الباغوز لنفض «غبار الحرب» بعد 4 سنوات على هزيمة «داعش»

«الشرق الأوسط» تزور البلدة التي دمرتها معركة طرد التنظيم من آخر معاقله في سوريا

امرأة وابنها يمران بحطام سيارات دمرت أثناء المعركة الأخيرة لـ«داعش» في الباغوز قبل إعلان هزيمته مارس 2019 (الشرق الأوسط)
امرأة وابنها يمران بحطام سيارات دمرت أثناء المعركة الأخيرة لـ«داعش» في الباغوز قبل إعلان هزيمته مارس 2019 (الشرق الأوسط)
TT

الباغوز لنفض «غبار الحرب» بعد 4 سنوات على هزيمة «داعش»

امرأة وابنها يمران بحطام سيارات دمرت أثناء المعركة الأخيرة لـ«داعش» في الباغوز قبل إعلان هزيمته مارس 2019 (الشرق الأوسط)
امرأة وابنها يمران بحطام سيارات دمرت أثناء المعركة الأخيرة لـ«داعش» في الباغوز قبل إعلان هزيمته مارس 2019 (الشرق الأوسط)

في مثل هذه الأيام من عام 2019 شهدت بلدة الباغوز، بريف دير الزور في شرق سوريا، واحدة من أعنف المعارك للقضاء على «تنظيم داعش» في آخر مناطق سيطرته، جغرافياً وعسكرياً، في سوريا. انتهت المعارك باستسلام عناصر التنظيم الذين قاتلوا حتى الرمق الأخير. نُقلوا إلى مقرات احتجاز تديرها «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، تحت إشراف قوات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية. بالإضافة إلى المقاتلين، نقلت قوات «قسد» التي يشكل الأكراد عمادها الأساسي، مئات من أفراد أسر التنظيم إلى مخيمات تُشرف عليها في شمال شرقي سوريا. في ذكرى هزيمة «داعش»، زارت «الشرق الأوسط» بلدة الباغوز التي ما زالت تحاول نفض غبار المعركة عنها، وكذلك مخيم الهول في الحسكة، وجاءت بهذا التحقيق:
في الطريق الرئيسية المؤدية إلى بلدة الباغوز فوقاني، بريف دير الزور، لا تزال آثار المعارك ظاهرة بوضوح في كل مكان، رغم مرور 4 سنوات على انتهائها. مبانٍ مدمرة. هياكل سيارات متفحمة. بقايا صواريخ تركت آثارها من خلال فجوات كبيرة بالأرض. أما الجسر الذي يوصل هذه البلدة بناحية البوكمال المجاورة، فلم يعد صالحاً للمرور نتيجة الدمار الذي لحق به، نتيجة المعارك في هذه المنطقة التي تقاسمتها جهات سورية متحاربة.
عند التجول في شوارع البلدة تتكرر مظاهر الدمار الذي حلّ بها جراء المعارك العنيفة التي شهدتها في بدايات عام 2019، كما يُلاحظ على الجدران وجود بعض من كتابات «تنظيم داعش» التي تذكّر أهل الباغوز بحقبة حكمه البالغة التشدد. كذلك يمكن رؤية قسم من المنازل والمحال التجارية التي أصبحت أثراً بعد عين، إذ لم يتبق منها سوى جبال من الركام، أما التي نجت من شدة القصف فلم تسلم أبوابها ونوافذها من شدة الانفجارات التي دمرت المناطق المحيطة بها.

مخلفات تحصد أرواح الأبرياء

في مخيم القرية الذي يقع بالجهة الشرقية قرب تلتها الاستراتيجية، والذي تحول آنذاك لآخر نقطة تجمع لعناصر «تنظيم داعش» وعائلاته، تأتي سُميّة ذات الأربعة عقود بصحبة أصغر أبنائها بشكل شبه يومي، وتجهش بالبكاء وهي تقف قرب مقبرة هياكل سيارات صدئة كانت تعود لمقاتلي التنظيم. تروي هذه السيدة التي كانت ترتدي عباءة وغطاء رأس أسود اللون، كيف فقدت ابنتها العنود ذات الـ13 ربيعاً، بعد انفجار قنبلة يدوية قرب الطريق الفرعية التي تربط تلة الباغوز بالقرية. تقول لـ«الشرق الأوسط»: «ماتت بنتي الصغيرة، قبل 3 شهور، بلغم كان مزروعاً بالقرب من هذه الطريق... لن أنسى ملامح وجهها وفستانها الملوّن وضحكتها التي لا تفارقني للحظة. سرقت هذه الحرب فلذة قلبي».
ويقول سكان ومسؤولون في الإدارة المدنية إن كثيراً من الأهالي الذين عادوا إلى ممتلكاتهم ومنازلهم بعد انتهاء معركة الباغوز، أصيبوا أو قتلوا جراء انفجار ذخائر ومخلفات زرعها عناصر التنظيم بكثافة، لمنع السكان من الهرب والفرار بعد اقتراب المعركة الحاسمة من هذه البلدة على ضفاف نهر الفرات. وبحسب إحصاءات رسمية، مات 35 شخصاً نتيجة مخلفات الحرب، في وقت بلغت فيه حالات البتر والعاهات الدائمة حتى اليوم نحو 70 حالة. وتُعد هذه الأرقام كبيرة مقارنة مع بلدة لا يتجاوز عدد سكانها اليوم 8 آلاف نسمة فقط.
والباغوز عبارة عن بلدة سورية صغيرة المساحة تتبع ناحية السوسة إدارياً، تقع في الريف الشرقي لمحافظة دير الزور في حوض نهر الفرات شمالاً بمنطقة البوكمال. وبلغ عدد سكانها نحو 11 ألف نسمة، حسب إحصاء سنة 2004.
تحوّلت أرض المخيم لمكب ومقبرة ضمت عدداً كبيراً من هياكل سيارات معطلة أو متفحمة ودراجات نارية، إلى جانب شبكة أنفاق وسواتر ترابية عالية للحماية من الصواريخ وقذائف الهاون وشظايا القصف. يقول فيصل (33 سنة) إن الباغوز تحولت إلى «منطقة عسكرية» منذ بداية سنة 2018، ولم تتعافَ من الحرب حتى اليوم. نزح فيصل من الباغوز برفقة عائلته لأكثر من عام قاصداً المناطق المجاورة شمالاً التي تسيطر عليها قوات «قسد» وعاد إليها في صيف 2019 بعد شهور من انتهاء المعركة ضد «داعش». ويؤكد في حديثه مع «الشرق الأوسط» أن بعض أهالي القرية كانوا قبل الحرب أصحاء لا يعانون الأمراض «أما اليوم فتراهم يمشون من دون أعضاء نتيجة بتر ساق أو يد... ترى بعضهم يتنقل على كرسي متحرك. كل ذلك نتيجة للحروب التي دارت في المنطقة. هذه الصور تذكّرنا بأن الحرب التي دارت في الباغوز ليست كغيرها من الحروب». وكحال غيره من أبناء البلدة، لم يخفِ فيصل خشيته من عودة خلايا التنظيم المنتشرة في منطقة متشابكة عسكرياً، موضحاً: «عشنا مشاعر الخوف لا سيما خلال الفترة الأولى، بسبب جرائم نفذتها خلايا نائمة موالية للتنظيم، نخشى منها ومن القوات النظامية والميليشيات الإيرانية؛ لأن هذه الجهات منتشرة بالفعل في محيط الباغوز».
وهذا الخوف مرده عمليات الذبح والقتل الوحشية التي اتبعها عناصر التنظيم خلال حكمهم لمناطق سيطرتهم في شرق سوريا وشمالها. ويتذكر كثير من السكان مشاهد القتل الجماعي للمئات من أفراد عشيرة الشعيطات نهاية 2014، ولجوء «داعش» إلى بثّ الرعب من خلال نشر صور ومقاطع فيديو مروعة، مثل حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، وتعليق رؤوس جثث عشرات الجنود السوريين - وهم أشباه عراة - بعدما أُسِروا في مطار الطبقة العسكري، وتصفية عشرات المواطنين بما في ذلك أجانب من صحافيين وعاملين في منظمات إنسانية إغاثية.

عودة الحياة والأشجار المثمرة

في كثير من أحياء الباغوز وأزقتها يمكن رصد بدء أعمال إعادة إعمار البلدة التي يحاول سكانها نفض غبار الحرب عن منطقتهم، إذ تجد كثيراً من الأهالي منهمكين في إزالة جبال الركام وإعمار منازلهم ومحالهم التجارية بإصرار وعزيمة، كما يسعى السكان إلى إعادة عجلة الحياة إلى بلدتهم التي أنهكتها المعارك، لكن الباغوز قد لا تعود إلى وضعها السابق إلا بعد سنوات.
يقول شعبان (54 سنة) الذي يمتلك بستاناً زراعياً تبلغ مساحته 10 دونمات، وكان مزروعاً بأشجار الرمّان لكنها حرقت ودمرت نتيجة المعارك: «كان بستاني يضم 500 شجرة رمّان؛ لكن هذه الأشجار احترقت كلها ولم يتبق منها سوى بقايا جذور محترقة... منزلي أيضاً تعرض للدمار واحترق أثاثه، ونحاول بناء ما يمكن بناؤه». ويؤكد أنهم يحتاجون لسنوات أخرى للتعافي من الحرب، مشيراً إلى أن تربة الباغوز باتت شبه محترقة و«لم تعد صالحة للزراعة... لا لزراعة الأشجار، ولا لزراعة المحاصيل الموسمية. هذه كارثة إنسانية بكل المقاييس».
وتعاقبت جهات عسكرية عدة على حكم الباغوز منذ ربيع 2011 عندما اندلعت الثورة ضد الحكم السوري. في بداية عام 2013 خرجت البلدة عن سيطرة النظام وصارت خاضعة لسيطرة فصائل مما يُعرف بـ«الجيش السوري الحر»، قبل أن تخضع لـ«جبهة النصرة» التي باتت اليوم «هيئة تحرير الشام». في منتصف عام 2014، انتقلت السيطرة على الباغوز إلى أيدي «تنظيم داعش»، واستمرت كذلك حتى بداية فبراير (شباط) 2019 عندما شنت «قوات سوريا الديمقراطية»، بدعم من التحالف الدولي بقيادة أميركية، هجوماً واسعاً تمكنت خلاله من القضاء على سيطرة التنظيم الجغرافية والعسكرية في مارس (آذار).
يقول حواس سدير الجاسم، أحد وجهاء الباغوز، إن عشائر المنطقة طالبت مسؤولي التحالف الدولي خلال لقاءات مباشرة، وكذلك الإدارة الذاتية والمنظمات الدولية المعنية، بالعمل على إزالة مخلّفات الحرب ومساعدة الأهالي للتعافي منها. ويضيف، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، أن الباغوز «دفعت أكبر فاتورة في الحرب ضد (تنظيم داعش) الإرهابي، كونها كانت آخر معاقله الجغرافية التي تحصن بها مقاتلوه».
ويؤكد سدير الجاسم أن إحصاءات رسمية وثّقتها لجان محلية مختصة تحت إشراف خبراء تفيد بأن حجم الأضرار ضخم جداً في المباني السكنية والبنية التحتية والأشجار المثمرة والأراضي الزراعية. ويوضح أن الأضرار تتوزع على الشكل الآتي: «عدد المنازل السكنية المدمرة حسب أسماء أصحابها 1450 منزلاً، 80 في المائة منها سويت بالأرض، و20 في المائة لحقت بها أضرار متفاوتة بين دمار جزئي وحريق». ويتابع بأن أعداد الأشجار المثمرة المتضررة بلغت نحو سبعة ملايين شجرة من النخيل والحمضيات والزيتون، «أما الرمان فقد احترق أو جفّ منه 650 ألف شجرة جراء الحرب». ويزيد قائلاً إن النيران طالت 5 مدارس تعليمية بقي منها «مدرستان فقط هما بحالة مقبولة لاستقبال التلاميذ» بعد القيام بأعمال ترميم فيهما. ويشير أيضاً إلى تضرر البنية التحتية والطرق الرئيسية وشبكات المياه والصرف الصحي، ومعظم المحال التجارية.
الشيخ سدير، كغيره من سكان المنطقة، بقي في بلدته خلال سنوات حكم التنظيم المتشدد وحتى خروج جميع سكانها هرباً من العمليات العسكرية، قبل أن يعود إليها في أبريل (نيسان) 2019. يستذكر سدير الصور الأولى التي شاهدها عقب عودته، قائلاً: «صُدمنا من مشاهد الحرب وأكوام الخراب والهياكل المتفحمة التي بقيت شاهدة على احتدام المعارك... بقينا أسابيع وشهوراً (في حالة صدمة). وحتى اليوم، يصعب علينا التعايش مع هذا الدمار ومع المقابر الجماعية» التي تنتشر في الباغوز ومحيطها.

شهادات ناجين من قبضة «داعش»

 5 مقابر جماعية في الباغوز

 فتية «سلاحهم» الحجارة والعصى للدفاع عن قسم «النساء المهاجرات» في الهول

مديرة مخيم الهول لـ «الشرق الأوسط» : تفكيكه يحتاج إلى سنوات... وهو الأخطر في العالم

 «لا شواهد» لقبور اللاجئين العراقيين


مقالات ذات صلة

أبو الغيط: لا أعلم إن كانت سوريا ستعود للجامعة

أبو الغيط: لا أعلم إن كانت سوريا ستعود للجامعة

أبو الغيط: لا أعلم إن كانت سوريا ستعود للجامعة

قال الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، إنَّه «لا يعلم ما إذا كانت سوريا ستعود إلى الجامعة العربية أم لا»، وإنَّه «لم يتسلَّم بصفته أميناً عاماً للجامعة أي خطابات تفيد بعقد اجتماع استثنائي لمناقشة الأمر».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شؤون إقليمية سوريا وإيران: اتفاق استراتيجي طويل الأمد

سوريا وإيران: اتفاق استراتيجي طويل الأمد

استهلَّ الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، أمس، زيارة لدمشق تدوم يومين بالإشادة بما وصفه «الانتصارات الكبيرة» التي حقَّقها حكم الرئيس بشار الأسد ضد معارضيه. وفي خطوة تكرّس التحالف التقليدي بين البلدين، وقّع رئيسي والأسد اتفاقاً «استراتيجياً» طويل الأمد. وزيارة رئيسي للعاصمة السورية هي الأولى لرئيس إيراني منذ عام 2010، عندما زارها الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد، قبل شهور من بدء احتجاجات شعبية ضد النظام. وقال رئيسي، خلال محادثات موسَّعة مع الأسد، إنَّه يبارك «الانتصارات الكبيرة التي حققتموها (سوريا) حكومة وشعباً»، مضيفاً: «حقَّقتم الانتصار رغم التهديدات والعقوبات التي فرضت ضدكم».

«الشرق الأوسط» (دمشق)
العالم العربي أنقرة تستبق «رباعي موسكو» بمطالبة دمشق بموقف واضح تجاه قضايا التطبيع

أنقرة تستبق «رباعي موسكو» بمطالبة دمشق بموقف واضح تجاه قضايا التطبيع

استبقت تركيا انعقاد الاجتماع الرباعي لوزراء خارجيتها وروسيا وإيران وسوريا في موسكو في 10 مايو (أيار) الحالي في إطار تطبيع مسار العلاقات مع دمشق، بمطالبتها نظام الرئيس بشار الأسد بإعلان موقف واضح من حزب «العمال الكردستاني» والتنظيمات التابعة له والعودة الطوعية للاجئين والمضي في العملية السياسية.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
العالم العربي درعا على موعد مع تسويات جديدة

درعا على موعد مع تسويات جديدة

أجرت اللجنة الأمنية التابعة للنظام السوري في محافظة درعا (جنوب سوريا) اجتماعات عدة خلال الأيام القليلة الماضية، آخرها أول من أمس (الأربعاء)، في مقر الفرقة التاسعة العسكرية بمدينة الصنمين بريف درعا الشمالي، حضرها وجهاء ومخاتير ومفاوضون من المناطق الخاضعة لاتفاق التسوية سابقاً وقادة من اللواء الثامن المدعوم من قاعدة حميميم الأميركية. مصدر مقرب من لجان التفاوض بريف درعا الغربي قال لـ«الشرق الأوسط»: «قبل أيام دعت اللجنة الأمنية التابعة للنظام السوري في محافظة درعا، ممثلةً بمسؤول جهاز الأمن العسكري في درعا، العميد لؤي العلي، ومحافظ درعا، لؤي خريطة، ومسؤول اللجنة الأمنية في درعا، اللواء مفيد حسن، عد

رياض الزين (درعا)
شمال افريقيا مشاورات مصرية مع 6 دول عربية بشأن سوريا والسودان

مشاورات مصرية مع 6 دول عربية بشأن سوريا والسودان

أجرى وزير الخارجية المصري سامح شكري اتصالات هاتفية مع نظرائه في 6 دول عربية؛ للإعداد للاجتماع الاستثنائي لوزراء الخارجية العرب بشأن سوريا والسودان، المقرر عقده، يوم الأحد المقبل. وقال المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية المصرية، السفير أحمد أبو زيد، في إفادة رسمية، الخميس، إن شكري أجرى اتصالات هاتفية، على مدار يومي الأربعاء والخميس، مع كل من وزير خارجية السودان علي الصادق، ووزير خارجية السعودية فيصل بن فرحان، ووزير خارجية العراق فؤاد محمد حسين، ووزير خارجية الجزائر أحمد عطاف، ووزير خارجية الأردن أيمن الصفدي، ووزير خارجية جيبوتي محمود علي يوسف. وأضاف أن «الاتصالات مع الوزراء العرب تأتي في إطار ا

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
TT

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)

بعد عام على هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول)، تتخبط منطقة الشرق الأوسط في موجة تصعيد مستمر، من دون أي بوادر حلحلة في الأفق. فمن الواضح أن إسرائيل مصرة على الخيارات العسكرية التصعيدية، ضاربة بعرض الحائط كل المبادرات الدولية للتهدئة، ومن الواضح أيضاً أن الولايات المتحدة وإدارة الرئيس جو بايدن، إما عاجزتان عن التأثير على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وإما غير مستعدتين لممارسة ضغوطات كافية عليه للتجاوب مع دعواتها لوقف التصعيد. هذا في وقت تعيش فيه الولايات المتحدة موسماً انتخاباً ساخناً تتمحور فيه القرارات حول كيفية تأثيرها على السباق الرئاسي.

السؤال الأبرز المطروح حالياً هو عما إذا كان هناك استراتيجية أميركية ما حيال ملف الشرق الأوسط، انطلاقاً من الحرب الدائرة منذ عام. فقد واجهت الإدارة الحالية انتقادات حادة بسبب غياب منطقة الشرق الأوسط عن لائحة أولوياتها منذ تسلم بايدن السلطة. ولكن الأمور منذ 7 أكتوبر 2023 تغيرت جذرياً.

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى غيث العمري، المستشار السابق لفريق المفاوضات الفلسطيني خلال محادثات الوضع الدائم وكبير الباحثين في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي رأى أن الإدارة الأميركية سعت فعلياً إلى عدم إعطاء الأولوية لمنطقة الشرق الأوسط، وحوّلت تركيزها ومواردها إلى أولويات أخرى. ويقول العمري: «جاءت هجمات 7 أكتوبر لتفاجئ الولايات المتحدة التي لم تكن مستعدة لها، والتي افتقرت لما يلزم لمواجهة أزمة بهذا الحجم». ويرى العمري أن الولايات المتحدة اعتمدت منذ السابع من أكتوبر وحتى تاريخنا هذا على سياسة «مجزأة مبنية على رد الفعل»، مضيفاً: «إنها لم تتمكن من رسم المشهد الاستراتيجي أو ممارسة النفوذ على حلفائها الإقليميين».

امرأة تعرض صورة لجنود إسرائيليين بعد استعادتهم لموقع كفرعزّة إثر هجمات 7 أكتوبر 2023 (د.ب.أ)

تحدثت «الشرق الأوسط» أيضاً إلى جون الترمان، المسؤول السابق في وزارة الخارجية ومدير برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية، فقال: «فشلت إدارة بايدن بالتأكيد في تحقيق العديد من أهدافها في العام الماضي، ولكن في الوقت نفسه لم تندلع حرب إقليمية كبيرة بعد». ويعرب الترمان عن «دهشته» من أنه ورغم «الإخفاقات»، فإن الولايات المتحدة «لا تزال هي النقطة المحورية للدبلوماسية الإقليمية».

وفيما تدافع إدارة بايدن عن أدائها بالقول إنها أظهرت الردع من خلال إرسال تعزيزات أميركية إلى المنطقة، إلا أن العمري يختلف مع هذه المقاربة، لافتاً إلى أن نشر هذه الأصول العسكرية ربما ساهم في المراحل المبكرة من الحرب «في ردع إيران و(حزب الله) من الانخراط في تصعيد كبير، إلا أنه فشل في ردعهما إلى جانب وكلائهما كالحوثيين من الانخراط في أنشطة خبيثة على مستوى منخفض». وأضاف: «لقد تسبب ذلك في زيادة الضغط، وأدى في النهاية إلى انتقال الحرب إلى لبنان وربما مناطق أخرى».

الدبلوماسية «هي الحل»

في خضم التصعيد، تبقى إدارة بايدن مصرة على تكرار التصريحات نفسها من أن الحل الدبلوماسي هو الحل الوحيد، محذرة من توسع رقعة الصراع في المنطقة. وعن ذلك يقول الترمان إن بايدن يريد حلولاً دبلوماسية؛ «لأن الحلول العسكرية تتطلب هزيمة شاملة لأحد الأطراف. ونظراً للرّهانات العالية لكلا الجانبين، فإن الحل العسكري بعيد المنال، وسينجم عنه المزيد من الموت والدمار أكثر بكثير مما شهدناه حتى الآن».

أما العمري فيرى أن التركيز على الدبلوماسية هو أمر مناسب؛ لأنه «في نهاية المطاف، تنتهي الحروب وستكون هناك حاجة إلى حل دبلوماسي»، مضيفاً: «عندما يأتي (اليوم التالي)، يجب أن تكون الأسس لترتيبات دبلوماسية جاهزة».

إلا أن العمري يحذر في الوقت نفسه من أن الدبلوماسية وحدها غير كافية إذا لم تكن مدعومة بقوة واضحة، بما في ذلك القوة العسكرية، ويفسر ذلك قائلاً: «إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من إقناع خصومها بأنها مستعدة لاستخدام قوتها لإيذائهم، وحلفائها بأنها مستعدة لفعل ما يلزم لمساعدتهم، فإن نفوذها تجاه الطرفين سيكون محدوداً».

تجميد الأسلحة لإسرائيل

سقوط أعداد هائلة من المدنيين في حربي غزة ولبنان منذ بدء العمليات الإسرائيلية للرد على هجمات 7 أكتوبر 2023، دفع الكثيرين إلى دعوة بايدن لوضع قيود على الأسلحة الأميركية لإسرائيل، بهدف ممارسة نوع من الضغوط على نتنياهو لوقف التصعيد، لكن الترمان يرفض النظرة القائلة بأن تجميد الأسلحة سيمهد للحل، ويفسر قائلاً: «إذا اعتمدت إدارة بايدن هذه المقاربة، أتوقع أن يعترض الكونغرس بشدة، وقد تكون النتيجة عرضاً للضعف والهشاشة في سياسة البيت الأبيض، بدلاً من صورة تقديم حلول». ويحذّر الترمان من أن خطوة من هذا النوع من شأنها كذلك أن تدفع إسرائيل إلى «الشعور بمزيد من العزلة التي قد تولّد بالتالي شعوراً أكبر بعدم الالتزام بأي قيود».

الرئيس الأميركي جو بايدن خارجاً من البيت الأبيض ليستقل الطائرة إلى نيويورك (أ.ب)

ويوافق العمري مع هذه المقاربة، مشيراً إلى أنه «من غير الواضح أن أي وسيلة ضغط ستنجح»، فيقول: «إسرائيل تشعر بأنها مهددة وجودياً، مما يجعلها أقل استعداداً لتقبل أي تأثير خارجي». ويوفر العمري نظرة شاملة عن مقاربة الإدارة الأميركية في غزة ولبنان التي تحد من الضغوط التي ترغب في ممارستها على إسرائيل، فيفسر قائلاً: «رغم أن الولايات المتحدة غير راضية عن بعض جوانب سير الحرب، خصوصاً فيما يتعلق بالخسائر البشرية بين المدنيين، فإنها تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بعد السابع من أكتوبر». لهذا السبب يشير العمري إلى أن الولايات المتحدة تحتاج إلى تحقيق توازن في الضغط بطرق يمكن أن تغير سلوك إسرائيل «دون تقييد قدرتها على تحقيق الهدف المشروع المتمثل في هزيمة (حماس)»، مضيفاً: «هذا التوازن ليس سهلاً».

بالإضافة إلى ذلك، يذكّر العمري بطبيعة العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي «تتجاوز القضية الإسرائيلية - الفلسطينية»، فيقول: «الولايات المتحدة تستفيد استراتيجياً من هذه العلاقة، بما في ذلك الفوائد المتعلقة بالتهديدات الإقليمية الأخرى مثل الأنشطة الإيرانية. وبذلك، فإن الولايات المتحدة لديها مصالحها الاستراتيجية الخاصة التي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار».

أي حل في نهاية النفق

رغم التصعيد المستمر، تعمل الولايات المتحدة على بناء استراتيجية تضمن عدم خروج الأمور عن السيطرة، ودخول إيران على خط المواجهة، ويشدد العمري على أن «الأولوية الآن هي ضمان بقاء إيران خارج هذه الحرب»، مشيراً إلى أن هذا الأمر ضروري للحد من انتشار الصراع، و«لإضعاف مصداقية إيران الإقليمية ونفوذها مع وكلائها»، لكنه يرى في الوقت نفسه أنه «لا يمكن تحقيق مثل هذه النتيجة إلا إذا كانت إيران مقتنعة بأن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام العمل العسكري».

عنصران من الدفاع المدني الفلسطيني في دير البلح في غزة (أ.ف.ب)

أما الترمان الذي يؤكد ضرورة استمرار الولايات المتحدة «في تقديم مسار للمضي قدماً لجميع الأطراف»، فيحذّر من أن هذا لا يعني أنها يجب أن «تحمي الأطراف من العواقب الناجمة عن أفعالهم»، ويختم قائلاً: «هناك مفهوم يسمى (الخطر الأخلاقي)، يعني أن الناس يميلون إلى اتخاذ سلوكيات أكثر خطورة إذا اعتقدوا أن الآخرين سيحمونهم من الخسارة».