زيدان مريبوط: فكر مالك بن نبي ألهم آيديولوجية «الووك»

يكشف في كتابه عن حيثيات المؤامرة التي استهدفت المفكر الجزائري وزوجته

مالك بن نبي - زيدان مريبوط
مالك بن نبي - زيدان مريبوط
TT

زيدان مريبوط: فكر مالك بن نبي ألهم آيديولوجية «الووك»

مالك بن نبي - زيدان مريبوط
مالك بن نبي - زيدان مريبوط

احتفلت الجزائر والكثير من الدوائر الثقافية العربية مؤخراً بذكرى ميلاد المفكر مالك بن نبي، الذي تناول بنظرياته التشخيصية عوامل تأخر الدول الإسلامية مستفيداً من دراسته للفكر الغربي وانفتاحه على المناهج الفلسفية. وبهذه المناسبة حاورنا الباحث الجزائري السويسري زيدان مريبوط الأستاذ بجامعة جنيف ومؤلف كتاب «مالك بن نبي: أب التيار الإسلامي العالمي؟ من الملفات السرية للمخابرات الفرنسية» (دار نشر إيريك بونيي)، للتحدث عن منظومته الفكرية وإسهاماته النظرية في تجديد الفكر الإسلامي، وأسباب نهوضه.
> أولاً هل يمكننا القول بأن أفكار مالك بن نبي وتصوراته كانت سابقة لعصرها؟
- فعلاً لقد طور مالك بن نبي فكراً متعدد الأوجه ومتنوعاً، وتناول بالدراسة مشكلات الحضارة وتحديث الإسلام، وكان بلا شك مفكراً طلائعياً ميز القرن العشرين بحيوية فكره ودعواته للحداثة من خلال انتقاده للفكر التقليدي والعقائدي لبعض الشخصيات الدينية والمجتمعات العربية التي قبلت بوضع ذليل. كان دائم الاستشهاد بالآية الكريمة: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، كما كان يرى أن نهضة العالم الإسلامي لن تتحقق إلا من خلال رفض السبات والخرافات والجهل الذي يفسر تأخره، وبالتالي فقد اقترح على الجميع استجواب الذات، واعتماد التفكير النقدي والمساءلة الحضارية على أرضية متينة مبنية على التعليم وإشراك المرأة والالتحاق بالزخم المعرفي والتكنولوجي لتحقيق تنمية حديثة ومستدامة.
> بمن تأثر مالك بن نبي من مفكري العرب والغرب؟
- تأثرت أفكار مالك بن نبي وفكره بالإصلاحيين المسلمين والفلاسفة الألمان مثل إيمانويل كانط وفريدريك نيتشه. لكن على عكس نيتشه، لا يعتقد بن نبي أن الله والألوهية قد ماتا وعفا عليهما الزمن بالنظر إلى أسئلة الفكر الحديث، بل كان يرى أنه من الضروري العودة إلى الله وإلى النفس البشرية قبل البدء بالتفكير في القضايا الحضارية. ففي كتابه «شروط النهضة» (الوكالة الوطنية للنشر، الجزائر 2005) شرح لنا بالتفصيل كيف أن نزول الوحي كان نقطة انطلاق الحضارة الإسلامية، حيث كتب ما يلي: «من المعلوم أن جزيرة العرب مثلاً لم يكن بها قبل نزول القرآن إلا شعب بدوي، يذهب وقته هباء لا ينتفع به، لذلك فقد كانت العوامل الثلاثة: الإنسان والتراب والوقت راكدة خامدة، وبعبارة أصح مكدسة لا تؤدي دوراً في التاريخ، حتى إذا ما تجلت الروح بغار حراء، كما تجلت من قبل في الوادي المقدس أو بمياه الأردن، نشأت من بين هذه العناصر الثلاثة حضارة جديدة، فكأنما ولدتها كلمة (اقرأ) التي أدهشت النبي الأمي، وأثارت معه وعليه العالم، فمن تلك اللحظة وثبت القبائل العربية على مسرح الأحداث، حيث ظلت قروناً طوالاً تحمل للعالم حضارة جديدة وتقوده إلى التمدن والرقي».
كما استخدم بن نبي بحكمة الأساليب العلمية المستعارة من فلاسفة التنوير، أمثال ديكارت وكونت ودوركايم. لا ننسى أن مؤلفنا نهل من الثقافة الغربية، وكان يجيد اللغات الألمانية والفرنسية والعربية، مما سهل بحثه وجعله أكثر «تعبيراً» عند الغربيين، ولا ننسى أيضاً تأثره بابن خلدون ومقدمته والفارابي ورفاعة الطهطاوي.
> في كتابه «شروط النهضة»، يتحدث مالك بن نبي عن مفهوم «القابلية للاستعمار»، الذي هُوجم كثيراً بسببه، فماذا كان يقصد؟ وهل يمكننا ربطه مثلاً بمفهوم «الغالب والمغلوب» عند ابن خلدون؟
- من خلال هذه الفكرة المعقدة أراد المفكر مالك بن نبي أن يزيل الغموض عن الاستعمار ويدينه، وفي الوقت نفسه يدعو الشعوب المُستعمرة إلى التخلص من الشلل الفكري والانحلال الروحي الذي يجعلها تخضع للاستعمار، وإن لم يكن المفكر مالك بن نبي أول من طور هذا المفهوم، حيث سبق إليه الكاتب إيميه سيزار، والمحلل النفسي الشهير أوكتاف مانيوني، إلا أنه كان أول من تناول بدقة هذا المفهوم موضحاً أن نبض الحضارة انتهى بالنسبة للمسلمين بعد دخولهم المرحلة الثالثة من حلقة الحضارة، حسب تصنيفه، التي اتصفت بالانحطاط الاجتماعي والفكري والروحي، وهي المرحلة التي حددها بعد سقوط دولة الموحدين مُسفرة عن مجتمعات ضعيفة عاجزة عن الإبداع والإنتاج خاضعة للهيمنة والاستعمار، ومن هنا جاء مفهوم «القابلية للاستعمار».
> يقال إن فكر مالك بن نبي قد أسيئ فهمه وتعذر إيصاله لعامة الناس، من حيث عمقه وأهميته. كما أنه لم يحصل على التقدير حتى بين أهله وذويه، فلماذا حسب رأيكم؟
- من الصعب فهم فكر مالك بن نبي عامة، فكل فكرة يطورها تحتاج إلى تفسير معمق وقراءة على ضوء المفاهيم الاجتماعية والفلسفية والقانونية، وهو أمر ليس في متناول عامة القراء. أفكاره التي عبر عنها ابتداء من الحرب العالمية الثانية حتى عام 1973 سابقة لعصرها ولم نفهمها إلا بعد الأزمة التي شهدها العالم العربي والإسلامي في أواخر السبعينات، إضافة إلى بعض الاختلافات مع مثقفين من بلاده (الجزائر) وأعضاء «جبهة التحرير الوطني»، وبهذا الخصوص أدعو قراءكم إلى الاطلاع على المقالات الممتازة للمؤرخ صادق سلام. السبب الآخر هو أن مالك بن نبي كان غالباً ما يكتب بالفرنسية، وأحياناً بالعربية، وهو ما حصر دائرة قرائه، على أن الأمور تغيرت بعد أن تمت ترجمة أعماله إلى الإنجليزية، بعدها بدأت أعماله تلاقي نجاحاً كبيراً في الأوساط الثقافية الأنجلوسكسونية أيضاً. وأضيف هنا بأن فلسفته حسب رأيي قد ألهمت آيديولوجية «الووك» السائدة الآن في أميركا وأوروبا، التي تهدف إلى تفكيك التهميش المبني على الثقافة والعرق والهيمنة الاستعمارية الجديدة.
>في كتابك «مالك بن نبي: أب التيار الإسلامي العالمي» الذي جاء نتيجة عمل بحثي في أرشيف الشرطة الفرنسية، تروي أحداث سجنه بتهمة التعاون مع النازيين، هل يمكن أن تخبرنا بما حدث؟
- بصفتي أستاذاً وباحثاً، أتيحت لي فرصة العمل على وثائق «مسجلة سرية» من قبل المخابرات الفرنسية، قسم منها تناول حيثيات سجن مالك بن نبي وزوجته الفرنسية بوليت خديجة بتهمة التعاون مع القوات النازية. أعدت فتح هذه الملفات ونشرت في الكتاب تقرير القضاء الفرنسي الذي خلُص بعد تحريات طويلة ودقيقة ومواجهة مع الشهود الذي تبين خطأهم تبرئته من كل التهم.
وقد جاء في التقرير ما يلي: «السيد مالك بن نبي احتجز بناء على تهم وهمية، لا يمكن قبول أي واحدة منها». وعن الدوافع وراء هذه المؤامرة الخبيثة نجد تحامل بعض الشخصيات النافذة آنذاك كشخصية موريس فيوليت، عمدة بلدة درو، التي كان يقيم فيها بن نبي وزوجته. فيوليت كان معروفاً بعنصريته وحقده على المفكر الجزائري، حيث وجدت في أبحاثي الرسائل التي كان يبعثها هذا الأخير لمصالح الشرطة في محاولة للإساءة له، كالتقرير الذي نقل فيه أن بن نبي رفض الإقرار بأن جنسيته فرنسية، وعوض ذلك كتب في الأوراق الرسمية الجنسية: عربية.
كل هذه التفاصيل وأخرى كثيرة منشورة في كتابي الصادر بالفرنسية وقريباً باللغة الإنجليزية أيضاً.
> مالك بن نبي كان كثير التنقل، عاش في الجزائر وباريس والقاهرة، كتب باللغتين العربية والفرنسية، ما هو تأثير ذلك على كتاباته وفكره؟
- إقامة بن نبي في كل هذه العواصم، إضافة إلى ألمانيا، وفي الدول الآسيوية، خصوصاً إندونيسيا، كانت لها تأثير كبير على فكره وكتاباته، حيث أظهر فضولاً كبيراً تجاه الفكر الشرقي والغربي على حد سواء حتى سُمي بـ«الموسوعة المتنقلة»، وكان يقرأ النصوص الفلسفية المعقدة لنيتشه وهايدغر باللغة الأصلية دون ترجمة، وكذلك النصوص الفرنسية والعربية. وللتذكير فقبل حصول بن نبي على شهادة الهندسة في فرنسا كان قد تلقى تعليمه في مدارس «جمعية العلماء المسلمين» العريقة بقسنطينة في شرق الجزائر.
> ماذا بقي من فكر مالك بن نبي اليوم؟
- لا تزال أعمال مالك بن نبي موضوع تحليل ودراسة بين جموع المثقفين، لا سيما في مراكز الأبحاث المخصصة للعالم العربي والإسلامي في أوروبا وأميركا. أعماله تُرجمت لعدة لغات، والملاحظ الاحترام الكبير الذي يكنه له المثقفون في أندونيسيا وماليزيا وباكستان، كما لا تزال أطروحات بن نبي حول العلاقة بين الهوية والثقافة والحضارة والدور الذي سيلعبه المثقفون المسلمون تلقى صدى واسعاً في أيامنا هذه، لا سيما في أوساط الشباب. نظريته حول «القابلية للاستعمار» والخضوع الطوعي لبعض المسلمين محل دراسات واسعة في مراكز دراسات «بعد الاستعمار».


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

الشاعر طلال حيدر مكرماً كأحد أعمدة قلعة بعلبك

الشاعر طلال حيدر مكرماً كأحد أعمدة قلعة بعلبك
TT

الشاعر طلال حيدر مكرماً كأحد أعمدة قلعة بعلبك

الشاعر طلال حيدر مكرماً كأحد أعمدة قلعة بعلبك

قليلاً ما يتحول حفل تكريم مبدع كبير إلى احتفاءٍ بكل الحلقة الخلاّقة التي تحيط به. هذا يتطلب رقياً من المكرّم والمنظمين، يعكس حالةً من التسامي باتت نادرة، إن لم تكن مفقودة.

فمن جماليات حفل تكريم الشاعر الفذّ طلال حيدر على «مسرح كركلا»، برعاية وزير الإعلام اللبناني زياد المكاري وحضوره، الأحد الماضي، هذا التحلق اللافت لجمع من الشعراء وأهل الفكر والثقافة والفنانين والإعلاميين، حول شاعرهم الذي رفد الأغنية اللبنانية بأجمل القصائد، وأغنى الشعر بصوره المدهشة وتعابيره المتفجرة.

طلال حيدر قبل التكريم مع الفنان عبد الحليم كركلا ووزير الإعلام زياد المكاري

طربيه ودور البطل

قدم الحفل الممثل القدير رفعت طربيه الذي هو نفسه قيمة فنية، معتبراً أن حيدر «كان دائماً البطل الأول على (مسرح كركلا). فهو ابن الأرض، وابن بعلبك، لكنه في الوقت عينه واكب الشعر العالمي ودخل الحداثة فكراً وصورةً وإيقاعاً، راكباً صهيل الخيل». فليس شائعاً أن يترجم شاعر بالعامية إلى لغات أجنبية كما هي دواوين المكرّم وقصائده.

عبد الحليم كركلا مع الشاعر نزار فرنسيس (خاص - الشرق الأوسط)

ومن أرشيف المايسترو عبد الحليم كركلا، شاهد الحضور فيلماً قصيراً بديعاً، عن طلال حيدر، رفيق طفولته ودربه طوال 75 عاماً. قال كركلا: «لقاؤنا في طفولتنا كان خُرافياً كَأَسَاطِيرِ الزَمَان، غامضاً ساحراً خارجاً عن المألوف، حَصَدنَا مَواسم التراث معاً، لنَتَكَامل مع بعضنا البعض في كل عمل نبدعه».

فيلم للتاريخ

«طلال حيدر عطية من عطايا الله» عنوان موفق لشريط، يظهر كم أن جيل الستينات الذي صنع زهو لبنان ومجده، كان متآلفاً متعاوناً.

نرى طلال حيدر إلى جانبه كركلا، يقرآن قصيدة للأول، ويرسمان ترجمتها حركةً على المسرح. مارسيل خليفة يدندن نغمة لقصيدة كتبها طلال وهو إلى جانبه، وهما يحضّران لإحدى المسرحيات.

لقطات أثيرة لهذه الورشات الإبداعية، التي تسبق مسرحيات كركلا. نمرّ على مجموعة العمل وقد انضم إليها سعيد عقل، ينشد إحدى قصائده التي ستتحول إلى أغنية، والعبقري زكي ناصيف يجلس معه أيضاً.

عن سعيد عقل يقول حيدر: «كنا في أول الطريق، إن كان كركلا أو أنا، وكان سعيد عقل يرينا القوى الكامنة فينا... كان يحلم ويوسّع حلمه، وهو علّمنا كيف نوسّع الحلم».

في أحد المشاهد طلال حيدر وصباح في قلعة بعلبك، يخبرها بظروف كتابته لأغنيتها الشهيرة «روحي يا صيفية»، بعد أن دندن فيلمون وهبي لحناً أمامه، ودعاه لأن يضع له كلمات، فكانت «روحي يا صيفية، وتعي يا صيفية، يا حبيبي خدني مشوار بشي سفرة بحرية. أنا بعرف مش رح بتروح بس ضحاك عليي».

في نهاية الحوار تقول له صباح: «الله ما هذه الكلمات العظيمة!»، فيجيبها بكل حب: «الله، ما هذا الصوت!» حقاً ما هذا اللطف والتشجيع المتبادل، بين المبدعين!

كبار يساندون بعضهم

في لقطة أخرى، وديع الصافي يغني قصيدة حيدر التي سمعناها من مارسيل خليفة: «لبسوا الكفافي ومشوا ما عرفت مينن هن»، ويصرخ طرباً: «آه يا طلال!» وجوه صنعت واجهة الثقافة اللبنانية في النصف الثاني من القرن العشرين، تتآلف وتتعاضد، تشتغل وتنحت، الكلمة بالموسيقى مع الرقصة والصورة. شريط للتاريخ، صيغ من كنوز أرشيف عبد الحليم كركلا.

المقطع الأخير جوهرة الفيلم، طلال حيدر يرتجل رقصة، ويترجم بجسده، ما كتبه في قصيدته ومعه راقصو فرقة كركلا، ونرى عبد الحليم كركلا، أشهر مصمم رقص عربي، يرقص أمامنا، هذه المرة، وهو ما لم نره من قبل.

عبد الحليم كركلا يلقي كلمته (خاص - الشرق الأوسط)

روح الألفة الفنية هي التي تصنع الإبداع. يقول حيدر عن تعاونه مع كركلا: «أقرأه جيداً، قرأنا معاً أول ضوء نحن وصغار. قبل أن أصل إلى الهدف، يعرف إلى أين سأصل، فيسبقني. هو يرسم الحركة التصويرية للغة الأجساد وأكون أنا أنسج اللغة التي ترسم طريق هذه الأجساد وما ستذهب إليه. كأن واحدنا يشتغل مع حاله».

طلال حيدر نجم التكريم، هو بالفعل بطل على مسرح كركلا، سواء في صوغ الأغنيات أو بعض الحوارات، تنشد قصائده هدى حداد، وجوزف عازار، وليس أشهر من قصيدته «وحدن بيبقوا مثل زهر البيلسان» التي غنتها فيروز بصوتها الملائكي.

أعلن رئيساً لجمهورية الخيال

طالب الشاعر شوقي بزيع، في كلمته، بأن ينصّب حيدر «رئيساً لجمهورية الخيال الشعري في دولة لبنان الكبير» بصرف النظر عمن سيتربع على عرش السياسة. ورغم أن لبنان كبير في «الإبداعوغرافيا»، كما قال الشاعر هنري زغيب، فإن طلال حيدر «يبقى الكلام عنه ضئيلاً أمام شعره. فهو لم يكن يقول الشعر لأنه هو الشعر».

وقال عنه كركلا: «إنه عمر الخيام في زمانه»، و«أسطورة بعلبك التي سكبت في عينيه نوراً منها، وجعلت من هيبة معابدها حصناً دفيناً لشعره». وعدَّه بطلاً من أبطال الحضارة الناطقين بالجمال والإبداع. سيعيش دوماً في ذاكرة الأجيال، شعلةً مُضيئةً في تاريخ لبنان.

الفنان مارسيل خليفة الذي تلا كلمته رفعت طربيه لتعذّر حضوره بداعي السفر، قال إن «شعره مأخوذ من المتسكعين والباعة المتجولين والعاملين في الحقول الغامرة بالخير والبركة». ووصفه بأنه «بطل وصعلوك في آن، حرّ حتى الانتحار والجنون، جاهليّ بدويّ فولكلوريّ خرافيّ، هجّاء، مدّاح، جاء إلى الحياة فتدبّر أمره».

وزير الإعلام المكاري في كلمته توجه إلى الشاعر: «أقول: طلال حيدر (بيكفّي). اسمُك أهمّ من كلّ لقب وتسمية ونعت. اسمُك هو اللقب والتسمية والنعت. تقول: كبروا اللي بدهن يكبروا، ما عندي وقت إكبر. وأنا أقول أنتَ وُلِدْتَ كبيراً»، وقال عنه إنه أحد أعمدة قلعة بعلبك.

أما المحامي محمد مطر، فركزّ على أن «طلال حيدر اختار الحرية دوماً، وحقق في حياته وشعره هذه الحرية حتى ضاقت به، لذا أراه كشاعر فيلسوف ناشداً للحرية وللتحرر في اشتباكه الدائم مع تجليات الزمان والمكان».

الحضور في أثناء التكريم (خاص - الشرق الأوسط)

وفي الختام كانت كلمة للمحتفى به ألقاها نجله علي حيدر، جاءت تكريماً لمكرميه واحداً واحداً، ثم خاطب الحضور: «من يظن أن الشعر ترف فكري أو مساحة جمالية عابرة، إنما لا يدرك إلا القشور... الشعر شريك في تغيير العالم وإعادة تكوين المستقبل».