في مثل هذه الأيام من عام 2019 شهدت بلدة الباغوز، بريف دير الزور في شرق سوريا، واحدة من أعنف المعارك للقضاء على «تنظيم داعش» في آخر مناطق سيطرته، جغرافياً وعسكرياً، في سوريا. انتهت المعارك باستسلام عناصر التنظيم الذين قاتلوا حتى الرمق الأخير. نُقلوا إلى مقرات احتجاز تديرها «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، تحت إشراف قوات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية. بالإضافة إلى المقاتلين، نقلت قوات «قسد» التي يشكل الأكراد عمادها الأساسي، مئات من أفراد أسر التنظيم إلى مخيمات تُشرف عليها في شمال شرقي سوريا. في ذكرى هزيمة «داعش»، زارت «الشرق الأوسط» بلدة الباغوز التي ما زالت تحاول نفض غبار المعركة عنها، وكذلك مخيم الهول في الحسكة، وجاءت بهذا التحقيق:
في الطريق الرئيسية المؤدية إلى بلدة الباغوز فوقاني، بريف دير الزور، لا تزال آثار المعارك ظاهرة بوضوح في كل مكان، رغم مرور 4 سنوات على انتهائها. مبانٍ مدمرة. هياكل سيارات متفحمة. بقايا صواريخ تركت آثارها من خلال فجوات كبيرة بالأرض. أما الجسر الذي يوصل هذه البلدة بناحية البوكمال المجاورة، فلم يعد صالحاً للمرور نتيجة الدمار الذي لحق به، نتيجة المعارك في هذه المنطقة التي تقاسمتها جهات سورية متحاربة.
عند التجول في شوارع البلدة تتكرر مظاهر الدمار الذي حلّ بها جراء المعارك العنيفة التي شهدتها في بدايات عام 2019، كما يُلاحظ على الجدران وجود بعض من كتابات «تنظيم داعش» التي تذكّر أهل الباغوز بحقبة حكمه البالغة التشدد. كذلك يمكن رؤية قسم من المنازل والمحال التجارية التي أصبحت أثراً بعد عين، إذ لم يتبق منها سوى جبال من الركام، أما التي نجت من شدة القصف فلم تسلم أبوابها ونوافذها من شدة الانفجارات التي دمرت المناطق المحيطة بها.
مخلفات تحصد أرواح الأبرياء
في مخيم القرية الذي يقع بالجهة الشرقية قرب تلتها الاستراتيجية، والذي تحول آنذاك لآخر نقطة تجمع لعناصر «تنظيم داعش» وعائلاته، تأتي سُميّة ذات الأربعة عقود بصحبة أصغر أبنائها بشكل شبه يومي، وتجهش بالبكاء وهي تقف قرب مقبرة هياكل سيارات صدئة كانت تعود لمقاتلي التنظيم. تروي هذه السيدة التي كانت ترتدي عباءة وغطاء رأس أسود اللون، كيف فقدت ابنتها العنود ذات الـ13 ربيعاً، بعد انفجار قنبلة يدوية قرب الطريق الفرعية التي تربط تلة الباغوز بالقرية. تقول لـ«الشرق الأوسط»: «ماتت بنتي الصغيرة، قبل 3 شهور، بلغم كان مزروعاً بالقرب من هذه الطريق... لن أنسى ملامح وجهها وفستانها الملوّن وضحكتها التي لا تفارقني للحظة. سرقت هذه الحرب فلذة قلبي».
ويقول سكان ومسؤولون في الإدارة المدنية إن كثيراً من الأهالي الذين عادوا إلى ممتلكاتهم ومنازلهم بعد انتهاء معركة الباغوز، أصيبوا أو قتلوا جراء انفجار ذخائر ومخلفات زرعها عناصر التنظيم بكثافة، لمنع السكان من الهرب والفرار بعد اقتراب المعركة الحاسمة من هذه البلدة على ضفاف نهر الفرات. وبحسب إحصاءات رسمية، مات 35 شخصاً نتيجة مخلفات الحرب، في وقت بلغت فيه حالات البتر والعاهات الدائمة حتى اليوم نحو 70 حالة. وتُعد هذه الأرقام كبيرة مقارنة مع بلدة لا يتجاوز عدد سكانها اليوم 8 آلاف نسمة فقط.
والباغوز عبارة عن بلدة سورية صغيرة المساحة تتبع ناحية السوسة إدارياً، تقع في الريف الشرقي لمحافظة دير الزور في حوض نهر الفرات شمالاً بمنطقة البوكمال. وبلغ عدد سكانها نحو 11 ألف نسمة، حسب إحصاء سنة 2004.
تحوّلت أرض المخيم لمكب ومقبرة ضمت عدداً كبيراً من هياكل سيارات معطلة أو متفحمة ودراجات نارية، إلى جانب شبكة أنفاق وسواتر ترابية عالية للحماية من الصواريخ وقذائف الهاون وشظايا القصف. يقول فيصل (33 سنة) إن الباغوز تحولت إلى «منطقة عسكرية» منذ بداية سنة 2018، ولم تتعافَ من الحرب حتى اليوم. نزح فيصل من الباغوز برفقة عائلته لأكثر من عام قاصداً المناطق المجاورة شمالاً التي تسيطر عليها قوات «قسد» وعاد إليها في صيف 2019 بعد شهور من انتهاء المعركة ضد «داعش». ويؤكد في حديثه مع «الشرق الأوسط» أن بعض أهالي القرية كانوا قبل الحرب أصحاء لا يعانون الأمراض «أما اليوم فتراهم يمشون من دون أعضاء نتيجة بتر ساق أو يد... ترى بعضهم يتنقل على كرسي متحرك. كل ذلك نتيجة للحروب التي دارت في المنطقة. هذه الصور تذكّرنا بأن الحرب التي دارت في الباغوز ليست كغيرها من الحروب». وكحال غيره من أبناء البلدة، لم يخفِ فيصل خشيته من عودة خلايا التنظيم المنتشرة في منطقة متشابكة عسكرياً، موضحاً: «عشنا مشاعر الخوف لا سيما خلال الفترة الأولى، بسبب جرائم نفذتها خلايا نائمة موالية للتنظيم، نخشى منها ومن القوات النظامية والميليشيات الإيرانية؛ لأن هذه الجهات منتشرة بالفعل في محيط الباغوز».
وهذا الخوف مرده عمليات الذبح والقتل الوحشية التي اتبعها عناصر التنظيم خلال حكمهم لمناطق سيطرتهم في شرق سوريا وشمالها. ويتذكر كثير من السكان مشاهد القتل الجماعي للمئات من أفراد عشيرة الشعيطات نهاية 2014، ولجوء «داعش» إلى بثّ الرعب من خلال نشر صور ومقاطع فيديو مروعة، مثل حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، وتعليق رؤوس جثث عشرات الجنود السوريين - وهم أشباه عراة - بعدما أُسِروا في مطار الطبقة العسكري، وتصفية عشرات المواطنين بما في ذلك أجانب من صحافيين وعاملين في منظمات إنسانية إغاثية.
عودة الحياة والأشجار المثمرة
في كثير من أحياء الباغوز وأزقتها يمكن رصد بدء أعمال إعادة إعمار البلدة التي يحاول سكانها نفض غبار الحرب عن منطقتهم، إذ تجد كثيراً من الأهالي منهمكين في إزالة جبال الركام وإعمار منازلهم ومحالهم التجارية بإصرار وعزيمة، كما يسعى السكان إلى إعادة عجلة الحياة إلى بلدتهم التي أنهكتها المعارك، لكن الباغوز قد لا تعود إلى وضعها السابق إلا بعد سنوات.
يقول شعبان (54 سنة) الذي يمتلك بستاناً زراعياً تبلغ مساحته 10 دونمات، وكان مزروعاً بأشجار الرمّان لكنها حرقت ودمرت نتيجة المعارك: «كان بستاني يضم 500 شجرة رمّان؛ لكن هذه الأشجار احترقت كلها ولم يتبق منها سوى بقايا جذور محترقة... منزلي أيضاً تعرض للدمار واحترق أثاثه، ونحاول بناء ما يمكن بناؤه». ويؤكد أنهم يحتاجون لسنوات أخرى للتعافي من الحرب، مشيراً إلى أن تربة الباغوز باتت شبه محترقة و«لم تعد صالحة للزراعة... لا لزراعة الأشجار، ولا لزراعة المحاصيل الموسمية. هذه كارثة إنسانية بكل المقاييس».
وتعاقبت جهات عسكرية عدة على حكم الباغوز منذ ربيع 2011 عندما اندلعت الثورة ضد الحكم السوري. في بداية عام 2013 خرجت البلدة عن سيطرة النظام وصارت خاضعة لسيطرة فصائل مما يُعرف بـ«الجيش السوري الحر»، قبل أن تخضع لـ«جبهة النصرة» التي باتت اليوم «هيئة تحرير الشام». في منتصف عام 2014، انتقلت السيطرة على الباغوز إلى أيدي «تنظيم داعش»، واستمرت كذلك حتى بداية فبراير (شباط) 2019 عندما شنت «قوات سوريا الديمقراطية»، بدعم من التحالف الدولي بقيادة أميركية، هجوماً واسعاً تمكنت خلاله من القضاء على سيطرة التنظيم الجغرافية والعسكرية في مارس (آذار).
يقول حواس سدير الجاسم، أحد وجهاء الباغوز، إن عشائر المنطقة طالبت مسؤولي التحالف الدولي خلال لقاءات مباشرة، وكذلك الإدارة الذاتية والمنظمات الدولية المعنية، بالعمل على إزالة مخلّفات الحرب ومساعدة الأهالي للتعافي منها. ويضيف، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، أن الباغوز «دفعت أكبر فاتورة في الحرب ضد (تنظيم داعش) الإرهابي، كونها كانت آخر معاقله الجغرافية التي تحصن بها مقاتلوه».
ويؤكد سدير الجاسم أن إحصاءات رسمية وثّقتها لجان محلية مختصة تحت إشراف خبراء تفيد بأن حجم الأضرار ضخم جداً في المباني السكنية والبنية التحتية والأشجار المثمرة والأراضي الزراعية. ويوضح أن الأضرار تتوزع على الشكل الآتي: «عدد المنازل السكنية المدمرة حسب أسماء أصحابها 1450 منزلاً، 80 في المائة منها سويت بالأرض، و20 في المائة لحقت بها أضرار متفاوتة بين دمار جزئي وحريق». ويتابع بأن أعداد الأشجار المثمرة المتضررة بلغت نحو سبعة ملايين شجرة من النخيل والحمضيات والزيتون، «أما الرمان فقد احترق أو جفّ منه 650 ألف شجرة جراء الحرب». ويزيد قائلاً إن النيران طالت 5 مدارس تعليمية بقي منها «مدرستان فقط هما بحالة مقبولة لاستقبال التلاميذ» بعد القيام بأعمال ترميم فيهما. ويشير أيضاً إلى تضرر البنية التحتية والطرق الرئيسية وشبكات المياه والصرف الصحي، ومعظم المحال التجارية.
الشيخ سدير، كغيره من سكان المنطقة، بقي في بلدته خلال سنوات حكم التنظيم المتشدد وحتى خروج جميع سكانها هرباً من العمليات العسكرية، قبل أن يعود إليها في أبريل (نيسان) 2019. يستذكر سدير الصور الأولى التي شاهدها عقب عودته، قائلاً: «صُدمنا من مشاهد الحرب وأكوام الخراب والهياكل المتفحمة التي بقيت شاهدة على احتدام المعارك... بقينا أسابيع وشهوراً (في حالة صدمة). وحتى اليوم، يصعب علينا التعايش مع هذا الدمار ومع المقابر الجماعية» التي تنتشر في الباغوز ومحيطها.