الباغوز لنفض «غبار الحرب» بعد 4 سنوات على هزيمة «داعش»

«الشرق الأوسط» تزور البلدة التي دمرتها معركة طرد التنظيم من آخر معاقله في سوريا

امرأة وابنها يمران بحطام سيارات دمرت أثناء المعركة الأخيرة لـ«داعش» في الباغوز قبل إعلان هزيمته مارس 2019 (الشرق الأوسط)
امرأة وابنها يمران بحطام سيارات دمرت أثناء المعركة الأخيرة لـ«داعش» في الباغوز قبل إعلان هزيمته مارس 2019 (الشرق الأوسط)
TT

الباغوز لنفض «غبار الحرب» بعد 4 سنوات على هزيمة «داعش»

امرأة وابنها يمران بحطام سيارات دمرت أثناء المعركة الأخيرة لـ«داعش» في الباغوز قبل إعلان هزيمته مارس 2019 (الشرق الأوسط)
امرأة وابنها يمران بحطام سيارات دمرت أثناء المعركة الأخيرة لـ«داعش» في الباغوز قبل إعلان هزيمته مارس 2019 (الشرق الأوسط)

في مثل هذه الأيام من عام 2019 شهدت بلدة الباغوز، بريف دير الزور في شرق سوريا، واحدة من أعنف المعارك للقضاء على «تنظيم داعش» في آخر مناطق سيطرته، جغرافياً وعسكرياً، في سوريا. انتهت المعارك باستسلام عناصر التنظيم الذين قاتلوا حتى الرمق الأخير. نُقلوا إلى مقرات احتجاز تديرها «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، تحت إشراف قوات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية. بالإضافة إلى المقاتلين، نقلت قوات «قسد» التي يشكل الأكراد عمادها الأساسي، مئات من أفراد أسر التنظيم إلى مخيمات تُشرف عليها في شمال شرقي سوريا. في ذكرى هزيمة «داعش»، زارت «الشرق الأوسط» بلدة الباغوز التي ما زالت تحاول نفض غبار المعركة عنها، وكذلك مخيم الهول في الحسكة، وجاءت بهذا التحقيق:
في الطريق الرئيسية المؤدية إلى بلدة الباغوز فوقاني، بريف دير الزور، لا تزال آثار المعارك ظاهرة بوضوح في كل مكان، رغم مرور 4 سنوات على انتهائها. مبانٍ مدمرة. هياكل سيارات متفحمة. بقايا صواريخ تركت آثارها من خلال فجوات كبيرة بالأرض. أما الجسر الذي يوصل هذه البلدة بناحية البوكمال المجاورة، فلم يعد صالحاً للمرور نتيجة الدمار الذي لحق به، نتيجة المعارك في هذه المنطقة التي تقاسمتها جهات سورية متحاربة.
عند التجول في شوارع البلدة تتكرر مظاهر الدمار الذي حلّ بها جراء المعارك العنيفة التي شهدتها في بدايات عام 2019، كما يُلاحظ على الجدران وجود بعض من كتابات «تنظيم داعش» التي تذكّر أهل الباغوز بحقبة حكمه البالغة التشدد. كذلك يمكن رؤية قسم من المنازل والمحال التجارية التي أصبحت أثراً بعد عين، إذ لم يتبق منها سوى جبال من الركام، أما التي نجت من شدة القصف فلم تسلم أبوابها ونوافذها من شدة الانفجارات التي دمرت المناطق المحيطة بها.

مخلفات تحصد أرواح الأبرياء

في مخيم القرية الذي يقع بالجهة الشرقية قرب تلتها الاستراتيجية، والذي تحول آنذاك لآخر نقطة تجمع لعناصر «تنظيم داعش» وعائلاته، تأتي سُميّة ذات الأربعة عقود بصحبة أصغر أبنائها بشكل شبه يومي، وتجهش بالبكاء وهي تقف قرب مقبرة هياكل سيارات صدئة كانت تعود لمقاتلي التنظيم. تروي هذه السيدة التي كانت ترتدي عباءة وغطاء رأس أسود اللون، كيف فقدت ابنتها العنود ذات الـ13 ربيعاً، بعد انفجار قنبلة يدوية قرب الطريق الفرعية التي تربط تلة الباغوز بالقرية. تقول لـ«الشرق الأوسط»: «ماتت بنتي الصغيرة، قبل 3 شهور، بلغم كان مزروعاً بالقرب من هذه الطريق... لن أنسى ملامح وجهها وفستانها الملوّن وضحكتها التي لا تفارقني للحظة. سرقت هذه الحرب فلذة قلبي».
ويقول سكان ومسؤولون في الإدارة المدنية إن كثيراً من الأهالي الذين عادوا إلى ممتلكاتهم ومنازلهم بعد انتهاء معركة الباغوز، أصيبوا أو قتلوا جراء انفجار ذخائر ومخلفات زرعها عناصر التنظيم بكثافة، لمنع السكان من الهرب والفرار بعد اقتراب المعركة الحاسمة من هذه البلدة على ضفاف نهر الفرات. وبحسب إحصاءات رسمية، مات 35 شخصاً نتيجة مخلفات الحرب، في وقت بلغت فيه حالات البتر والعاهات الدائمة حتى اليوم نحو 70 حالة. وتُعد هذه الأرقام كبيرة مقارنة مع بلدة لا يتجاوز عدد سكانها اليوم 8 آلاف نسمة فقط.
والباغوز عبارة عن بلدة سورية صغيرة المساحة تتبع ناحية السوسة إدارياً، تقع في الريف الشرقي لمحافظة دير الزور في حوض نهر الفرات شمالاً بمنطقة البوكمال. وبلغ عدد سكانها نحو 11 ألف نسمة، حسب إحصاء سنة 2004.
تحوّلت أرض المخيم لمكب ومقبرة ضمت عدداً كبيراً من هياكل سيارات معطلة أو متفحمة ودراجات نارية، إلى جانب شبكة أنفاق وسواتر ترابية عالية للحماية من الصواريخ وقذائف الهاون وشظايا القصف. يقول فيصل (33 سنة) إن الباغوز تحولت إلى «منطقة عسكرية» منذ بداية سنة 2018، ولم تتعافَ من الحرب حتى اليوم. نزح فيصل من الباغوز برفقة عائلته لأكثر من عام قاصداً المناطق المجاورة شمالاً التي تسيطر عليها قوات «قسد» وعاد إليها في صيف 2019 بعد شهور من انتهاء المعركة ضد «داعش». ويؤكد في حديثه مع «الشرق الأوسط» أن بعض أهالي القرية كانوا قبل الحرب أصحاء لا يعانون الأمراض «أما اليوم فتراهم يمشون من دون أعضاء نتيجة بتر ساق أو يد... ترى بعضهم يتنقل على كرسي متحرك. كل ذلك نتيجة للحروب التي دارت في المنطقة. هذه الصور تذكّرنا بأن الحرب التي دارت في الباغوز ليست كغيرها من الحروب». وكحال غيره من أبناء البلدة، لم يخفِ فيصل خشيته من عودة خلايا التنظيم المنتشرة في منطقة متشابكة عسكرياً، موضحاً: «عشنا مشاعر الخوف لا سيما خلال الفترة الأولى، بسبب جرائم نفذتها خلايا نائمة موالية للتنظيم، نخشى منها ومن القوات النظامية والميليشيات الإيرانية؛ لأن هذه الجهات منتشرة بالفعل في محيط الباغوز».
وهذا الخوف مرده عمليات الذبح والقتل الوحشية التي اتبعها عناصر التنظيم خلال حكمهم لمناطق سيطرتهم في شرق سوريا وشمالها. ويتذكر كثير من السكان مشاهد القتل الجماعي للمئات من أفراد عشيرة الشعيطات نهاية 2014، ولجوء «داعش» إلى بثّ الرعب من خلال نشر صور ومقاطع فيديو مروعة، مثل حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، وتعليق رؤوس جثث عشرات الجنود السوريين - وهم أشباه عراة - بعدما أُسِروا في مطار الطبقة العسكري، وتصفية عشرات المواطنين بما في ذلك أجانب من صحافيين وعاملين في منظمات إنسانية إغاثية.

عودة الحياة والأشجار المثمرة

في كثير من أحياء الباغوز وأزقتها يمكن رصد بدء أعمال إعادة إعمار البلدة التي يحاول سكانها نفض غبار الحرب عن منطقتهم، إذ تجد كثيراً من الأهالي منهمكين في إزالة جبال الركام وإعمار منازلهم ومحالهم التجارية بإصرار وعزيمة، كما يسعى السكان إلى إعادة عجلة الحياة إلى بلدتهم التي أنهكتها المعارك، لكن الباغوز قد لا تعود إلى وضعها السابق إلا بعد سنوات.
يقول شعبان (54 سنة) الذي يمتلك بستاناً زراعياً تبلغ مساحته 10 دونمات، وكان مزروعاً بأشجار الرمّان لكنها حرقت ودمرت نتيجة المعارك: «كان بستاني يضم 500 شجرة رمّان؛ لكن هذه الأشجار احترقت كلها ولم يتبق منها سوى بقايا جذور محترقة... منزلي أيضاً تعرض للدمار واحترق أثاثه، ونحاول بناء ما يمكن بناؤه». ويؤكد أنهم يحتاجون لسنوات أخرى للتعافي من الحرب، مشيراً إلى أن تربة الباغوز باتت شبه محترقة و«لم تعد صالحة للزراعة... لا لزراعة الأشجار، ولا لزراعة المحاصيل الموسمية. هذه كارثة إنسانية بكل المقاييس».
وتعاقبت جهات عسكرية عدة على حكم الباغوز منذ ربيع 2011 عندما اندلعت الثورة ضد الحكم السوري. في بداية عام 2013 خرجت البلدة عن سيطرة النظام وصارت خاضعة لسيطرة فصائل مما يُعرف بـ«الجيش السوري الحر»، قبل أن تخضع لـ«جبهة النصرة» التي باتت اليوم «هيئة تحرير الشام». في منتصف عام 2014، انتقلت السيطرة على الباغوز إلى أيدي «تنظيم داعش»، واستمرت كذلك حتى بداية فبراير (شباط) 2019 عندما شنت «قوات سوريا الديمقراطية»، بدعم من التحالف الدولي بقيادة أميركية، هجوماً واسعاً تمكنت خلاله من القضاء على سيطرة التنظيم الجغرافية والعسكرية في مارس (آذار).
يقول حواس سدير الجاسم، أحد وجهاء الباغوز، إن عشائر المنطقة طالبت مسؤولي التحالف الدولي خلال لقاءات مباشرة، وكذلك الإدارة الذاتية والمنظمات الدولية المعنية، بالعمل على إزالة مخلّفات الحرب ومساعدة الأهالي للتعافي منها. ويضيف، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، أن الباغوز «دفعت أكبر فاتورة في الحرب ضد (تنظيم داعش) الإرهابي، كونها كانت آخر معاقله الجغرافية التي تحصن بها مقاتلوه».
ويؤكد سدير الجاسم أن إحصاءات رسمية وثّقتها لجان محلية مختصة تحت إشراف خبراء تفيد بأن حجم الأضرار ضخم جداً في المباني السكنية والبنية التحتية والأشجار المثمرة والأراضي الزراعية. ويوضح أن الأضرار تتوزع على الشكل الآتي: «عدد المنازل السكنية المدمرة حسب أسماء أصحابها 1450 منزلاً، 80 في المائة منها سويت بالأرض، و20 في المائة لحقت بها أضرار متفاوتة بين دمار جزئي وحريق». ويتابع بأن أعداد الأشجار المثمرة المتضررة بلغت نحو سبعة ملايين شجرة من النخيل والحمضيات والزيتون، «أما الرمان فقد احترق أو جفّ منه 650 ألف شجرة جراء الحرب». ويزيد قائلاً إن النيران طالت 5 مدارس تعليمية بقي منها «مدرستان فقط هما بحالة مقبولة لاستقبال التلاميذ» بعد القيام بأعمال ترميم فيهما. ويشير أيضاً إلى تضرر البنية التحتية والطرق الرئيسية وشبكات المياه والصرف الصحي، ومعظم المحال التجارية.
الشيخ سدير، كغيره من سكان المنطقة، بقي في بلدته خلال سنوات حكم التنظيم المتشدد وحتى خروج جميع سكانها هرباً من العمليات العسكرية، قبل أن يعود إليها في أبريل (نيسان) 2019. يستذكر سدير الصور الأولى التي شاهدها عقب عودته، قائلاً: «صُدمنا من مشاهد الحرب وأكوام الخراب والهياكل المتفحمة التي بقيت شاهدة على احتدام المعارك... بقينا أسابيع وشهوراً (في حالة صدمة). وحتى اليوم، يصعب علينا التعايش مع هذا الدمار ومع المقابر الجماعية» التي تنتشر في الباغوز ومحيطها.

شهادات ناجين من قبضة «داعش»

 5 مقابر جماعية في الباغوز

 فتية «سلاحهم» الحجارة والعصى للدفاع عن قسم «النساء المهاجرات» في الهول

مديرة مخيم الهول لـ «الشرق الأوسط» : تفكيكه يحتاج إلى سنوات... وهو الأخطر في العالم

 «لا شواهد» لقبور اللاجئين العراقيين


مقالات ذات صلة

أبو الغيط: لا أعلم إن كانت سوريا ستعود للجامعة

أبو الغيط: لا أعلم إن كانت سوريا ستعود للجامعة

أبو الغيط: لا أعلم إن كانت سوريا ستعود للجامعة

قال الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، إنَّه «لا يعلم ما إذا كانت سوريا ستعود إلى الجامعة العربية أم لا»، وإنَّه «لم يتسلَّم بصفته أميناً عاماً للجامعة أي خطابات تفيد بعقد اجتماع استثنائي لمناقشة الأمر».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شؤون إقليمية سوريا وإيران: اتفاق استراتيجي طويل الأمد

سوريا وإيران: اتفاق استراتيجي طويل الأمد

استهلَّ الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، أمس، زيارة لدمشق تدوم يومين بالإشادة بما وصفه «الانتصارات الكبيرة» التي حقَّقها حكم الرئيس بشار الأسد ضد معارضيه. وفي خطوة تكرّس التحالف التقليدي بين البلدين، وقّع رئيسي والأسد اتفاقاً «استراتيجياً» طويل الأمد. وزيارة رئيسي للعاصمة السورية هي الأولى لرئيس إيراني منذ عام 2010، عندما زارها الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد، قبل شهور من بدء احتجاجات شعبية ضد النظام. وقال رئيسي، خلال محادثات موسَّعة مع الأسد، إنَّه يبارك «الانتصارات الكبيرة التي حققتموها (سوريا) حكومة وشعباً»، مضيفاً: «حقَّقتم الانتصار رغم التهديدات والعقوبات التي فرضت ضدكم».

«الشرق الأوسط» (دمشق)
العالم العربي أنقرة تستبق «رباعي موسكو» بمطالبة دمشق بموقف واضح تجاه قضايا التطبيع

أنقرة تستبق «رباعي موسكو» بمطالبة دمشق بموقف واضح تجاه قضايا التطبيع

استبقت تركيا انعقاد الاجتماع الرباعي لوزراء خارجيتها وروسيا وإيران وسوريا في موسكو في 10 مايو (أيار) الحالي في إطار تطبيع مسار العلاقات مع دمشق، بمطالبتها نظام الرئيس بشار الأسد بإعلان موقف واضح من حزب «العمال الكردستاني» والتنظيمات التابعة له والعودة الطوعية للاجئين والمضي في العملية السياسية.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
العالم العربي درعا على موعد مع تسويات جديدة

درعا على موعد مع تسويات جديدة

أجرت اللجنة الأمنية التابعة للنظام السوري في محافظة درعا (جنوب سوريا) اجتماعات عدة خلال الأيام القليلة الماضية، آخرها أول من أمس (الأربعاء)، في مقر الفرقة التاسعة العسكرية بمدينة الصنمين بريف درعا الشمالي، حضرها وجهاء ومخاتير ومفاوضون من المناطق الخاضعة لاتفاق التسوية سابقاً وقادة من اللواء الثامن المدعوم من قاعدة حميميم الأميركية. مصدر مقرب من لجان التفاوض بريف درعا الغربي قال لـ«الشرق الأوسط»: «قبل أيام دعت اللجنة الأمنية التابعة للنظام السوري في محافظة درعا، ممثلةً بمسؤول جهاز الأمن العسكري في درعا، العميد لؤي العلي، ومحافظ درعا، لؤي خريطة، ومسؤول اللجنة الأمنية في درعا، اللواء مفيد حسن، عد

رياض الزين (درعا)
شمال افريقيا مشاورات مصرية مع 6 دول عربية بشأن سوريا والسودان

مشاورات مصرية مع 6 دول عربية بشأن سوريا والسودان

أجرى وزير الخارجية المصري سامح شكري اتصالات هاتفية مع نظرائه في 6 دول عربية؛ للإعداد للاجتماع الاستثنائي لوزراء الخارجية العرب بشأن سوريا والسودان، المقرر عقده، يوم الأحد المقبل. وقال المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية المصرية، السفير أحمد أبو زيد، في إفادة رسمية، الخميس، إن شكري أجرى اتصالات هاتفية، على مدار يومي الأربعاء والخميس، مع كل من وزير خارجية السودان علي الصادق، ووزير خارجية السعودية فيصل بن فرحان، ووزير خارجية العراق فؤاد محمد حسين، ووزير خارجية الجزائر أحمد عطاف، ووزير خارجية الأردن أيمن الصفدي، ووزير خارجية جيبوتي محمود علي يوسف. وأضاف أن «الاتصالات مع الوزراء العرب تأتي في إطار ا

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».