هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)
مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)
TT

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)
مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة. من أسباب اليأس والانتحار أنّ بعض الناس لم يعودوا يستحسنون ما استقرّ عليه باطنُهم ووعيُهم ووجدانُهم وقلبُهم وعقلُهم وجسدُهم ومظهرُهم ومنطقُهم وفكرُهم ومسلكُهم. حين يضجر الإنسان من هذا كلّه، يَعمد إلى إنهاء حياته أو يخضع لمزاجيّة سوداويّة تنغّص عليه وجودَه كلّه.
غير أنّ الحثّ على قبول الذات وقبول الحياة أمرٌ لا علاقة له بالتحريض على امتداح عناصر الهويّة الثقافيّة الشاملة التي استوت عليها حياةُ الناس وشرائعُهم ونواميسُهم ومعاملاتُهم اليوميّة. لا بدّ، والحال هذه، من النظر في المعايير التي ينبغي أن نعتمدها في تقويم امتداح الهويّة الذاتيّة. لا شكّ في أنّ كلّ جماعة إنسانيّة تبتهج بما تعوّدته من أنماط العيش وأساليب الحياة وطرائق التفكير ومناهج السلوك. غير أنّ الإفراط في الامتداح الذاتيّ يدلّ على عيبٍ ناشبٍ في البناء الفكريّ الداخليّ. أعرف أنّه من العسر الشديد أن يميّز الناسُ الخير من الشرّ داخل عماراتهم الثقافيّة، إذ إنّ معايير التمييز مستخرجةٌ من صلب الاقتناعات الصلبة التي يعتصم بها أهلُ الجماعة. مشكلة هذه المعايير أنّها تسوّغ ما لا يسوّغه الآخرون، وتبيح ما لا يبيحونه، وتحظر ما لا يحظرونه. ومن ثمّ، يصعب على الناس أن يخرجوا من ذواتهم حتّى ينظروا نظراً موضوعيّاً في استقامة فكرهم ومسلكهم. ما إنْ يخرج الإنسان من عمارته الثقافيّة حتّى يصبح في العراء. وليس من عراء ثقافيّ على الإطلاق في قرائن الانتساب التاريخيّ الضروريّ. أين يمكننا أن نقيم الإنسان الذي يرغب في إعادة النظر بمسلّمات أنظومته الثقافيّة؟ إذا أراد الإنسان، على سبيل المثال، أن يتدبّر معايير الاستقامة في العمارة المسيحيّة، كان عليه أن يخرج من المسيحيّة ويتحرّر من فضاء أحكامها حتّى ينظر نظراً موضوعيّاً فيما تُذيعه وتُعلّمه. ولكن ما إنْ يخرج الإنسانُ من هذه العمارة حتّى يفقد صلة الانتماء ورباط الائتلاف ويصبح في موضع ثقافيّ آخر لا يخوّله، في نظر أهل الجماعة، أن يحكم على صحّة معتقداتهم وصوابيّة أخلاقيّاتهم واستقامة أفعالهم.
لا يخفى على أحد أنّ مثل هذا الإشكال يقترن بصعوبةٍ بنيويّةٍ أخرى تنشأ من استحالة تعريف الهويّة الموضوعيّ. ذلك أنّ روحيّة التحاور بين الناس المختلفين تقتضي أن أعرّف الآخر بحسب ما يحلو للآخر أن يُفصح عن ذاته. ليس لي، مهما عظم شأني، أن أفرض على الآخر مقولاتي الذاتيّة. الواجب الأخلاقيّ يفرض عليّ أن أصغي إلى خطاب الآخر الراغب في الإفصاح عن هويّته. بيد أنّ هذا الأمر عسيرٌ مربكٌ محفوفٌ بالالتباسات والمخاطر، إذ كيف يمكنني أن أفهم الآخر إلّا بواسطة الكلمات التي أستخدمها داخل الفضاء المعرفيّ الذي أنتمي إليه؟ ثمّة سؤالٌ أخطر: ما الذي يضمن لي استقامة التعريف الذي يسوقه الآخر في هويّته؟ هل يجوز لي أن أدّعي البراءة المعرفيّة وأخلي السبيل لسيلٍ من التعابير المدحيّة والأوصاف التقريظيّة يستخدمها الآخر في تمجيد ذاتيّته الثقافيّة؟
إذا اعتمدتُ اعتماداً مطلقاً على كلمات الآخر في وصف ذاته وقعتُ في العري الذاتيّ، وأوشكتُ أن أنتمي إلى أنظومة الآخر الثقافيّة. وهذا واقعٌ غريبٌ غالباً ما واجهه أهلُ الحوار الصادقون الذين أوغلوا في الانتساب إلى ثقافة الآخر، بحيث كفّوا عن استخدام المفاهيم التي تنبثق من ذاتيّتهم اللصيقة بهويّتهم. ربّ معترضٍ يخالف التحفّظ الذي أفصح عنه في هذه المقالة، ويحبّذ أن يخرج الإنسانُ من ذاتيّته خروجاً كاملاً حتّى يلاقي الآخر في غيريّة هويّته واختلافيّتها وجِدّتها وعصيانها على كلّ ضروب الأخذ الإكراهيّ. لا يربكني هذا التحدّي ولا يزعزع يقيني الحواريّ، شرطَ أن يذهب الناسُ إليه معاً، في الزمنيّة الحضاريّة عينها، على طواعيةٍ متجانسة، في عزمٍ صادقٍ منزّهٍ عن أغراض الهيمنة. حينئذ يحلو لنا أن نشهد خروجاً مشتركاً إلى آفاق جديدة لم يألفها الناسُ من قبل، ولم يتعوّدوا خوضَها في منعزلات هويّاتهم المغلقة. غير أنّ واقع التلاقي الحضاريّ الكونيّ لا يتيح مثل التساوق التناغميّ هذا بين الناس المقبلين على الحوار، إذ غالباً ما نقع على محاورين أفذاذ أفنَوا حياتهم في طلب الاختلاف وأتقنوا فنون الحرص على هويّات الآخرين، في حين أنّ من يواجههم في عمليّة الحوار ما برح قابعاً في زمنيّاتٍ ثقافيّةٍ متشنّجة متصلّبة مستكبرة.
أسوق مثالاً واحداً من أجل الإيضاح النافع. يُجمع أغلب المسيحيّين اليوم على دينونة حروب الإفرنجة أو ما يُدعى خطأً بالحروب الصليبيّة، ويُقرّون بأنّ إذاعة رسالة المحبّة في بشرى الخلاص تناقض مبدأ العنف. ولكن ما الذي جرى حتّى استطاع العقل اللاهوتيّ المسيحيّ أن يبلغ الخلاصة الفكريّة الناضجة السلاميّة الواعدة هذه؟ أعتقد أنّ التحوّلات الثقافيّة الجليلة التي أصابت مجتمعات الغرب في عصر النهضة الأُوروبّيّة وزمن الأنوار وحقبة الحداثة العلميّة جعلت الفكر الدِّينيّ المسيحيّ يعيد النظر في بعضٍ من مُسلّماته اللاهوتيّة العتيقة.
ثمّة أمرٌ آخر ينبغي إلقاء البال إليه، عنيتُ به التمييز الحصيف بين الجوهر الفكريّ والأعراض التاريخيّة. ذلك أنّ كلّ أنظومة ثقافيّة تنطوي على قدرةٍ استصفائيّة تنقيحيّة تطهيريّة تفرز الحقائق الأساسيّة من الانحرافات الطارئة. في إثر المجمع الڤاتيكانيّ الثاني (1962 - 1965) واجتهادات الكنائس الأرثوذوكسيّة والبروتستانتيّة في مجلس الكنائس العالميّ، استطاع الفكر اللاهوتيّ المسيحيّ المعاصر أن يعتمد الخطّة الإصلاحيّة هذه من غير أن يُبطل جوهر الإيمان المسيحيّ. ولكنّ مثل هذا التمييز لا يستقيم على الدوام، سواءٌ في المسيحيّة أو في الأنظومات الدِّينيّة والثقافيّة الأخرى. لذلك لا بدّ من معياريّة موضوعيّة محايدة منزّهة تجعلنا نقبل في هويّة الآخر ما هو صالحٌ ومفيدٌ ومُغنٍ، ونرفض فيها ما هو فاسدٌ ومضرٌّ ومُجحف.
قبل أن أستجلي بعض المعايير الهادية هذه، لا بدّ من السؤال الفلسفيّ الخطير الذي يستفسر عن أصل الانحراف التاريخيّ في الأنظومات الدِّينيّة والثقافيّة على اختلاف منابتها الفكريّة وقرائنها التاريخيّة. هل يكون الانحراف ناشباً في أصل الهويّة أم طارئاً عليها؟ لا أظنّ أنّ أحداً يستطيع أن يجيب عن هذا السؤال، سواءٌ داخل جماعته أو خارجها، من غير أن يتعرّض للنقد والتهجّم والاضطهاد. أعود إلى حروب الإفرنجة لأسأل: هل خرجت الطاقة العنفيّة هذه من صميم رسالة المسيح أم ابتُليت بها الكنيسة المسيحيّة من جرّاء ضلال بعض أبنائها المسؤولين المهيمنين على مقاليد السلطة فيها؟ يصحّ السؤال عينه في الماركسيّة: هل أتت انحرافاتُ النظام الشيوعيّ من صلب العقيدة الماركسيّة في جوهر بنيانها ومطلبها أم أصابتها بسببٍ من فساد العقول السياسيّة التي هيمنت على مصائر فكرة المساواة المنصفة والتوزيع العادل وواجب النضال التغييريّ البنيويّ؟ لا أخفي على القارئ أنّي أميل إلى بعضٍ من الارتباط الانتقائيّ الاصطفائيّ الطارئيّ الذي ينعقد بين عنصرٍ من عناصر الحقيقة، وضربٍ من ضروب الانحراف المسلكيّ في حياة الجماعة المعتصمة بهذه الحقيقة. بعض الحقائق الصلبة يستجلب العنف استجلاباً!
في جميع الأحوال، ينبغي لنا أن نجتهد حتّى نستخرج بعض المعايير الهادية التي تساعدنا في تقويم الخطاب المدحيّ الذي يحمله إلينا أصحابُ كلّ أنظومة وأهلُ كلّ جماعة. أعرف أنّ ما سأقوله منبثقٌ من خلاصات الحداثة التي تغلغلت في خلايا دماغنا وسرَت في شرايين أفكارنا. بيد أنّ موضوعيّة القول وحياديّته ونزاهته تشفع في استنقاذه من ردود المستائين من مثال الانفتاح الثقافيّ المستنير هذا. يقيني أنّ الناس يمكنهم أن يقبلوا ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم الجماعيّة شرطَ أن يأتي خطابُ الامتداح مَبنيّاً على ثلاثة أصول جوهريّة: أوّلاً، التزام الإنسيّة الأخلاقيّة الجامعة التي تنطوي عليها شرعة حقوق الإنسان الكونيّة وتستثمرها في تعزيز كرامة الشخص الإنسانيّ، وتحريره من جميع ألوان العبوديّات، ودفعه إلى تجاوز ذاتيّته التاريخيّة؛ ثانياً، الأمانة على جوهر الأنظومة الثقافيّة أو الدِّينيّة الذاتيّة في أبهى ما انطوت عليه من مثُل رفيعة سامية؛ ثالثاً، الانفتاحيّة النقديّة البنّاءة التي تجعل كلَّ إنسانٍ مُنتمٍ مقتنعٍ يقبل طوعاً إعادة النظر في تطوّر عمارته الفكريّة، وتقويم أدائها، وانتقاد التواءاتها، وتصويب اعوجاجاتها.
من الواضح أنّ المعايير الهادية هذه تضمن لجميع الناس التحاور السليم الشفّاف النزيه الرامي إلى تعزيز إنسانيّة الإنسان في جميع أبعادها الكيانيّة. إذا كان المعيار الأوّل (الإنسيّة الأخلاقيّة) والمعيار الثالث (الانفتاحيّة النقديّة) على وضوحٍ في المعنى، فإنّ المعيار الثاني (الأمانة على الجوهر) قد يلتبس على القارئ، إذ إنّ الأديان والأنظومات الثقافيّة والعمارات الفكريّة تختلف في استخراج الجواهر المنطوية في تراثاتها الأثيلة. غير أنّ الأمر ليس على هذا الإرباك. أعتقد أنّ الناس يدركون فطريّاً أنّ جوهر المسيحيّة المحبّة، وكلّ فكر مسيحيّ يخالف المحبّة يجب نبذه؛ وأنّ جوهر الإسلام الرحمة، وكلّ فكر إسلاميّ يناقض الرحمة يجب نقضه؛ وأنّ جوهر اليهوديّة الاستضافة الكيانيّة المجّانيّة، وكلّ فكر يهوديّ يعطّل هذه الاستضافة يجب إبطاله؛ وأنّ جوهر الهندوسيّة الانسيابيّة الكونيّة الفنائيّة، وأنّ جوهر البوذيّة اليقظة الوجدانيّة، وجوهر الماركسيّة المساواة، وجوهر الاشتراكيّة الإنصاف، وجوهر الليبرالية الحرّيّة، وجوهر النضال البيئيّ صون الطبيعة الأمّ. وعليه، فإنّ جوهر الجواهر في جميع الأنظومات، على ما كان يذهب إليه فيلسوفُ الدِّين اللاهوتيُّ البريطانيُّ جون هيك (1922-2012)، أن يخرج الإنسان من قوقعته الذاتيّة (self-centeredness) إلى رحابة الحقّ الكونيّ (Reality-centeredness).
- مفكر لبناني


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.

تحقيقات وقضايا أزياء متنوعة ارتداها مشاركون في انطلاق المرحلة الثانية من رحلة «إعادة إحياء قلب الجزيرة العربية» من الدرعية في 16 يناير 2023 (واس)

الأزياء تروي تاريخ الشعوب... لفظاً وتواصلاً

يقال إنك «بالملبس تستطيع أن تقول من أنت من دون أن تتفوه بكلمة» و«تستطيع الوصول إلى كل ما تتمناه في الحياة إن ارتديت الملابس المناسبة». وثمة أقوال كثيرة مشابهة تثير الرغبة في «اعتناق» المظهر.

أحمد الفاضل

طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
TT

طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري

يشكّل قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الركيزة الأساسية لأي حلّ دبلوماسي للحرب الإسرائيلية على لبنان، رغم التصدعات التي أصابته جراء الخروق المتكررة لمضامينه منذ إقراره في شهر أغسطس (آب) 2006. وعلى رغم أن الأحداث المتسارعة تجاوزته وسياسة التدمير التي تنفذها إسرائيل على كامل الأراضي اللبنانية جعلت من الصعب البناء عليه، فإن وزير الخارجية الأسبق طارق متري، تحدث عن «استحالة الاتفاق على قرار بديل عنه بفعل الانقسام الحاد داخل مجلس الأمن الدولي وامتلاك الولايات المتحدة الأميركية وروسيا حق النقض (الفيتو) لتعطيل أي قرار بديل». وشدد متري على أنه «لا بديل لهذا القرار وإن كان يحتاج إلى مقدمة جديدة وإعادة صياغة».

ثغرات تسهل الخرق

ثمة بنود ملتبسة في هذا القرار الدولي، تسببت بخرقه مراراً من إسرائيل و«حزب الله» على السواء؛ لكون كلّ منهما يفسّر هذه البنود بحسب رؤيته ومصلحته. ومتري هو أحد مهندسي الـ1701 عندما مثَّل لبنان وزيراً للخارجية بالوكالة في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وأشار إلى أن «كل قرارات مجلس الأمن يشوبها بعض الغموض، ومن يقرأ 1701 بتأنٍ يتبيّن أنه ينطوي على لهجة قوية، لكن منطوقه يحمل بعض التأويل». وقال متري في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مشكلة القرار 1701 الأساسية والتي كانت سبباً وراء تفسيره من نواحٍٍ مختلفة، أنه يدعو إلى وقف الأعمال العدائية وليس وقف إطلاق النار، وكذلك شابه الغموض أو عدم الوضوح، خصوصاً في الفقرة (8) التي تتحدث عن ترتيبات أمنية في المنطقة الفاصلة ما بين مجرى نهر الليطاني والخطّ الأزرق وجعلها خالية من المسلحين»، مشيراً إلى أن «هذا القرار صدر تحت الفصل السادس، لكن الالتباس الأكبر الذي شابه عندما تطرق إلى مهمة القوات الدولية (يونيفيل)؛ إذ أطلق يدها باتخاذ الإجراءات الضرورية كافة لمنع أي تواجد عسكري أو ظهور مسلّح غير شرعي كما لو أنه جاء تحت الفصل السابع». ويتابع متري قوله: «لكن للأسف هذه القوات لم تقم بدورها، وبدلاً عن أن تكون قوّة مراقبة وتدخل، باتت هي نفسها تحت المراقبة» (في إشارة إلى تعقبها من قِبل مناصري «حزب الله» واعتراضها).

ظروف صدور القرار

فرضت تطورات حرب يوليو (تموز) 2006 إصدار هذا القرار تحت النار والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل، ولم يخفِ الوزير متري أن «القرار 1701 لم يشبع درساً، وكان همّ كلّ الأطراف الاتفاق على ما يوقف الأعمال العدائية ولو كان ملتبساً». ويقول متري إن القرار «لم يكن ليصدر لو لم تتخذ حكومة لبنان برئاسة فؤاد السنيورة قراراً بإرسال 15 ألف جندي إلى الجنوب. لكن لأسباب متعددة لم يستطع لبنان أن يفي بوعده بإرسال هذا العدد من الجنود، أولاً لعدم توفر الإمكانات وانشغال الجيش بكثير من المهمات بينها حفظ الأمن الداخلي».

صحيح أن القرار الدولي كان عرضة للخرق الدائم وهذا كان موضع تقييم دائم من مجلس الأمن الدولي الذي لطالما حذّر من تجاوزه، لكنه بقي إطاراً ضابطاً للوضع الأمني على طول الخطّ الأزرق الفاصل ما بين لبنان وفلسطين المحتلّة.

جسر دمَّرته حرب 2006 شمال بيروت (غيتي)

وذكّر متري بأن «الفترة التي فصلت إقرار القانون ووقف الأعمال العدائية في عام 2006، وبين 7 أكتوبر (2023) لم يبادر (حزب الله) إلى الاصطدام بأحد، ولم يكن سلاحه ظاهراً كما غابت نشاطاته العسكرية، واعتبر نفسه مطبّقاً للقرار 1701 على النحو المطلوب، في حين أن إسرائيل خرقت السيادة اللبنانية جوّاً آلاف المرات، حتى أنها امتنعت عن إعطاء لبنان خرائط الألغام؛ وهو ما تسبب بسقوط عشرات الضحايا من المدنيين اللبنانيين». كذلك أشار متري إلى أن «دبلوماسيين غربيين تحدثوا عما يشبه الاتفاق الضمني بأن كلّ ما هو غير ظاهر من السلاح جنوبي الليطاني ينسجم القرار مع 1701، وأن (حزب الله) لم يقم بعمليات تخرق الخطّ الأزرق، بل كانت هناك عمليات في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا».

هل ما زال القرار قابلاً للحياة؟

يتردد طارق متري في الإجابة عن مستقبل هذا القرار؛ لأن «النوايا الفعلية لحكومة بنيامين نتنياهو غير واضحة». وسرعان ما يلفت إلى وجود تناقضات كبيرة في السياسة الدولية اليوم، ويقول: «الأميركيون يحذّرون نتنياهو من الغزو البرّي، لكنّ الأخير يزعم أنه يريد القيام بعمليات محدودة لضرب أهداف لـ(حزب الله)، وهذا غير مضمون»، مذكراً بأن «جناح اليمين المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية يدعو لاحتلال جزء من جنوب لبنان، لكنّ هؤلاء قلّة غير مؤثرة؛ لأن القرار في جنوب لبنان ونوعيّة الغزو البرّي تتخذه المؤسسة العسكرية»، متحدثاً عن «وجود إشارات متضاربة، إذ أنه عندما قدّم الأميركيون والفرنسيون ورقتهم لوقف النار، جاء التصعيد الإسرائيلي سريعاً في لبنان». وأضاف: «قبل الانتخابات الرئاسية يفضل الأميركيون ألا تندلع الحرب، وفي الوقت نفسه يغضون النظر عمّا تلحقه إسرائيل من أذى بحق المدنيين اللبنانيين».

سيناريو 2006

وتنطلق مخاوف وزير الخارجية السابق التجارب الإسرائيلية السابقة، قائلاً: «في عام 2006 زعمت إسرائيل أن الغاية من عملياتها في لبنان ضرب (حزب الله)، لكنها دمرت لبنان، واليوم تطبّق السيناريو نفسه، إن كانت لا تزال تحيّد مطار بيروت الدولي عن الاستهداف وتتجنّب تدمير الجسور، والفرنسيون متفهمون لذلك».

آثار القصف الإسرائيلي على بيروت خلال الحرب مع «حزب الله» عام 2006 (رويترز)

وشدد في الوقت نفسه على «مسؤولية لبنان بفتح نافذة دبلوماسية؛ إذ ليس لديه خيار سوى تطبيق القرار 1701 والاستعداد لإرسال الجيش إلى الجنوب». وتابع: «إسرائيل تعرف أن الحكومة اللبنانية ضعيفة وإذا حصلت على التزام لبناني بتطبيق القرار ستطالب بالأكثر».

وفي حين يسود اعتقاد بأن القرار 1701 لم يعد الوثيقة الدولية الصالحة لإنهاء الحرب القائمة على لبنان اليوم، استبعد طارق متري إصدار مجلس الأمن الدولي قراراً بديلاً عنه. ورأى أنه «يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يجدد المطالبة بتنفيذه مع إعادة صياغته ووضع مقدّمة جديدة له». وتحدث عن «استحالة صدور قرار جديد لأن مجلس الأمن الدولي مشلول ولا يمكن إصدار الاتفاق على بديل، لأن الفيتو الأميركي والروسي موجودون ولا إمكانية لقرار آخر». وأكد أن «التقدم الإسرائيلي ميدانياً سيقفل الباب أمام الحلّ الدبلوماسي، أما إذا تمكن (حزب الله) من الصمود أمام التدخل الإسرائيلي فهذا قد يفتح باباً أمام الحلول السياسية».