هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)
مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)
TT

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)
مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة. من أسباب اليأس والانتحار أنّ بعض الناس لم يعودوا يستحسنون ما استقرّ عليه باطنُهم ووعيُهم ووجدانُهم وقلبُهم وعقلُهم وجسدُهم ومظهرُهم ومنطقُهم وفكرُهم ومسلكُهم. حين يضجر الإنسان من هذا كلّه، يَعمد إلى إنهاء حياته أو يخضع لمزاجيّة سوداويّة تنغّص عليه وجودَه كلّه.
غير أنّ الحثّ على قبول الذات وقبول الحياة أمرٌ لا علاقة له بالتحريض على امتداح عناصر الهويّة الثقافيّة الشاملة التي استوت عليها حياةُ الناس وشرائعُهم ونواميسُهم ومعاملاتُهم اليوميّة. لا بدّ، والحال هذه، من النظر في المعايير التي ينبغي أن نعتمدها في تقويم امتداح الهويّة الذاتيّة. لا شكّ في أنّ كلّ جماعة إنسانيّة تبتهج بما تعوّدته من أنماط العيش وأساليب الحياة وطرائق التفكير ومناهج السلوك. غير أنّ الإفراط في الامتداح الذاتيّ يدلّ على عيبٍ ناشبٍ في البناء الفكريّ الداخليّ. أعرف أنّه من العسر الشديد أن يميّز الناسُ الخير من الشرّ داخل عماراتهم الثقافيّة، إذ إنّ معايير التمييز مستخرجةٌ من صلب الاقتناعات الصلبة التي يعتصم بها أهلُ الجماعة. مشكلة هذه المعايير أنّها تسوّغ ما لا يسوّغه الآخرون، وتبيح ما لا يبيحونه، وتحظر ما لا يحظرونه. ومن ثمّ، يصعب على الناس أن يخرجوا من ذواتهم حتّى ينظروا نظراً موضوعيّاً في استقامة فكرهم ومسلكهم. ما إنْ يخرج الإنسان من عمارته الثقافيّة حتّى يصبح في العراء. وليس من عراء ثقافيّ على الإطلاق في قرائن الانتساب التاريخيّ الضروريّ. أين يمكننا أن نقيم الإنسان الذي يرغب في إعادة النظر بمسلّمات أنظومته الثقافيّة؟ إذا أراد الإنسان، على سبيل المثال، أن يتدبّر معايير الاستقامة في العمارة المسيحيّة، كان عليه أن يخرج من المسيحيّة ويتحرّر من فضاء أحكامها حتّى ينظر نظراً موضوعيّاً فيما تُذيعه وتُعلّمه. ولكن ما إنْ يخرج الإنسانُ من هذه العمارة حتّى يفقد صلة الانتماء ورباط الائتلاف ويصبح في موضع ثقافيّ آخر لا يخوّله، في نظر أهل الجماعة، أن يحكم على صحّة معتقداتهم وصوابيّة أخلاقيّاتهم واستقامة أفعالهم.
لا يخفى على أحد أنّ مثل هذا الإشكال يقترن بصعوبةٍ بنيويّةٍ أخرى تنشأ من استحالة تعريف الهويّة الموضوعيّ. ذلك أنّ روحيّة التحاور بين الناس المختلفين تقتضي أن أعرّف الآخر بحسب ما يحلو للآخر أن يُفصح عن ذاته. ليس لي، مهما عظم شأني، أن أفرض على الآخر مقولاتي الذاتيّة. الواجب الأخلاقيّ يفرض عليّ أن أصغي إلى خطاب الآخر الراغب في الإفصاح عن هويّته. بيد أنّ هذا الأمر عسيرٌ مربكٌ محفوفٌ بالالتباسات والمخاطر، إذ كيف يمكنني أن أفهم الآخر إلّا بواسطة الكلمات التي أستخدمها داخل الفضاء المعرفيّ الذي أنتمي إليه؟ ثمّة سؤالٌ أخطر: ما الذي يضمن لي استقامة التعريف الذي يسوقه الآخر في هويّته؟ هل يجوز لي أن أدّعي البراءة المعرفيّة وأخلي السبيل لسيلٍ من التعابير المدحيّة والأوصاف التقريظيّة يستخدمها الآخر في تمجيد ذاتيّته الثقافيّة؟
إذا اعتمدتُ اعتماداً مطلقاً على كلمات الآخر في وصف ذاته وقعتُ في العري الذاتيّ، وأوشكتُ أن أنتمي إلى أنظومة الآخر الثقافيّة. وهذا واقعٌ غريبٌ غالباً ما واجهه أهلُ الحوار الصادقون الذين أوغلوا في الانتساب إلى ثقافة الآخر، بحيث كفّوا عن استخدام المفاهيم التي تنبثق من ذاتيّتهم اللصيقة بهويّتهم. ربّ معترضٍ يخالف التحفّظ الذي أفصح عنه في هذه المقالة، ويحبّذ أن يخرج الإنسانُ من ذاتيّته خروجاً كاملاً حتّى يلاقي الآخر في غيريّة هويّته واختلافيّتها وجِدّتها وعصيانها على كلّ ضروب الأخذ الإكراهيّ. لا يربكني هذا التحدّي ولا يزعزع يقيني الحواريّ، شرطَ أن يذهب الناسُ إليه معاً، في الزمنيّة الحضاريّة عينها، على طواعيةٍ متجانسة، في عزمٍ صادقٍ منزّهٍ عن أغراض الهيمنة. حينئذ يحلو لنا أن نشهد خروجاً مشتركاً إلى آفاق جديدة لم يألفها الناسُ من قبل، ولم يتعوّدوا خوضَها في منعزلات هويّاتهم المغلقة. غير أنّ واقع التلاقي الحضاريّ الكونيّ لا يتيح مثل التساوق التناغميّ هذا بين الناس المقبلين على الحوار، إذ غالباً ما نقع على محاورين أفذاذ أفنَوا حياتهم في طلب الاختلاف وأتقنوا فنون الحرص على هويّات الآخرين، في حين أنّ من يواجههم في عمليّة الحوار ما برح قابعاً في زمنيّاتٍ ثقافيّةٍ متشنّجة متصلّبة مستكبرة.
أسوق مثالاً واحداً من أجل الإيضاح النافع. يُجمع أغلب المسيحيّين اليوم على دينونة حروب الإفرنجة أو ما يُدعى خطأً بالحروب الصليبيّة، ويُقرّون بأنّ إذاعة رسالة المحبّة في بشرى الخلاص تناقض مبدأ العنف. ولكن ما الذي جرى حتّى استطاع العقل اللاهوتيّ المسيحيّ أن يبلغ الخلاصة الفكريّة الناضجة السلاميّة الواعدة هذه؟ أعتقد أنّ التحوّلات الثقافيّة الجليلة التي أصابت مجتمعات الغرب في عصر النهضة الأُوروبّيّة وزمن الأنوار وحقبة الحداثة العلميّة جعلت الفكر الدِّينيّ المسيحيّ يعيد النظر في بعضٍ من مُسلّماته اللاهوتيّة العتيقة.
ثمّة أمرٌ آخر ينبغي إلقاء البال إليه، عنيتُ به التمييز الحصيف بين الجوهر الفكريّ والأعراض التاريخيّة. ذلك أنّ كلّ أنظومة ثقافيّة تنطوي على قدرةٍ استصفائيّة تنقيحيّة تطهيريّة تفرز الحقائق الأساسيّة من الانحرافات الطارئة. في إثر المجمع الڤاتيكانيّ الثاني (1962 - 1965) واجتهادات الكنائس الأرثوذوكسيّة والبروتستانتيّة في مجلس الكنائس العالميّ، استطاع الفكر اللاهوتيّ المسيحيّ المعاصر أن يعتمد الخطّة الإصلاحيّة هذه من غير أن يُبطل جوهر الإيمان المسيحيّ. ولكنّ مثل هذا التمييز لا يستقيم على الدوام، سواءٌ في المسيحيّة أو في الأنظومات الدِّينيّة والثقافيّة الأخرى. لذلك لا بدّ من معياريّة موضوعيّة محايدة منزّهة تجعلنا نقبل في هويّة الآخر ما هو صالحٌ ومفيدٌ ومُغنٍ، ونرفض فيها ما هو فاسدٌ ومضرٌّ ومُجحف.
قبل أن أستجلي بعض المعايير الهادية هذه، لا بدّ من السؤال الفلسفيّ الخطير الذي يستفسر عن أصل الانحراف التاريخيّ في الأنظومات الدِّينيّة والثقافيّة على اختلاف منابتها الفكريّة وقرائنها التاريخيّة. هل يكون الانحراف ناشباً في أصل الهويّة أم طارئاً عليها؟ لا أظنّ أنّ أحداً يستطيع أن يجيب عن هذا السؤال، سواءٌ داخل جماعته أو خارجها، من غير أن يتعرّض للنقد والتهجّم والاضطهاد. أعود إلى حروب الإفرنجة لأسأل: هل خرجت الطاقة العنفيّة هذه من صميم رسالة المسيح أم ابتُليت بها الكنيسة المسيحيّة من جرّاء ضلال بعض أبنائها المسؤولين المهيمنين على مقاليد السلطة فيها؟ يصحّ السؤال عينه في الماركسيّة: هل أتت انحرافاتُ النظام الشيوعيّ من صلب العقيدة الماركسيّة في جوهر بنيانها ومطلبها أم أصابتها بسببٍ من فساد العقول السياسيّة التي هيمنت على مصائر فكرة المساواة المنصفة والتوزيع العادل وواجب النضال التغييريّ البنيويّ؟ لا أخفي على القارئ أنّي أميل إلى بعضٍ من الارتباط الانتقائيّ الاصطفائيّ الطارئيّ الذي ينعقد بين عنصرٍ من عناصر الحقيقة، وضربٍ من ضروب الانحراف المسلكيّ في حياة الجماعة المعتصمة بهذه الحقيقة. بعض الحقائق الصلبة يستجلب العنف استجلاباً!
في جميع الأحوال، ينبغي لنا أن نجتهد حتّى نستخرج بعض المعايير الهادية التي تساعدنا في تقويم الخطاب المدحيّ الذي يحمله إلينا أصحابُ كلّ أنظومة وأهلُ كلّ جماعة. أعرف أنّ ما سأقوله منبثقٌ من خلاصات الحداثة التي تغلغلت في خلايا دماغنا وسرَت في شرايين أفكارنا. بيد أنّ موضوعيّة القول وحياديّته ونزاهته تشفع في استنقاذه من ردود المستائين من مثال الانفتاح الثقافيّ المستنير هذا. يقيني أنّ الناس يمكنهم أن يقبلوا ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم الجماعيّة شرطَ أن يأتي خطابُ الامتداح مَبنيّاً على ثلاثة أصول جوهريّة: أوّلاً، التزام الإنسيّة الأخلاقيّة الجامعة التي تنطوي عليها شرعة حقوق الإنسان الكونيّة وتستثمرها في تعزيز كرامة الشخص الإنسانيّ، وتحريره من جميع ألوان العبوديّات، ودفعه إلى تجاوز ذاتيّته التاريخيّة؛ ثانياً، الأمانة على جوهر الأنظومة الثقافيّة أو الدِّينيّة الذاتيّة في أبهى ما انطوت عليه من مثُل رفيعة سامية؛ ثالثاً، الانفتاحيّة النقديّة البنّاءة التي تجعل كلَّ إنسانٍ مُنتمٍ مقتنعٍ يقبل طوعاً إعادة النظر في تطوّر عمارته الفكريّة، وتقويم أدائها، وانتقاد التواءاتها، وتصويب اعوجاجاتها.
من الواضح أنّ المعايير الهادية هذه تضمن لجميع الناس التحاور السليم الشفّاف النزيه الرامي إلى تعزيز إنسانيّة الإنسان في جميع أبعادها الكيانيّة. إذا كان المعيار الأوّل (الإنسيّة الأخلاقيّة) والمعيار الثالث (الانفتاحيّة النقديّة) على وضوحٍ في المعنى، فإنّ المعيار الثاني (الأمانة على الجوهر) قد يلتبس على القارئ، إذ إنّ الأديان والأنظومات الثقافيّة والعمارات الفكريّة تختلف في استخراج الجواهر المنطوية في تراثاتها الأثيلة. غير أنّ الأمر ليس على هذا الإرباك. أعتقد أنّ الناس يدركون فطريّاً أنّ جوهر المسيحيّة المحبّة، وكلّ فكر مسيحيّ يخالف المحبّة يجب نبذه؛ وأنّ جوهر الإسلام الرحمة، وكلّ فكر إسلاميّ يناقض الرحمة يجب نقضه؛ وأنّ جوهر اليهوديّة الاستضافة الكيانيّة المجّانيّة، وكلّ فكر يهوديّ يعطّل هذه الاستضافة يجب إبطاله؛ وأنّ جوهر الهندوسيّة الانسيابيّة الكونيّة الفنائيّة، وأنّ جوهر البوذيّة اليقظة الوجدانيّة، وجوهر الماركسيّة المساواة، وجوهر الاشتراكيّة الإنصاف، وجوهر الليبرالية الحرّيّة، وجوهر النضال البيئيّ صون الطبيعة الأمّ. وعليه، فإنّ جوهر الجواهر في جميع الأنظومات، على ما كان يذهب إليه فيلسوفُ الدِّين اللاهوتيُّ البريطانيُّ جون هيك (1922-2012)، أن يخرج الإنسان من قوقعته الذاتيّة (self-centeredness) إلى رحابة الحقّ الكونيّ (Reality-centeredness).
- مفكر لبناني


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.

تحقيقات وقضايا أزياء متنوعة ارتداها مشاركون في انطلاق المرحلة الثانية من رحلة «إعادة إحياء قلب الجزيرة العربية» من الدرعية في 16 يناير 2023 (واس)

الأزياء تروي تاريخ الشعوب... لفظاً وتواصلاً

يقال إنك «بالملبس تستطيع أن تقول من أنت من دون أن تتفوه بكلمة» و«تستطيع الوصول إلى كل ما تتمناه في الحياة إن ارتديت الملابس المناسبة». وثمة أقوال كثيرة مشابهة تثير الرغبة في «اعتناق» المظهر.

أحمد الفاضل

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».