هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)
مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)
TT

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)
مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة. من أسباب اليأس والانتحار أنّ بعض الناس لم يعودوا يستحسنون ما استقرّ عليه باطنُهم ووعيُهم ووجدانُهم وقلبُهم وعقلُهم وجسدُهم ومظهرُهم ومنطقُهم وفكرُهم ومسلكُهم. حين يضجر الإنسان من هذا كلّه، يَعمد إلى إنهاء حياته أو يخضع لمزاجيّة سوداويّة تنغّص عليه وجودَه كلّه.
غير أنّ الحثّ على قبول الذات وقبول الحياة أمرٌ لا علاقة له بالتحريض على امتداح عناصر الهويّة الثقافيّة الشاملة التي استوت عليها حياةُ الناس وشرائعُهم ونواميسُهم ومعاملاتُهم اليوميّة. لا بدّ، والحال هذه، من النظر في المعايير التي ينبغي أن نعتمدها في تقويم امتداح الهويّة الذاتيّة. لا شكّ في أنّ كلّ جماعة إنسانيّة تبتهج بما تعوّدته من أنماط العيش وأساليب الحياة وطرائق التفكير ومناهج السلوك. غير أنّ الإفراط في الامتداح الذاتيّ يدلّ على عيبٍ ناشبٍ في البناء الفكريّ الداخليّ. أعرف أنّه من العسر الشديد أن يميّز الناسُ الخير من الشرّ داخل عماراتهم الثقافيّة، إذ إنّ معايير التمييز مستخرجةٌ من صلب الاقتناعات الصلبة التي يعتصم بها أهلُ الجماعة. مشكلة هذه المعايير أنّها تسوّغ ما لا يسوّغه الآخرون، وتبيح ما لا يبيحونه، وتحظر ما لا يحظرونه. ومن ثمّ، يصعب على الناس أن يخرجوا من ذواتهم حتّى ينظروا نظراً موضوعيّاً في استقامة فكرهم ومسلكهم. ما إنْ يخرج الإنسان من عمارته الثقافيّة حتّى يصبح في العراء. وليس من عراء ثقافيّ على الإطلاق في قرائن الانتساب التاريخيّ الضروريّ. أين يمكننا أن نقيم الإنسان الذي يرغب في إعادة النظر بمسلّمات أنظومته الثقافيّة؟ إذا أراد الإنسان، على سبيل المثال، أن يتدبّر معايير الاستقامة في العمارة المسيحيّة، كان عليه أن يخرج من المسيحيّة ويتحرّر من فضاء أحكامها حتّى ينظر نظراً موضوعيّاً فيما تُذيعه وتُعلّمه. ولكن ما إنْ يخرج الإنسانُ من هذه العمارة حتّى يفقد صلة الانتماء ورباط الائتلاف ويصبح في موضع ثقافيّ آخر لا يخوّله، في نظر أهل الجماعة، أن يحكم على صحّة معتقداتهم وصوابيّة أخلاقيّاتهم واستقامة أفعالهم.
لا يخفى على أحد أنّ مثل هذا الإشكال يقترن بصعوبةٍ بنيويّةٍ أخرى تنشأ من استحالة تعريف الهويّة الموضوعيّ. ذلك أنّ روحيّة التحاور بين الناس المختلفين تقتضي أن أعرّف الآخر بحسب ما يحلو للآخر أن يُفصح عن ذاته. ليس لي، مهما عظم شأني، أن أفرض على الآخر مقولاتي الذاتيّة. الواجب الأخلاقيّ يفرض عليّ أن أصغي إلى خطاب الآخر الراغب في الإفصاح عن هويّته. بيد أنّ هذا الأمر عسيرٌ مربكٌ محفوفٌ بالالتباسات والمخاطر، إذ كيف يمكنني أن أفهم الآخر إلّا بواسطة الكلمات التي أستخدمها داخل الفضاء المعرفيّ الذي أنتمي إليه؟ ثمّة سؤالٌ أخطر: ما الذي يضمن لي استقامة التعريف الذي يسوقه الآخر في هويّته؟ هل يجوز لي أن أدّعي البراءة المعرفيّة وأخلي السبيل لسيلٍ من التعابير المدحيّة والأوصاف التقريظيّة يستخدمها الآخر في تمجيد ذاتيّته الثقافيّة؟
إذا اعتمدتُ اعتماداً مطلقاً على كلمات الآخر في وصف ذاته وقعتُ في العري الذاتيّ، وأوشكتُ أن أنتمي إلى أنظومة الآخر الثقافيّة. وهذا واقعٌ غريبٌ غالباً ما واجهه أهلُ الحوار الصادقون الذين أوغلوا في الانتساب إلى ثقافة الآخر، بحيث كفّوا عن استخدام المفاهيم التي تنبثق من ذاتيّتهم اللصيقة بهويّتهم. ربّ معترضٍ يخالف التحفّظ الذي أفصح عنه في هذه المقالة، ويحبّذ أن يخرج الإنسانُ من ذاتيّته خروجاً كاملاً حتّى يلاقي الآخر في غيريّة هويّته واختلافيّتها وجِدّتها وعصيانها على كلّ ضروب الأخذ الإكراهيّ. لا يربكني هذا التحدّي ولا يزعزع يقيني الحواريّ، شرطَ أن يذهب الناسُ إليه معاً، في الزمنيّة الحضاريّة عينها، على طواعيةٍ متجانسة، في عزمٍ صادقٍ منزّهٍ عن أغراض الهيمنة. حينئذ يحلو لنا أن نشهد خروجاً مشتركاً إلى آفاق جديدة لم يألفها الناسُ من قبل، ولم يتعوّدوا خوضَها في منعزلات هويّاتهم المغلقة. غير أنّ واقع التلاقي الحضاريّ الكونيّ لا يتيح مثل التساوق التناغميّ هذا بين الناس المقبلين على الحوار، إذ غالباً ما نقع على محاورين أفذاذ أفنَوا حياتهم في طلب الاختلاف وأتقنوا فنون الحرص على هويّات الآخرين، في حين أنّ من يواجههم في عمليّة الحوار ما برح قابعاً في زمنيّاتٍ ثقافيّةٍ متشنّجة متصلّبة مستكبرة.
أسوق مثالاً واحداً من أجل الإيضاح النافع. يُجمع أغلب المسيحيّين اليوم على دينونة حروب الإفرنجة أو ما يُدعى خطأً بالحروب الصليبيّة، ويُقرّون بأنّ إذاعة رسالة المحبّة في بشرى الخلاص تناقض مبدأ العنف. ولكن ما الذي جرى حتّى استطاع العقل اللاهوتيّ المسيحيّ أن يبلغ الخلاصة الفكريّة الناضجة السلاميّة الواعدة هذه؟ أعتقد أنّ التحوّلات الثقافيّة الجليلة التي أصابت مجتمعات الغرب في عصر النهضة الأُوروبّيّة وزمن الأنوار وحقبة الحداثة العلميّة جعلت الفكر الدِّينيّ المسيحيّ يعيد النظر في بعضٍ من مُسلّماته اللاهوتيّة العتيقة.
ثمّة أمرٌ آخر ينبغي إلقاء البال إليه، عنيتُ به التمييز الحصيف بين الجوهر الفكريّ والأعراض التاريخيّة. ذلك أنّ كلّ أنظومة ثقافيّة تنطوي على قدرةٍ استصفائيّة تنقيحيّة تطهيريّة تفرز الحقائق الأساسيّة من الانحرافات الطارئة. في إثر المجمع الڤاتيكانيّ الثاني (1962 - 1965) واجتهادات الكنائس الأرثوذوكسيّة والبروتستانتيّة في مجلس الكنائس العالميّ، استطاع الفكر اللاهوتيّ المسيحيّ المعاصر أن يعتمد الخطّة الإصلاحيّة هذه من غير أن يُبطل جوهر الإيمان المسيحيّ. ولكنّ مثل هذا التمييز لا يستقيم على الدوام، سواءٌ في المسيحيّة أو في الأنظومات الدِّينيّة والثقافيّة الأخرى. لذلك لا بدّ من معياريّة موضوعيّة محايدة منزّهة تجعلنا نقبل في هويّة الآخر ما هو صالحٌ ومفيدٌ ومُغنٍ، ونرفض فيها ما هو فاسدٌ ومضرٌّ ومُجحف.
قبل أن أستجلي بعض المعايير الهادية هذه، لا بدّ من السؤال الفلسفيّ الخطير الذي يستفسر عن أصل الانحراف التاريخيّ في الأنظومات الدِّينيّة والثقافيّة على اختلاف منابتها الفكريّة وقرائنها التاريخيّة. هل يكون الانحراف ناشباً في أصل الهويّة أم طارئاً عليها؟ لا أظنّ أنّ أحداً يستطيع أن يجيب عن هذا السؤال، سواءٌ داخل جماعته أو خارجها، من غير أن يتعرّض للنقد والتهجّم والاضطهاد. أعود إلى حروب الإفرنجة لأسأل: هل خرجت الطاقة العنفيّة هذه من صميم رسالة المسيح أم ابتُليت بها الكنيسة المسيحيّة من جرّاء ضلال بعض أبنائها المسؤولين المهيمنين على مقاليد السلطة فيها؟ يصحّ السؤال عينه في الماركسيّة: هل أتت انحرافاتُ النظام الشيوعيّ من صلب العقيدة الماركسيّة في جوهر بنيانها ومطلبها أم أصابتها بسببٍ من فساد العقول السياسيّة التي هيمنت على مصائر فكرة المساواة المنصفة والتوزيع العادل وواجب النضال التغييريّ البنيويّ؟ لا أخفي على القارئ أنّي أميل إلى بعضٍ من الارتباط الانتقائيّ الاصطفائيّ الطارئيّ الذي ينعقد بين عنصرٍ من عناصر الحقيقة، وضربٍ من ضروب الانحراف المسلكيّ في حياة الجماعة المعتصمة بهذه الحقيقة. بعض الحقائق الصلبة يستجلب العنف استجلاباً!
في جميع الأحوال، ينبغي لنا أن نجتهد حتّى نستخرج بعض المعايير الهادية التي تساعدنا في تقويم الخطاب المدحيّ الذي يحمله إلينا أصحابُ كلّ أنظومة وأهلُ كلّ جماعة. أعرف أنّ ما سأقوله منبثقٌ من خلاصات الحداثة التي تغلغلت في خلايا دماغنا وسرَت في شرايين أفكارنا. بيد أنّ موضوعيّة القول وحياديّته ونزاهته تشفع في استنقاذه من ردود المستائين من مثال الانفتاح الثقافيّ المستنير هذا. يقيني أنّ الناس يمكنهم أن يقبلوا ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم الجماعيّة شرطَ أن يأتي خطابُ الامتداح مَبنيّاً على ثلاثة أصول جوهريّة: أوّلاً، التزام الإنسيّة الأخلاقيّة الجامعة التي تنطوي عليها شرعة حقوق الإنسان الكونيّة وتستثمرها في تعزيز كرامة الشخص الإنسانيّ، وتحريره من جميع ألوان العبوديّات، ودفعه إلى تجاوز ذاتيّته التاريخيّة؛ ثانياً، الأمانة على جوهر الأنظومة الثقافيّة أو الدِّينيّة الذاتيّة في أبهى ما انطوت عليه من مثُل رفيعة سامية؛ ثالثاً، الانفتاحيّة النقديّة البنّاءة التي تجعل كلَّ إنسانٍ مُنتمٍ مقتنعٍ يقبل طوعاً إعادة النظر في تطوّر عمارته الفكريّة، وتقويم أدائها، وانتقاد التواءاتها، وتصويب اعوجاجاتها.
من الواضح أنّ المعايير الهادية هذه تضمن لجميع الناس التحاور السليم الشفّاف النزيه الرامي إلى تعزيز إنسانيّة الإنسان في جميع أبعادها الكيانيّة. إذا كان المعيار الأوّل (الإنسيّة الأخلاقيّة) والمعيار الثالث (الانفتاحيّة النقديّة) على وضوحٍ في المعنى، فإنّ المعيار الثاني (الأمانة على الجوهر) قد يلتبس على القارئ، إذ إنّ الأديان والأنظومات الثقافيّة والعمارات الفكريّة تختلف في استخراج الجواهر المنطوية في تراثاتها الأثيلة. غير أنّ الأمر ليس على هذا الإرباك. أعتقد أنّ الناس يدركون فطريّاً أنّ جوهر المسيحيّة المحبّة، وكلّ فكر مسيحيّ يخالف المحبّة يجب نبذه؛ وأنّ جوهر الإسلام الرحمة، وكلّ فكر إسلاميّ يناقض الرحمة يجب نقضه؛ وأنّ جوهر اليهوديّة الاستضافة الكيانيّة المجّانيّة، وكلّ فكر يهوديّ يعطّل هذه الاستضافة يجب إبطاله؛ وأنّ جوهر الهندوسيّة الانسيابيّة الكونيّة الفنائيّة، وأنّ جوهر البوذيّة اليقظة الوجدانيّة، وجوهر الماركسيّة المساواة، وجوهر الاشتراكيّة الإنصاف، وجوهر الليبرالية الحرّيّة، وجوهر النضال البيئيّ صون الطبيعة الأمّ. وعليه، فإنّ جوهر الجواهر في جميع الأنظومات، على ما كان يذهب إليه فيلسوفُ الدِّين اللاهوتيُّ البريطانيُّ جون هيك (1922-2012)، أن يخرج الإنسان من قوقعته الذاتيّة (self-centeredness) إلى رحابة الحقّ الكونيّ (Reality-centeredness).
- مفكر لبناني


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.

تحقيقات وقضايا أزياء متنوعة ارتداها مشاركون في انطلاق المرحلة الثانية من رحلة «إعادة إحياء قلب الجزيرة العربية» من الدرعية في 16 يناير 2023 (واس)

الأزياء تروي تاريخ الشعوب... لفظاً وتواصلاً

يقال إنك «بالملبس تستطيع أن تقول من أنت من دون أن تتفوه بكلمة» و«تستطيع الوصول إلى كل ما تتمناه في الحياة إن ارتديت الملابس المناسبة». وثمة أقوال كثيرة مشابهة تثير الرغبة في «اعتناق» المظهر.

أحمد الفاضل

فلسطينيون ظلوا بلا عائلة... وعائلات كاملة شُطبت من السجل المدني

TT

فلسطينيون ظلوا بلا عائلة... وعائلات كاملة شُطبت من السجل المدني

جنازة جماعية في 7 مارس 2024 لـ47 فلسطينياً قتلتهم إسرائيل في رفح (أ.ف.ب)
جنازة جماعية في 7 مارس 2024 لـ47 فلسطينياً قتلتهم إسرائيل في رفح (أ.ف.ب)

216 ليس مجرد رقم عادي بالنسبة لعائلة «سالم» الموزعة بين مدينة غزة وشمالها. فهذا هو عدد الأفراد الذين فقدتهم العائلة من الأبناء والأسر الكاملة، (أب وأم وأبنائهما) وأصبحوا بذلك خارج السجل المدني، شأنهم شأن مئات العائلات الأخرى التي أخرجتها الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة منذ عام.

سماهر سالم (33 عاماً) من سكان حي الشيخ رضوان، فقدت والدتها وشقيقها الأكبر واثنتين من شقيقاتها و6 من أبنائهم، إلى جانب ما لا يقل عن 60 آخرين من أعمامها وأبنائهم، ولا تعرف اليوم كيف تصف الوحدة التي تشعر بها ووجع الفقد الذي تعمق وأصبح بطعم العلقم، بعدما اختطفت الحرب أيضاً نجلها الأكبر.

وقالت سالم لـ«الشرق الأوسط»: «أقول أحياناً إنني وسط كابوس ولا أصدق ما جرى».

وقصفت إسرائيل منزل سالم وآخرين من عائلتها في 11 ديسمبر (كانون الأول) 2023، وهو يوم حفر في عقلها وقلبها بالدم والألم.

رجل يواسي سيدة في دفن أفراد من عائلتهما في خان يونس في 2 أكتوبر 2024 (أ.ف.ب)

تتذكر سالم لحظة غيرت كل شيء في حياتها، وهي عندما بدأت تدرك أنها فقدت والدتها وشقيقاتها وأولادهن. «مثل الحلم مثل الكذب... بتحس إنك مش فاهم، مش مصدق أي شي مش عارف شو بيصير». قالت سالم وأضافت: «لم أتخيل أني سأفقد أمي وأخواتي وأولادهن في لحظة واحدة. هو شيء أكبر من الحزن».

وفي غمرة الحزن، فقدت سالم ابنها البكر، وتحول الألم إلى ألم مضاعف ترجمته الأم المكلومة والباقية بعبارة واحدة مقتضبة: «ما ظل إشي».

وقتلت إسرائيل أكثر من 41 ألف فلسطيني في قطاع غزة خلال عام واحد في الحرب التي خلّفت كذلك 100 ألف جريح وآلاف المفقودين، وأوسع دمار ممكن.

وبحسب المكتب الإعلامي الحكومي، بين الضحايا 16.859 طفلاً، ومنهم 171 طفلاً رضيعاً وُلدوا وقتلوا خلال الحرب، و710 عمرهم أقل من عام، و36 قضوا نتيجة المجاعة، فيما سجل عدد النساء 11.429.

إلى جانب سالم التي بقيت على قيد الحياة، نجا قلائل آخرون من العائلة بينهم معين سالم الذي فقد 7 من أشقائه وشقيقاته وأبنائهم وأحفادهم في مجزرة ارتكبت بحي الرمال بتاريخ 19 ديسمبر 2023 (بفارق 8 أيام على الجريمة الأولى)، وذلك بعد تفجير الاحتلال مبنى كانوا بداخله.

وقال سالم لـ«الشرق الأوسط»: «93 راحوا في ضربة واحدة، في ثانية واحدة، في مجزرة واحدة».

وأضاف: «دفنت بعضهم وبعضهم ما زال تحت الأنقاض. وبقيت وحدي».

وتمثل عائلة سالم واحدة من مئات العائلات التي شطبت من السجل المدني في قطاع غزة خلال الحرب بشكل كامل أو جزئي.

وبحسب إحصاءات المكتب الحكومي في قطاع غزة، فإن الجيش الإسرائيلي أباد 902 عائلة فلسطينية خلال عام واحد.

أزهار مسعود ترفع صور أفراد عائلتها التي قتلت بالكامل في مخيم جباليا شمالي قطاع غزة (رويترز)

وقال المكتب الحكومي إنه في إطار استمرار جريمة الإبادة الجماعية التي ينفذها جيش الاحتلال الإسرائيلي برعاية أميركية كاملة، فقد قام جيش الاحتلال بإبادة 902 عائلة فلسطينية ومسحها من السجل المدني بقتل كامل أفرادها خلال سنة من الإبادة الجماعية في قطاع غزة.

وأضاف: «كما أباد جيش الاحتلال الإسرائيلي 1364 أسرة فلسطينية قتل جميع أفرادها، ولم يتبقَّ سوى فرد واحد في الأسرة الواحدة، ومسح كذلك 3472 أسرة فلسطينية قتل جميع أفرادها ولم يتبقَّ منها سوى فردين اثنين في الأسرة الواحدة».

وأكد المكتب: «تأتي هذه الجرائم المتواصلة بحق شعبنا الفلسطيني في إطار جريمة الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي برعاية أميركية كاملة، وبمشاركة مجموعة من الدول الأوروبية والغربية التي تمد الاحتلال بالسلاح القاتل والمحرم دولياً مثل المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وغيرها من الدول».

وإذا كان بقي بعض أفراد العائلات على قيد الحياة ليرووا ألم الفقد فإن عائلات بأكملها لا تجد من يروي حكايتها.

في السابع عشر من شهر سبتمبر (أيلول) المنصرم، كانت عائلة ياسر أبو شوقة، من بين العائلات التي شطبت من السجل المدني، بعد أن قُتل برفقة زوجته وأبنائه وبناته الخمسة، إلى جانب اثنين من أشقائه وعائلتيهما بشكل كامل.

وقضت العائلة داخل منزل مكون من عدة طوابق قصفته طائرة إسرائيلية حربية أطلقت عدة صواريخ على المنزل في مخيم البريج وسط قطاع غزة.

وقال خليل أبو شوقة ابن عم العائلة لـ«الشرق الأوسط»: «لا يوجد ما يعبر عن هذه الجريمة البشعة».

وأضاف: «كل أبناء عمي وأسرهم قتلوا بلا ذنب. وذهبوا مرة واحدة. شيء لا يصدق».

الصحافيون والعقاب الجماعي

طال القتل العمد عوائل صحافيين بشكل خاص، فبعد قتل الجيش الإسرائيلي هائل النجار (43 عاماً) في شهر مايو (أيار) الماضي، قتلت إسرائيل أسرته المكونة من 6 أفراد بينهم زوجته و3 أطفال تتراوح أعمارهم بين عامين و13 عاماً.

وقال رائد النجار، شقيق زوجة هائل: «لقد كان قتلاً مع سبق الإصرار، ولا أفهم لماذا يريدون إبادة عائلة صحافي».

وقضى 174 صحافياً خلال الحرب الحالية، آخرهم الصحافية وفاء العديني وزوجها وابنتها وابنها، بعد قصف طالهم في دير البلح، وسط قطاع غزة، وهي صحافية تعمل مع عدة وسائل إعلام أجنبية.

الصحافي غازي أشرف علول يزور عائلته على شاطئ غزة وقد ولد ابنه في أثناء عمله في تغطية أخبار الموت (إ.ب.أ)

إنه القتل الجماعي الذي لا يأتي بطريق الخطأ، وإنما بدافع العقاب.

وقال محمود بصل، المتحدث باسم جهاز الدفاع المدني بغزة، إن الاحتلال الإسرائيلي استخدم الانتقام وسيلة حقيقية خلال هذه الحرب، وقتل عوائل مقاتلين وسياسيين ومسؤولين حكوميين وصحافيين ونشطاء ومخاتير ووجهاء وغيرهم، في حرب شنعاء هدفها إقصاء هذه الفئات عن القيام بمهامها.

وأضاف: «العمليات الانتقامية كانت واضحة جداً، واستهداف العوائل والأسر والعمل على شطب العديد منها من السجل المدني، كان أهم ما يميز العدوان الحالي».

وأردف: «ما حدث ويحدث بحق العوائل جريمة مكتملة الأركان».