متى يظهر مثل «ذاك الولد» الذي غيّر تاريخ العالم؟

تشرتشل، صاحب التمثال في لندن، كان يقول «من شبّ على شيء شاب عليه» (رويترز)
تشرتشل، صاحب التمثال في لندن، كان يقول «من شبّ على شيء شاب عليه» (رويترز)
TT

متى يظهر مثل «ذاك الولد» الذي غيّر تاريخ العالم؟

تشرتشل، صاحب التمثال في لندن، كان يقول «من شبّ على شيء شاب عليه» (رويترز)
تشرتشل، صاحب التمثال في لندن، كان يقول «من شبّ على شيء شاب عليه» (رويترز)

لا يمكن لمن يتابع الأوضاع في بريطانيا والأزمات التي تتخبط بها هذه الأيام، أن يتساءل: هل أصبحت تلك الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس عاجزة عن إنتاج شخصية مثل تشرشل الذي لمع في قيادة تلك الإمبراطورية التي امتد استعمارها إلى الهند، وشمال وجنوب أفريقيا، ونيجيريا، وآسيا، والشرق الأوسط؟
ربما من المفيد تذكير الذين يتولون القيادة في بريطانيا، وربما تعريف الأجيال الجديدة في بريطانيا وغيرها من الدول، بتلك الشخصية التي تشعبت ميزاتها في عدة اتجاهات متجانسة أحياناً ومتناقضة أحياناً أخرى. لم تعرف الانكسار يوماً حتى عندما كانت في أحلك الظروف وفي خضم الحروب والأخطار حيث الفشل كان مؤكداً.
عرفناه سياسياً ورجل دولة وعرفناه مراسلاً صحافياً حربياً، عرفناه وزيراً وعرفناه كاتباً وأديباً، عرفناه رئيس وزراء وعرفناه مؤرخاً، عرفناه خطيباً قائداً وعرفناه رساماً فناناً، فكان رجلَ علم وعمل، ورئيس وزراء أوحد نال جائزة نوبل للآداب، وأول من منحته الولايات المتحدة الأميركية الجنسية الفخرية في عهد الرئيس جون كينيدي. إنه الرجل الذي ترك بصمة راسخة في قيادة الإمبراطورية البريطانية العظمى والكومونولث في سنوات الحرب العالمية الثانية العصبية الحرجة، فكان صاحب الرؤية والشجاعة والحنكة والذكاء لجعل النصر ممكناً عندما شعر بأن الخطر بات قريباً من بلاده.
وينستون ليونارد سبنسر تشرشل، الولد البكر الذي ينحدر من سلالة الدوقات الأرستقراطية لعائلات مارلبورو، وهي أحد فروع عائلة سبنسر الأشهر في بريطانيا، كان مستعجلاً للخروج إلى الدنيا في ولادة مبكرة في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1874 وقبل شهرين من موعدها في «قصر بلانهايم»، الذي وهبه البرلمان الإنجليزي إلى جون تشرشل الدوق الأول لعائلة مارلبورو في أكسفورد شاير في إنجلترا، وعاش فيه والده اللورد راندولف تشرشل، بعد دوق مارلبورو السابع، الوالد السياسي ذو الشخصية الكاريزمية الذي تبوّأ منصب وزير خزانة وأسس الحزب الرابع في البرلمان البريطاني وهو حزب «التوري - المحافظون الديمقراطيون» إلى جانب الأحزاب الثلاثة القائمة آنذاك: «المحافظون»، و«الليبراليون»، و«الآيرلنديون الوطنيون». أما والدته جيني فهي ابنة الرجل البارز في المجتمع الأميركي ليونارد جيروم المشهور في حلبات سباق الخيل ونوادي اليخوت، والجد الذي أحبه وينستون كثيراً وقال عنه: «إنه رجل رائع حقاً، يحب ما يفعل ويفعل ما يحب. أما جيروم فهي عائلة بغيضة ما عداي، فأنا العضو الوحيد الأليف بينهم».
وينستون، المولود الجديد البكر لعائلة عريقة معروفة، كيف ستكون طفولته؟ بالطبع، سيكون طفلاً محبوباً ومدلّلاً والعطف والحنان يحيط به من الجميع، خصوصاً من والديه. لكن للأسف، لم يكن الأمر كذلك، إن هذا الطفل الجميل جداً، كما وصفه أبوه، أُهمل وتُرك وحيداً في غرفته، فأبواه اللذان أحبا أحدهما الآخر كثيراً كانا مغرمين بحياة اللهو والسهر والسياسة بحضور أمير ويلز وفي عهد الملك إدوارد الثاني، أكثر مما كانا مغرمين بطفلهما الصغير ونادراً ما كانت الأم تدخل غرفة حضانته لتلقي نظرة خاطفة عليه، والأب كذلك. هكذا تُرك الطفل المسكين منذ ولادته برعاية مربيته التي أحبته كثيراً، رعته أكثر من والديه وكانت بمثابة أُم ثانية. إنها السيدة أفرست التي عوّضته عن حنان أمه وأبيه واهتمت به وهو صغير، وبنشأته وهو ينمو ويكبر، وبمتابعة دراسته وهو في المدرسة. وعندما دعتها المدرسة في هارو للحضور واصطحابه لقضاء العطلة الصيفية في منزله، طلبت منها إحضار أفضل بنطال لديه من أجل إلقاء قصيدة في منافسة شعرية لم يحضرها والداه المنهمكان بحياتهما فكان اللهو أهم لديهما من مشاهدة وسماع ولدهما ذي الاثنى عشر ربيعاً وهو يلقي قصيدة مؤلَّفة من ألف ومائتي بيت نال على أثرها الجائزة الوحيدة التي حازها في حياته وهي «جائزة ماكولي» للمنافسة الشعرية، كانت السيدة أفرست السيدة الوحيدة الموجودة من العائلة لتشجيعه.
إننا نتساءل: كيف كان شعوره حينئذٍ يا تُرى، هذا الولد الذكي الذي كان والده المتنمّر اللورد راندولف تشرشل يصفه بـ«ذاك الولد» البليد الكسول الذي لم يجده نافعاً في شيء؟!
أُرسل وينستون إلى مدرسة سانت جورج البريطانية، في أسكوت، في بيركشاير لمدة سنتين (1882 – 1884) أمضى خلالهما أسوأ سنين حياته. فمدير المدرسة، القس الساديّ هربرت ويليام، كان يؤمن بالعنف، وذات مرة ضربه ضرباً مبرحاً بالعصا مسبباً له بقعاً حمراء وندوباً وربما جروحاً، وكل ذلك من أجل سرقة حفنة من السَّكر. لكنَّ وينستون الذي لا يسكت عن ضيم، انتظر حتى تعافى ثم استغلّ الفرصة ليتسلّل إلى غرفة القس ويسرق قبعته القشّية التي يرتديها في المناسبات الرسمية وأخذ يركلها حتى مزّقها إرباً ورماها في الغابة. ثار وينستون ضد السلطة والظلم في المدرسة لذلك لم يأبه للاجتهاد والعمل والنجاح فيها. كل هذا ولّد لديه نقمة ليجعل منه تلميذاً متمرداً ثورياً عنيداً سيئ السلوك كسولاً مهملاً. فطبيعته الثورية لم تتأقلم مع النظام والانضباط والسلطة. وهكذا، جاء في الفصل الأول في المرتبة الحادية عشرة في صف كان عدده أحد عشر تلميذاً. عاش وينستون بين أبٍ متنمّر ومدير معنّف وما يحبس في داخله من كرهٍ ورفضٍ وخيبة أمل، والمأساة هي أن والده تأخر ليكتشف الحقيقة. فأرسله إلى مدرسة في برايتون تديرها سيدتان، لكنَّ وينستون سرعان ما أُصيب بالتهاب رئوي وكاد يفارق الحياة في سن الحادية عشرة. لدى شفائه، عاد والده اللورد راندولف بذاكرته إلى الوراء، أيام كان يراه وهو يلعب بألعاب الجنود باهتمام وتركيز لافت وهو جالس على أرض غرفة حضانته، فقرر إرساله إلى مدرسة هارو لإلحاقه بالكلية العسكرية الملكية البريطانية فيما بعد.
ذهب وينستون إلى المدرسة الرسمية الكبرى في هارو القريبة من لندن، وللمفارقة التقى فيها تلميذاً آخر هو اللورد بايرون فأصبحا اللوردين الوحيدين فيها. وأيضاً، اتّسم الفصل الأول بالإهمال، لكن الشيء الإيجابي الوحيد كان تفوّقه في مادة التاريخ التي أحبها كثيراً. وفي هذه المدرسة بالذات شعر لدى سماعه الأغاني الحماسية والأناشيد المدرسية بشيء رائع في داخله. تحرّك فيه الحس القومي وحبه للوطن لذا حفظ القصيدة المؤلفة من ألف ومائتي بيت عن ظهر قلب، والتي تتحدث عن أن الجميع يعمل من أجل الدولة لا من أجل الحزب والناس كلهم سواسية يحب بعضهم بعضاً ولا فرق بين فقير وغني.
بعد تخرّجه في هذه المدرسة، ولا أدري كم كان معدله، قرر والده إرساله إلى الكلية الحربية في ساندهرت وكان وينستون في سن السادسة عشرة حينها، لكن في الواقع أن السيدة أفرست هي التي شجعته على الانضمام إلى الكلية قائلةً: «أتمنى أن تحاول وتجتهد جيداً يا أعز الناس كي تسعد أمك وأباك، وتخيّب آمال الذين يتنبأون لك بمستقبل غير باهر. وهكذا تقدم وينستون للامتحان ثلاث مرات قبل أن ينجح في المرة الأخيرة وينضم إلى الكلية ويتخرج بعدها في المرتبة العشرين».
السؤال الذي يجول في البال: هل أثّر إهمال والديه في تطوّر حياته؟
أحب وينستون أمه كثيراً ولم يُلقِ اللوم عليها أبداً، بل بالعكس، أقنع نفسه بأنها أحبته كثيراً، فقال لها: «الآن، أنا حبيبك...». لكن بعد سنوات مضت أخذ يتذكر علاقته بأمه بطريقة أكثر صدقاً وعيناه الزرقاوتان تشعُّ فرحاً قائلاً: «كانت أمي أميرتي الجميلة المتألقة دائماً، ونورها يسحرني (كنجمة المساء). أحببتها كثيراً من بعيد». كذلك فعل أبوه أيضاً فأبقى المسافة بعيدة بينهما. يتذكر وينستون أنه، ذات مرة، عندما حاول تقديم المساعدة لأبيه، تجّمد مكانه متفاجئاً بعد أن شاهد ردة فعل أبيه السلبية الباردة، وفي وقت لاحق في أثناء قيادة السيارة آخر مرة إلى المحطة وبرفقته هو وأمه، ربت أبوه على ركبته وكانت تلك المرة الوحيدة التي أظهر فيها اللورد راندولف حبه لابنه، حيث توفي عن عمر يناهز خمسة وأربعين عاماً بعد معاناة من شلل دام سبع سنوات عانت بعدها العائلة من ظروف مادية صعبة وكان وينستون حينئذٍ في الحادية والعشرين من عمره.
كتب وينستون لأمه وهو في الثمانية عشر ربيعاً قائلاً: «لا أستطيع أن أقوم بشيء بشكل صائب... أظن أنني سوف أكون دائماً (ذاك الولد)، حتى ولو أصبحت في الخمسين».
يمكن أن يقال كثيراً عن السير وينستون تشرشل مما نعرفه ومما لا نعرفه، وكما يقول المثل: «في السادسة كذلك في الستين»، أو «من شبّ على شيء شاب عليه»، فإن هذه الطفولة البائسة الحزينة والمعاناة من حرمان عاطفي وتعنيف معنوي وجسدي وهذه الحياة التي تميّزت بالقهر والظلم، وللمفارقة، انعكست إيجاباً، ولحسن الحظ، على شخصية مستقلة قوية في قراراتها كما ظهر في رفضه الخضوع لألمانيا في أثناء الحرب العالمية الثانية رغم خضوع بعض دول الحلفاء لها، شخصية قادرة على الصبر والتحمّل وعدم السكوت عن ضيم، وهذا ما سبَّب له فشلاً عدة مرات كان المسؤول عن بعضها اتخاذ قرارات خاطئة عائدة لسياسيين آخرين، شخصية لا تنكسر ولا تتقبّل الإحباط، وعند شعوره بذلك كان وينستون يلجأ إلى الكتابة والرسم، شخصية ذات قدرة على الإقناع كالخطابات التي ألقاها أمام الشعب الإنجليزي إبّان وفي أثناء الحرب العالمية الثانية وقدرته على إقناع الولايات المتحدة الأميركية في عهد الرئيس روزفلت لدخول الحرب مع الحلفاء بعد غارات الطائرات اليابانية على قاعدة «بيرل هاربر» البحرية وتدمير الأسطول الأميركي فيها وإلحاق الهزيمة بدول المحور، ما غيّر مسار الحرب ومجرى التاريخ أيضاً. إنّ «ذاك الولد غيّر تاريخ العالم»، وغيرها من الأحداث المشهود لها.
يمكن أن يُقال الكثير عن هذا الطفل وهذا الرجل الذي تميّز بصفات قلّ نظيرها، فأين نحن من شخصية كهذه تظهر فجأة كمعجزة في بلد ما لتنقذه من محنته؟!
- باحثة لبنانية


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
TT

طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري

يشكّل قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الركيزة الأساسية لأي حلّ دبلوماسي للحرب الإسرائيلية على لبنان، رغم التصدعات التي أصابته جراء الخروق المتكررة لمضامينه منذ إقراره في شهر أغسطس (آب) 2006. وعلى رغم أن الأحداث المتسارعة تجاوزته وسياسة التدمير التي تنفذها إسرائيل على كامل الأراضي اللبنانية جعلت من الصعب البناء عليه، فإن وزير الخارجية الأسبق طارق متري، تحدث عن «استحالة الاتفاق على قرار بديل عنه بفعل الانقسام الحاد داخل مجلس الأمن الدولي وامتلاك الولايات المتحدة الأميركية وروسيا حق النقض (الفيتو) لتعطيل أي قرار بديل». وشدد متري على أنه «لا بديل لهذا القرار وإن كان يحتاج إلى مقدمة جديدة وإعادة صياغة».

ثغرات تسهل الخرق

ثمة بنود ملتبسة في هذا القرار الدولي، تسببت بخرقه مراراً من إسرائيل و«حزب الله» على السواء؛ لكون كلّ منهما يفسّر هذه البنود بحسب رؤيته ومصلحته. ومتري هو أحد مهندسي الـ1701 عندما مثَّل لبنان وزيراً للخارجية بالوكالة في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وأشار إلى أن «كل قرارات مجلس الأمن يشوبها بعض الغموض، ومن يقرأ 1701 بتأنٍ يتبيّن أنه ينطوي على لهجة قوية، لكن منطوقه يحمل بعض التأويل». وقال متري في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مشكلة القرار 1701 الأساسية والتي كانت سبباً وراء تفسيره من نواحٍٍ مختلفة، أنه يدعو إلى وقف الأعمال العدائية وليس وقف إطلاق النار، وكذلك شابه الغموض أو عدم الوضوح، خصوصاً في الفقرة (8) التي تتحدث عن ترتيبات أمنية في المنطقة الفاصلة ما بين مجرى نهر الليطاني والخطّ الأزرق وجعلها خالية من المسلحين»، مشيراً إلى أن «هذا القرار صدر تحت الفصل السادس، لكن الالتباس الأكبر الذي شابه عندما تطرق إلى مهمة القوات الدولية (يونيفيل)؛ إذ أطلق يدها باتخاذ الإجراءات الضرورية كافة لمنع أي تواجد عسكري أو ظهور مسلّح غير شرعي كما لو أنه جاء تحت الفصل السابع». ويتابع متري قوله: «لكن للأسف هذه القوات لم تقم بدورها، وبدلاً عن أن تكون قوّة مراقبة وتدخل، باتت هي نفسها تحت المراقبة» (في إشارة إلى تعقبها من قِبل مناصري «حزب الله» واعتراضها).

ظروف صدور القرار

فرضت تطورات حرب يوليو (تموز) 2006 إصدار هذا القرار تحت النار والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل، ولم يخفِ الوزير متري أن «القرار 1701 لم يشبع درساً، وكان همّ كلّ الأطراف الاتفاق على ما يوقف الأعمال العدائية ولو كان ملتبساً». ويقول متري إن القرار «لم يكن ليصدر لو لم تتخذ حكومة لبنان برئاسة فؤاد السنيورة قراراً بإرسال 15 ألف جندي إلى الجنوب. لكن لأسباب متعددة لم يستطع لبنان أن يفي بوعده بإرسال هذا العدد من الجنود، أولاً لعدم توفر الإمكانات وانشغال الجيش بكثير من المهمات بينها حفظ الأمن الداخلي».

صحيح أن القرار الدولي كان عرضة للخرق الدائم وهذا كان موضع تقييم دائم من مجلس الأمن الدولي الذي لطالما حذّر من تجاوزه، لكنه بقي إطاراً ضابطاً للوضع الأمني على طول الخطّ الأزرق الفاصل ما بين لبنان وفلسطين المحتلّة.

جسر دمَّرته حرب 2006 شمال بيروت (غيتي)

وذكّر متري بأن «الفترة التي فصلت إقرار القانون ووقف الأعمال العدائية في عام 2006، وبين 7 أكتوبر (2023) لم يبادر (حزب الله) إلى الاصطدام بأحد، ولم يكن سلاحه ظاهراً كما غابت نشاطاته العسكرية، واعتبر نفسه مطبّقاً للقرار 1701 على النحو المطلوب، في حين أن إسرائيل خرقت السيادة اللبنانية جوّاً آلاف المرات، حتى أنها امتنعت عن إعطاء لبنان خرائط الألغام؛ وهو ما تسبب بسقوط عشرات الضحايا من المدنيين اللبنانيين». كذلك أشار متري إلى أن «دبلوماسيين غربيين تحدثوا عما يشبه الاتفاق الضمني بأن كلّ ما هو غير ظاهر من السلاح جنوبي الليطاني ينسجم القرار مع 1701، وأن (حزب الله) لم يقم بعمليات تخرق الخطّ الأزرق، بل كانت هناك عمليات في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا».

هل ما زال القرار قابلاً للحياة؟

يتردد طارق متري في الإجابة عن مستقبل هذا القرار؛ لأن «النوايا الفعلية لحكومة بنيامين نتنياهو غير واضحة». وسرعان ما يلفت إلى وجود تناقضات كبيرة في السياسة الدولية اليوم، ويقول: «الأميركيون يحذّرون نتنياهو من الغزو البرّي، لكنّ الأخير يزعم أنه يريد القيام بعمليات محدودة لضرب أهداف لـ(حزب الله)، وهذا غير مضمون»، مذكراً بأن «جناح اليمين المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية يدعو لاحتلال جزء من جنوب لبنان، لكنّ هؤلاء قلّة غير مؤثرة؛ لأن القرار في جنوب لبنان ونوعيّة الغزو البرّي تتخذه المؤسسة العسكرية»، متحدثاً عن «وجود إشارات متضاربة، إذ أنه عندما قدّم الأميركيون والفرنسيون ورقتهم لوقف النار، جاء التصعيد الإسرائيلي سريعاً في لبنان». وأضاف: «قبل الانتخابات الرئاسية يفضل الأميركيون ألا تندلع الحرب، وفي الوقت نفسه يغضون النظر عمّا تلحقه إسرائيل من أذى بحق المدنيين اللبنانيين».

سيناريو 2006

وتنطلق مخاوف وزير الخارجية السابق التجارب الإسرائيلية السابقة، قائلاً: «في عام 2006 زعمت إسرائيل أن الغاية من عملياتها في لبنان ضرب (حزب الله)، لكنها دمرت لبنان، واليوم تطبّق السيناريو نفسه، إن كانت لا تزال تحيّد مطار بيروت الدولي عن الاستهداف وتتجنّب تدمير الجسور، والفرنسيون متفهمون لذلك».

آثار القصف الإسرائيلي على بيروت خلال الحرب مع «حزب الله» عام 2006 (رويترز)

وشدد في الوقت نفسه على «مسؤولية لبنان بفتح نافذة دبلوماسية؛ إذ ليس لديه خيار سوى تطبيق القرار 1701 والاستعداد لإرسال الجيش إلى الجنوب». وتابع: «إسرائيل تعرف أن الحكومة اللبنانية ضعيفة وإذا حصلت على التزام لبناني بتطبيق القرار ستطالب بالأكثر».

وفي حين يسود اعتقاد بأن القرار 1701 لم يعد الوثيقة الدولية الصالحة لإنهاء الحرب القائمة على لبنان اليوم، استبعد طارق متري إصدار مجلس الأمن الدولي قراراً بديلاً عنه. ورأى أنه «يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يجدد المطالبة بتنفيذه مع إعادة صياغته ووضع مقدّمة جديدة له». وتحدث عن «استحالة صدور قرار جديد لأن مجلس الأمن الدولي مشلول ولا يمكن إصدار الاتفاق على بديل، لأن الفيتو الأميركي والروسي موجودون ولا إمكانية لقرار آخر». وأكد أن «التقدم الإسرائيلي ميدانياً سيقفل الباب أمام الحلّ الدبلوماسي، أما إذا تمكن (حزب الله) من الصمود أمام التدخل الإسرائيلي فهذا قد يفتح باباً أمام الحلول السياسية».