متى يظهر مثل «ذاك الولد» الذي غيّر تاريخ العالم؟

تشرتشل، صاحب التمثال في لندن، كان يقول «من شبّ على شيء شاب عليه» (رويترز)
تشرتشل، صاحب التمثال في لندن، كان يقول «من شبّ على شيء شاب عليه» (رويترز)
TT

متى يظهر مثل «ذاك الولد» الذي غيّر تاريخ العالم؟

تشرتشل، صاحب التمثال في لندن، كان يقول «من شبّ على شيء شاب عليه» (رويترز)
تشرتشل، صاحب التمثال في لندن، كان يقول «من شبّ على شيء شاب عليه» (رويترز)

لا يمكن لمن يتابع الأوضاع في بريطانيا والأزمات التي تتخبط بها هذه الأيام، أن يتساءل: هل أصبحت تلك الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس عاجزة عن إنتاج شخصية مثل تشرشل الذي لمع في قيادة تلك الإمبراطورية التي امتد استعمارها إلى الهند، وشمال وجنوب أفريقيا، ونيجيريا، وآسيا، والشرق الأوسط؟
ربما من المفيد تذكير الذين يتولون القيادة في بريطانيا، وربما تعريف الأجيال الجديدة في بريطانيا وغيرها من الدول، بتلك الشخصية التي تشعبت ميزاتها في عدة اتجاهات متجانسة أحياناً ومتناقضة أحياناً أخرى. لم تعرف الانكسار يوماً حتى عندما كانت في أحلك الظروف وفي خضم الحروب والأخطار حيث الفشل كان مؤكداً.
عرفناه سياسياً ورجل دولة وعرفناه مراسلاً صحافياً حربياً، عرفناه وزيراً وعرفناه كاتباً وأديباً، عرفناه رئيس وزراء وعرفناه مؤرخاً، عرفناه خطيباً قائداً وعرفناه رساماً فناناً، فكان رجلَ علم وعمل، ورئيس وزراء أوحد نال جائزة نوبل للآداب، وأول من منحته الولايات المتحدة الأميركية الجنسية الفخرية في عهد الرئيس جون كينيدي. إنه الرجل الذي ترك بصمة راسخة في قيادة الإمبراطورية البريطانية العظمى والكومونولث في سنوات الحرب العالمية الثانية العصبية الحرجة، فكان صاحب الرؤية والشجاعة والحنكة والذكاء لجعل النصر ممكناً عندما شعر بأن الخطر بات قريباً من بلاده.
وينستون ليونارد سبنسر تشرشل، الولد البكر الذي ينحدر من سلالة الدوقات الأرستقراطية لعائلات مارلبورو، وهي أحد فروع عائلة سبنسر الأشهر في بريطانيا، كان مستعجلاً للخروج إلى الدنيا في ولادة مبكرة في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1874 وقبل شهرين من موعدها في «قصر بلانهايم»، الذي وهبه البرلمان الإنجليزي إلى جون تشرشل الدوق الأول لعائلة مارلبورو في أكسفورد شاير في إنجلترا، وعاش فيه والده اللورد راندولف تشرشل، بعد دوق مارلبورو السابع، الوالد السياسي ذو الشخصية الكاريزمية الذي تبوّأ منصب وزير خزانة وأسس الحزب الرابع في البرلمان البريطاني وهو حزب «التوري - المحافظون الديمقراطيون» إلى جانب الأحزاب الثلاثة القائمة آنذاك: «المحافظون»، و«الليبراليون»، و«الآيرلنديون الوطنيون». أما والدته جيني فهي ابنة الرجل البارز في المجتمع الأميركي ليونارد جيروم المشهور في حلبات سباق الخيل ونوادي اليخوت، والجد الذي أحبه وينستون كثيراً وقال عنه: «إنه رجل رائع حقاً، يحب ما يفعل ويفعل ما يحب. أما جيروم فهي عائلة بغيضة ما عداي، فأنا العضو الوحيد الأليف بينهم».
وينستون، المولود الجديد البكر لعائلة عريقة معروفة، كيف ستكون طفولته؟ بالطبع، سيكون طفلاً محبوباً ومدلّلاً والعطف والحنان يحيط به من الجميع، خصوصاً من والديه. لكن للأسف، لم يكن الأمر كذلك، إن هذا الطفل الجميل جداً، كما وصفه أبوه، أُهمل وتُرك وحيداً في غرفته، فأبواه اللذان أحبا أحدهما الآخر كثيراً كانا مغرمين بحياة اللهو والسهر والسياسة بحضور أمير ويلز وفي عهد الملك إدوارد الثاني، أكثر مما كانا مغرمين بطفلهما الصغير ونادراً ما كانت الأم تدخل غرفة حضانته لتلقي نظرة خاطفة عليه، والأب كذلك. هكذا تُرك الطفل المسكين منذ ولادته برعاية مربيته التي أحبته كثيراً، رعته أكثر من والديه وكانت بمثابة أُم ثانية. إنها السيدة أفرست التي عوّضته عن حنان أمه وأبيه واهتمت به وهو صغير، وبنشأته وهو ينمو ويكبر، وبمتابعة دراسته وهو في المدرسة. وعندما دعتها المدرسة في هارو للحضور واصطحابه لقضاء العطلة الصيفية في منزله، طلبت منها إحضار أفضل بنطال لديه من أجل إلقاء قصيدة في منافسة شعرية لم يحضرها والداه المنهمكان بحياتهما فكان اللهو أهم لديهما من مشاهدة وسماع ولدهما ذي الاثنى عشر ربيعاً وهو يلقي قصيدة مؤلَّفة من ألف ومائتي بيت نال على أثرها الجائزة الوحيدة التي حازها في حياته وهي «جائزة ماكولي» للمنافسة الشعرية، كانت السيدة أفرست السيدة الوحيدة الموجودة من العائلة لتشجيعه.
إننا نتساءل: كيف كان شعوره حينئذٍ يا تُرى، هذا الولد الذكي الذي كان والده المتنمّر اللورد راندولف تشرشل يصفه بـ«ذاك الولد» البليد الكسول الذي لم يجده نافعاً في شيء؟!
أُرسل وينستون إلى مدرسة سانت جورج البريطانية، في أسكوت، في بيركشاير لمدة سنتين (1882 – 1884) أمضى خلالهما أسوأ سنين حياته. فمدير المدرسة، القس الساديّ هربرت ويليام، كان يؤمن بالعنف، وذات مرة ضربه ضرباً مبرحاً بالعصا مسبباً له بقعاً حمراء وندوباً وربما جروحاً، وكل ذلك من أجل سرقة حفنة من السَّكر. لكنَّ وينستون الذي لا يسكت عن ضيم، انتظر حتى تعافى ثم استغلّ الفرصة ليتسلّل إلى غرفة القس ويسرق قبعته القشّية التي يرتديها في المناسبات الرسمية وأخذ يركلها حتى مزّقها إرباً ورماها في الغابة. ثار وينستون ضد السلطة والظلم في المدرسة لذلك لم يأبه للاجتهاد والعمل والنجاح فيها. كل هذا ولّد لديه نقمة ليجعل منه تلميذاً متمرداً ثورياً عنيداً سيئ السلوك كسولاً مهملاً. فطبيعته الثورية لم تتأقلم مع النظام والانضباط والسلطة. وهكذا، جاء في الفصل الأول في المرتبة الحادية عشرة في صف كان عدده أحد عشر تلميذاً. عاش وينستون بين أبٍ متنمّر ومدير معنّف وما يحبس في داخله من كرهٍ ورفضٍ وخيبة أمل، والمأساة هي أن والده تأخر ليكتشف الحقيقة. فأرسله إلى مدرسة في برايتون تديرها سيدتان، لكنَّ وينستون سرعان ما أُصيب بالتهاب رئوي وكاد يفارق الحياة في سن الحادية عشرة. لدى شفائه، عاد والده اللورد راندولف بذاكرته إلى الوراء، أيام كان يراه وهو يلعب بألعاب الجنود باهتمام وتركيز لافت وهو جالس على أرض غرفة حضانته، فقرر إرساله إلى مدرسة هارو لإلحاقه بالكلية العسكرية الملكية البريطانية فيما بعد.
ذهب وينستون إلى المدرسة الرسمية الكبرى في هارو القريبة من لندن، وللمفارقة التقى فيها تلميذاً آخر هو اللورد بايرون فأصبحا اللوردين الوحيدين فيها. وأيضاً، اتّسم الفصل الأول بالإهمال، لكن الشيء الإيجابي الوحيد كان تفوّقه في مادة التاريخ التي أحبها كثيراً. وفي هذه المدرسة بالذات شعر لدى سماعه الأغاني الحماسية والأناشيد المدرسية بشيء رائع في داخله. تحرّك فيه الحس القومي وحبه للوطن لذا حفظ القصيدة المؤلفة من ألف ومائتي بيت عن ظهر قلب، والتي تتحدث عن أن الجميع يعمل من أجل الدولة لا من أجل الحزب والناس كلهم سواسية يحب بعضهم بعضاً ولا فرق بين فقير وغني.
بعد تخرّجه في هذه المدرسة، ولا أدري كم كان معدله، قرر والده إرساله إلى الكلية الحربية في ساندهرت وكان وينستون في سن السادسة عشرة حينها، لكن في الواقع أن السيدة أفرست هي التي شجعته على الانضمام إلى الكلية قائلةً: «أتمنى أن تحاول وتجتهد جيداً يا أعز الناس كي تسعد أمك وأباك، وتخيّب آمال الذين يتنبأون لك بمستقبل غير باهر. وهكذا تقدم وينستون للامتحان ثلاث مرات قبل أن ينجح في المرة الأخيرة وينضم إلى الكلية ويتخرج بعدها في المرتبة العشرين».
السؤال الذي يجول في البال: هل أثّر إهمال والديه في تطوّر حياته؟
أحب وينستون أمه كثيراً ولم يُلقِ اللوم عليها أبداً، بل بالعكس، أقنع نفسه بأنها أحبته كثيراً، فقال لها: «الآن، أنا حبيبك...». لكن بعد سنوات مضت أخذ يتذكر علاقته بأمه بطريقة أكثر صدقاً وعيناه الزرقاوتان تشعُّ فرحاً قائلاً: «كانت أمي أميرتي الجميلة المتألقة دائماً، ونورها يسحرني (كنجمة المساء). أحببتها كثيراً من بعيد». كذلك فعل أبوه أيضاً فأبقى المسافة بعيدة بينهما. يتذكر وينستون أنه، ذات مرة، عندما حاول تقديم المساعدة لأبيه، تجّمد مكانه متفاجئاً بعد أن شاهد ردة فعل أبيه السلبية الباردة، وفي وقت لاحق في أثناء قيادة السيارة آخر مرة إلى المحطة وبرفقته هو وأمه، ربت أبوه على ركبته وكانت تلك المرة الوحيدة التي أظهر فيها اللورد راندولف حبه لابنه، حيث توفي عن عمر يناهز خمسة وأربعين عاماً بعد معاناة من شلل دام سبع سنوات عانت بعدها العائلة من ظروف مادية صعبة وكان وينستون حينئذٍ في الحادية والعشرين من عمره.
كتب وينستون لأمه وهو في الثمانية عشر ربيعاً قائلاً: «لا أستطيع أن أقوم بشيء بشكل صائب... أظن أنني سوف أكون دائماً (ذاك الولد)، حتى ولو أصبحت في الخمسين».
يمكن أن يقال كثيراً عن السير وينستون تشرشل مما نعرفه ومما لا نعرفه، وكما يقول المثل: «في السادسة كذلك في الستين»، أو «من شبّ على شيء شاب عليه»، فإن هذه الطفولة البائسة الحزينة والمعاناة من حرمان عاطفي وتعنيف معنوي وجسدي وهذه الحياة التي تميّزت بالقهر والظلم، وللمفارقة، انعكست إيجاباً، ولحسن الحظ، على شخصية مستقلة قوية في قراراتها كما ظهر في رفضه الخضوع لألمانيا في أثناء الحرب العالمية الثانية رغم خضوع بعض دول الحلفاء لها، شخصية قادرة على الصبر والتحمّل وعدم السكوت عن ضيم، وهذا ما سبَّب له فشلاً عدة مرات كان المسؤول عن بعضها اتخاذ قرارات خاطئة عائدة لسياسيين آخرين، شخصية لا تنكسر ولا تتقبّل الإحباط، وعند شعوره بذلك كان وينستون يلجأ إلى الكتابة والرسم، شخصية ذات قدرة على الإقناع كالخطابات التي ألقاها أمام الشعب الإنجليزي إبّان وفي أثناء الحرب العالمية الثانية وقدرته على إقناع الولايات المتحدة الأميركية في عهد الرئيس روزفلت لدخول الحرب مع الحلفاء بعد غارات الطائرات اليابانية على قاعدة «بيرل هاربر» البحرية وتدمير الأسطول الأميركي فيها وإلحاق الهزيمة بدول المحور، ما غيّر مسار الحرب ومجرى التاريخ أيضاً. إنّ «ذاك الولد غيّر تاريخ العالم»، وغيرها من الأحداث المشهود لها.
يمكن أن يُقال الكثير عن هذا الطفل وهذا الرجل الذي تميّز بصفات قلّ نظيرها، فأين نحن من شخصية كهذه تظهر فجأة كمعجزة في بلد ما لتنقذه من محنته؟!
- باحثة لبنانية


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
TT

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)

بعد عام على هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول)، تتخبط منطقة الشرق الأوسط في موجة تصعيد مستمر، من دون أي بوادر حلحلة في الأفق. فمن الواضح أن إسرائيل مصرة على الخيارات العسكرية التصعيدية، ضاربة بعرض الحائط كل المبادرات الدولية للتهدئة، ومن الواضح أيضاً أن الولايات المتحدة وإدارة الرئيس جو بايدن، إما عاجزتان عن التأثير على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وإما غير مستعدتين لممارسة ضغوطات كافية عليه للتجاوب مع دعواتها لوقف التصعيد. هذا في وقت تعيش فيه الولايات المتحدة موسماً انتخاباً ساخناً تتمحور فيه القرارات حول كيفية تأثيرها على السباق الرئاسي.

السؤال الأبرز المطروح حالياً هو عما إذا كان هناك استراتيجية أميركية ما حيال ملف الشرق الأوسط، انطلاقاً من الحرب الدائرة منذ عام. فقد واجهت الإدارة الحالية انتقادات حادة بسبب غياب منطقة الشرق الأوسط عن لائحة أولوياتها منذ تسلم بايدن السلطة. ولكن الأمور منذ 7 أكتوبر 2023 تغيرت جذرياً.

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى غيث العمري، المستشار السابق لفريق المفاوضات الفلسطيني خلال محادثات الوضع الدائم وكبير الباحثين في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي رأى أن الإدارة الأميركية سعت فعلياً إلى عدم إعطاء الأولوية لمنطقة الشرق الأوسط، وحوّلت تركيزها ومواردها إلى أولويات أخرى. ويقول العمري: «جاءت هجمات 7 أكتوبر لتفاجئ الولايات المتحدة التي لم تكن مستعدة لها، والتي افتقرت لما يلزم لمواجهة أزمة بهذا الحجم». ويرى العمري أن الولايات المتحدة اعتمدت منذ السابع من أكتوبر وحتى تاريخنا هذا على سياسة «مجزأة مبنية على رد الفعل»، مضيفاً: «إنها لم تتمكن من رسم المشهد الاستراتيجي أو ممارسة النفوذ على حلفائها الإقليميين».

امرأة تعرض صورة لجنود إسرائيليين بعد استعادتهم لموقع كفرعزّة إثر هجمات 7 أكتوبر 2023 (د.ب.أ)

تحدثت «الشرق الأوسط» أيضاً إلى جون الترمان، المسؤول السابق في وزارة الخارجية ومدير برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية، فقال: «فشلت إدارة بايدن بالتأكيد في تحقيق العديد من أهدافها في العام الماضي، ولكن في الوقت نفسه لم تندلع حرب إقليمية كبيرة بعد». ويعرب الترمان عن «دهشته» من أنه ورغم «الإخفاقات»، فإن الولايات المتحدة «لا تزال هي النقطة المحورية للدبلوماسية الإقليمية».

وفيما تدافع إدارة بايدن عن أدائها بالقول إنها أظهرت الردع من خلال إرسال تعزيزات أميركية إلى المنطقة، إلا أن العمري يختلف مع هذه المقاربة، لافتاً إلى أن نشر هذه الأصول العسكرية ربما ساهم في المراحل المبكرة من الحرب «في ردع إيران و(حزب الله) من الانخراط في تصعيد كبير، إلا أنه فشل في ردعهما إلى جانب وكلائهما كالحوثيين من الانخراط في أنشطة خبيثة على مستوى منخفض». وأضاف: «لقد تسبب ذلك في زيادة الضغط، وأدى في النهاية إلى انتقال الحرب إلى لبنان وربما مناطق أخرى».

الدبلوماسية «هي الحل»

في خضم التصعيد، تبقى إدارة بايدن مصرة على تكرار التصريحات نفسها من أن الحل الدبلوماسي هو الحل الوحيد، محذرة من توسع رقعة الصراع في المنطقة. وعن ذلك يقول الترمان إن بايدن يريد حلولاً دبلوماسية؛ «لأن الحلول العسكرية تتطلب هزيمة شاملة لأحد الأطراف. ونظراً للرّهانات العالية لكلا الجانبين، فإن الحل العسكري بعيد المنال، وسينجم عنه المزيد من الموت والدمار أكثر بكثير مما شهدناه حتى الآن».

أما العمري فيرى أن التركيز على الدبلوماسية هو أمر مناسب؛ لأنه «في نهاية المطاف، تنتهي الحروب وستكون هناك حاجة إلى حل دبلوماسي»، مضيفاً: «عندما يأتي (اليوم التالي)، يجب أن تكون الأسس لترتيبات دبلوماسية جاهزة».

إلا أن العمري يحذر في الوقت نفسه من أن الدبلوماسية وحدها غير كافية إذا لم تكن مدعومة بقوة واضحة، بما في ذلك القوة العسكرية، ويفسر ذلك قائلاً: «إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من إقناع خصومها بأنها مستعدة لاستخدام قوتها لإيذائهم، وحلفائها بأنها مستعدة لفعل ما يلزم لمساعدتهم، فإن نفوذها تجاه الطرفين سيكون محدوداً».

تجميد الأسلحة لإسرائيل

سقوط أعداد هائلة من المدنيين في حربي غزة ولبنان منذ بدء العمليات الإسرائيلية للرد على هجمات 7 أكتوبر 2023، دفع الكثيرين إلى دعوة بايدن لوضع قيود على الأسلحة الأميركية لإسرائيل، بهدف ممارسة نوع من الضغوط على نتنياهو لوقف التصعيد، لكن الترمان يرفض النظرة القائلة بأن تجميد الأسلحة سيمهد للحل، ويفسر قائلاً: «إذا اعتمدت إدارة بايدن هذه المقاربة، أتوقع أن يعترض الكونغرس بشدة، وقد تكون النتيجة عرضاً للضعف والهشاشة في سياسة البيت الأبيض، بدلاً من صورة تقديم حلول». ويحذّر الترمان من أن خطوة من هذا النوع من شأنها كذلك أن تدفع إسرائيل إلى «الشعور بمزيد من العزلة التي قد تولّد بالتالي شعوراً أكبر بعدم الالتزام بأي قيود».

الرئيس الأميركي جو بايدن خارجاً من البيت الأبيض ليستقل الطائرة إلى نيويورك (أ.ب)

ويوافق العمري مع هذه المقاربة، مشيراً إلى أنه «من غير الواضح أن أي وسيلة ضغط ستنجح»، فيقول: «إسرائيل تشعر بأنها مهددة وجودياً، مما يجعلها أقل استعداداً لتقبل أي تأثير خارجي». ويوفر العمري نظرة شاملة عن مقاربة الإدارة الأميركية في غزة ولبنان التي تحد من الضغوط التي ترغب في ممارستها على إسرائيل، فيفسر قائلاً: «رغم أن الولايات المتحدة غير راضية عن بعض جوانب سير الحرب، خصوصاً فيما يتعلق بالخسائر البشرية بين المدنيين، فإنها تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بعد السابع من أكتوبر». لهذا السبب يشير العمري إلى أن الولايات المتحدة تحتاج إلى تحقيق توازن في الضغط بطرق يمكن أن تغير سلوك إسرائيل «دون تقييد قدرتها على تحقيق الهدف المشروع المتمثل في هزيمة (حماس)»، مضيفاً: «هذا التوازن ليس سهلاً».

بالإضافة إلى ذلك، يذكّر العمري بطبيعة العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي «تتجاوز القضية الإسرائيلية - الفلسطينية»، فيقول: «الولايات المتحدة تستفيد استراتيجياً من هذه العلاقة، بما في ذلك الفوائد المتعلقة بالتهديدات الإقليمية الأخرى مثل الأنشطة الإيرانية. وبذلك، فإن الولايات المتحدة لديها مصالحها الاستراتيجية الخاصة التي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار».

أي حل في نهاية النفق

رغم التصعيد المستمر، تعمل الولايات المتحدة على بناء استراتيجية تضمن عدم خروج الأمور عن السيطرة، ودخول إيران على خط المواجهة، ويشدد العمري على أن «الأولوية الآن هي ضمان بقاء إيران خارج هذه الحرب»، مشيراً إلى أن هذا الأمر ضروري للحد من انتشار الصراع، و«لإضعاف مصداقية إيران الإقليمية ونفوذها مع وكلائها»، لكنه يرى في الوقت نفسه أنه «لا يمكن تحقيق مثل هذه النتيجة إلا إذا كانت إيران مقتنعة بأن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام العمل العسكري».

عنصران من الدفاع المدني الفلسطيني في دير البلح في غزة (أ.ف.ب)

أما الترمان الذي يؤكد ضرورة استمرار الولايات المتحدة «في تقديم مسار للمضي قدماً لجميع الأطراف»، فيحذّر من أن هذا لا يعني أنها يجب أن «تحمي الأطراف من العواقب الناجمة عن أفعالهم»، ويختم قائلاً: «هناك مفهوم يسمى (الخطر الأخلاقي)، يعني أن الناس يميلون إلى اتخاذ سلوكيات أكثر خطورة إذا اعتقدوا أن الآخرين سيحمونهم من الخسارة».