجاوز عدد المستفيدين من البرنامج 1850 متدرباً ومتدربة في الورش الافتراضية، وتأهل منهم 115 للبرنامج التدريبي المكثّف، أنتجوا 115 قصة مصورة، وابتُعث 21 متدرباً ومتدربة إلى اليابان؛ لصقل مواهبهم على أيدي خُبراء في هذا الفن، إضافة إلى استقبال 133 مشاركة في مسابقة «منجنها»، وما يزيد على 70 مشاركة في مسابقة «مانجا القصيد»، وأكثر من 50 مشاركة في «مانجا الإبل».

يذكر أن هيئة الأدب والنشر والترجمة تقدم برنامج أسس صناعة القصص المصورة «المانجا» بالتعاون مع شركة «مانجا للإنتاج»، بهدف تأسيس جيل مهتم بمجال صناعة المانجا، وصقل مهارات الموهوبين، ودعم بيئة المحتوى الإبداعي في المملكة.