متى يظهر مثل «ذاك الولد» الذي غيّر تاريخ العالم؟

تشرتشل، صاحب التمثال في لندن، كان يقول «من شبّ على شيء شاب عليه» (رويترز)
تشرتشل، صاحب التمثال في لندن، كان يقول «من شبّ على شيء شاب عليه» (رويترز)
TT

متى يظهر مثل «ذاك الولد» الذي غيّر تاريخ العالم؟

تشرتشل، صاحب التمثال في لندن، كان يقول «من شبّ على شيء شاب عليه» (رويترز)
تشرتشل، صاحب التمثال في لندن، كان يقول «من شبّ على شيء شاب عليه» (رويترز)

لا يمكن لمن يتابع الأوضاع في بريطانيا والأزمات التي تتخبط بها هذه الأيام، أن يتساءل: هل أصبحت تلك الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس عاجزة عن إنتاج شخصية مثل تشرشل الذي لمع في قيادة تلك الإمبراطورية التي امتد استعمارها إلى الهند، وشمال وجنوب أفريقيا، ونيجيريا، وآسيا، والشرق الأوسط؟
ربما من المفيد تذكير الذين يتولون القيادة في بريطانيا، وربما تعريف الأجيال الجديدة في بريطانيا وغيرها من الدول، بتلك الشخصية التي تشعبت ميزاتها في عدة اتجاهات متجانسة أحياناً ومتناقضة أحياناً أخرى. لم تعرف الانكسار يوماً حتى عندما كانت في أحلك الظروف وفي خضم الحروب والأخطار حيث الفشل كان مؤكداً.
عرفناه سياسياً ورجل دولة وعرفناه مراسلاً صحافياً حربياً، عرفناه وزيراً وعرفناه كاتباً وأديباً، عرفناه رئيس وزراء وعرفناه مؤرخاً، عرفناه خطيباً قائداً وعرفناه رساماً فناناً، فكان رجلَ علم وعمل، ورئيس وزراء أوحد نال جائزة نوبل للآداب، وأول من منحته الولايات المتحدة الأميركية الجنسية الفخرية في عهد الرئيس جون كينيدي. إنه الرجل الذي ترك بصمة راسخة في قيادة الإمبراطورية البريطانية العظمى والكومونولث في سنوات الحرب العالمية الثانية العصبية الحرجة، فكان صاحب الرؤية والشجاعة والحنكة والذكاء لجعل النصر ممكناً عندما شعر بأن الخطر بات قريباً من بلاده.
وينستون ليونارد سبنسر تشرشل، الولد البكر الذي ينحدر من سلالة الدوقات الأرستقراطية لعائلات مارلبورو، وهي أحد فروع عائلة سبنسر الأشهر في بريطانيا، كان مستعجلاً للخروج إلى الدنيا في ولادة مبكرة في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1874 وقبل شهرين من موعدها في «قصر بلانهايم»، الذي وهبه البرلمان الإنجليزي إلى جون تشرشل الدوق الأول لعائلة مارلبورو في أكسفورد شاير في إنجلترا، وعاش فيه والده اللورد راندولف تشرشل، بعد دوق مارلبورو السابع، الوالد السياسي ذو الشخصية الكاريزمية الذي تبوّأ منصب وزير خزانة وأسس الحزب الرابع في البرلمان البريطاني وهو حزب «التوري - المحافظون الديمقراطيون» إلى جانب الأحزاب الثلاثة القائمة آنذاك: «المحافظون»، و«الليبراليون»، و«الآيرلنديون الوطنيون». أما والدته جيني فهي ابنة الرجل البارز في المجتمع الأميركي ليونارد جيروم المشهور في حلبات سباق الخيل ونوادي اليخوت، والجد الذي أحبه وينستون كثيراً وقال عنه: «إنه رجل رائع حقاً، يحب ما يفعل ويفعل ما يحب. أما جيروم فهي عائلة بغيضة ما عداي، فأنا العضو الوحيد الأليف بينهم».
وينستون، المولود الجديد البكر لعائلة عريقة معروفة، كيف ستكون طفولته؟ بالطبع، سيكون طفلاً محبوباً ومدلّلاً والعطف والحنان يحيط به من الجميع، خصوصاً من والديه. لكن للأسف، لم يكن الأمر كذلك، إن هذا الطفل الجميل جداً، كما وصفه أبوه، أُهمل وتُرك وحيداً في غرفته، فأبواه اللذان أحبا أحدهما الآخر كثيراً كانا مغرمين بحياة اللهو والسهر والسياسة بحضور أمير ويلز وفي عهد الملك إدوارد الثاني، أكثر مما كانا مغرمين بطفلهما الصغير ونادراً ما كانت الأم تدخل غرفة حضانته لتلقي نظرة خاطفة عليه، والأب كذلك. هكذا تُرك الطفل المسكين منذ ولادته برعاية مربيته التي أحبته كثيراً، رعته أكثر من والديه وكانت بمثابة أُم ثانية. إنها السيدة أفرست التي عوّضته عن حنان أمه وأبيه واهتمت به وهو صغير، وبنشأته وهو ينمو ويكبر، وبمتابعة دراسته وهو في المدرسة. وعندما دعتها المدرسة في هارو للحضور واصطحابه لقضاء العطلة الصيفية في منزله، طلبت منها إحضار أفضل بنطال لديه من أجل إلقاء قصيدة في منافسة شعرية لم يحضرها والداه المنهمكان بحياتهما فكان اللهو أهم لديهما من مشاهدة وسماع ولدهما ذي الاثنى عشر ربيعاً وهو يلقي قصيدة مؤلَّفة من ألف ومائتي بيت نال على أثرها الجائزة الوحيدة التي حازها في حياته وهي «جائزة ماكولي» للمنافسة الشعرية، كانت السيدة أفرست السيدة الوحيدة الموجودة من العائلة لتشجيعه.
إننا نتساءل: كيف كان شعوره حينئذٍ يا تُرى، هذا الولد الذكي الذي كان والده المتنمّر اللورد راندولف تشرشل يصفه بـ«ذاك الولد» البليد الكسول الذي لم يجده نافعاً في شيء؟!
أُرسل وينستون إلى مدرسة سانت جورج البريطانية، في أسكوت، في بيركشاير لمدة سنتين (1882 – 1884) أمضى خلالهما أسوأ سنين حياته. فمدير المدرسة، القس الساديّ هربرت ويليام، كان يؤمن بالعنف، وذات مرة ضربه ضرباً مبرحاً بالعصا مسبباً له بقعاً حمراء وندوباً وربما جروحاً، وكل ذلك من أجل سرقة حفنة من السَّكر. لكنَّ وينستون الذي لا يسكت عن ضيم، انتظر حتى تعافى ثم استغلّ الفرصة ليتسلّل إلى غرفة القس ويسرق قبعته القشّية التي يرتديها في المناسبات الرسمية وأخذ يركلها حتى مزّقها إرباً ورماها في الغابة. ثار وينستون ضد السلطة والظلم في المدرسة لذلك لم يأبه للاجتهاد والعمل والنجاح فيها. كل هذا ولّد لديه نقمة ليجعل منه تلميذاً متمرداً ثورياً عنيداً سيئ السلوك كسولاً مهملاً. فطبيعته الثورية لم تتأقلم مع النظام والانضباط والسلطة. وهكذا، جاء في الفصل الأول في المرتبة الحادية عشرة في صف كان عدده أحد عشر تلميذاً. عاش وينستون بين أبٍ متنمّر ومدير معنّف وما يحبس في داخله من كرهٍ ورفضٍ وخيبة أمل، والمأساة هي أن والده تأخر ليكتشف الحقيقة. فأرسله إلى مدرسة في برايتون تديرها سيدتان، لكنَّ وينستون سرعان ما أُصيب بالتهاب رئوي وكاد يفارق الحياة في سن الحادية عشرة. لدى شفائه، عاد والده اللورد راندولف بذاكرته إلى الوراء، أيام كان يراه وهو يلعب بألعاب الجنود باهتمام وتركيز لافت وهو جالس على أرض غرفة حضانته، فقرر إرساله إلى مدرسة هارو لإلحاقه بالكلية العسكرية الملكية البريطانية فيما بعد.
ذهب وينستون إلى المدرسة الرسمية الكبرى في هارو القريبة من لندن، وللمفارقة التقى فيها تلميذاً آخر هو اللورد بايرون فأصبحا اللوردين الوحيدين فيها. وأيضاً، اتّسم الفصل الأول بالإهمال، لكن الشيء الإيجابي الوحيد كان تفوّقه في مادة التاريخ التي أحبها كثيراً. وفي هذه المدرسة بالذات شعر لدى سماعه الأغاني الحماسية والأناشيد المدرسية بشيء رائع في داخله. تحرّك فيه الحس القومي وحبه للوطن لذا حفظ القصيدة المؤلفة من ألف ومائتي بيت عن ظهر قلب، والتي تتحدث عن أن الجميع يعمل من أجل الدولة لا من أجل الحزب والناس كلهم سواسية يحب بعضهم بعضاً ولا فرق بين فقير وغني.
بعد تخرّجه في هذه المدرسة، ولا أدري كم كان معدله، قرر والده إرساله إلى الكلية الحربية في ساندهرت وكان وينستون في سن السادسة عشرة حينها، لكن في الواقع أن السيدة أفرست هي التي شجعته على الانضمام إلى الكلية قائلةً: «أتمنى أن تحاول وتجتهد جيداً يا أعز الناس كي تسعد أمك وأباك، وتخيّب آمال الذين يتنبأون لك بمستقبل غير باهر. وهكذا تقدم وينستون للامتحان ثلاث مرات قبل أن ينجح في المرة الأخيرة وينضم إلى الكلية ويتخرج بعدها في المرتبة العشرين».
السؤال الذي يجول في البال: هل أثّر إهمال والديه في تطوّر حياته؟
أحب وينستون أمه كثيراً ولم يُلقِ اللوم عليها أبداً، بل بالعكس، أقنع نفسه بأنها أحبته كثيراً، فقال لها: «الآن، أنا حبيبك...». لكن بعد سنوات مضت أخذ يتذكر علاقته بأمه بطريقة أكثر صدقاً وعيناه الزرقاوتان تشعُّ فرحاً قائلاً: «كانت أمي أميرتي الجميلة المتألقة دائماً، ونورها يسحرني (كنجمة المساء). أحببتها كثيراً من بعيد». كذلك فعل أبوه أيضاً فأبقى المسافة بعيدة بينهما. يتذكر وينستون أنه، ذات مرة، عندما حاول تقديم المساعدة لأبيه، تجّمد مكانه متفاجئاً بعد أن شاهد ردة فعل أبيه السلبية الباردة، وفي وقت لاحق في أثناء قيادة السيارة آخر مرة إلى المحطة وبرفقته هو وأمه، ربت أبوه على ركبته وكانت تلك المرة الوحيدة التي أظهر فيها اللورد راندولف حبه لابنه، حيث توفي عن عمر يناهز خمسة وأربعين عاماً بعد معاناة من شلل دام سبع سنوات عانت بعدها العائلة من ظروف مادية صعبة وكان وينستون حينئذٍ في الحادية والعشرين من عمره.
كتب وينستون لأمه وهو في الثمانية عشر ربيعاً قائلاً: «لا أستطيع أن أقوم بشيء بشكل صائب... أظن أنني سوف أكون دائماً (ذاك الولد)، حتى ولو أصبحت في الخمسين».
يمكن أن يقال كثيراً عن السير وينستون تشرشل مما نعرفه ومما لا نعرفه، وكما يقول المثل: «في السادسة كذلك في الستين»، أو «من شبّ على شيء شاب عليه»، فإن هذه الطفولة البائسة الحزينة والمعاناة من حرمان عاطفي وتعنيف معنوي وجسدي وهذه الحياة التي تميّزت بالقهر والظلم، وللمفارقة، انعكست إيجاباً، ولحسن الحظ، على شخصية مستقلة قوية في قراراتها كما ظهر في رفضه الخضوع لألمانيا في أثناء الحرب العالمية الثانية رغم خضوع بعض دول الحلفاء لها، شخصية قادرة على الصبر والتحمّل وعدم السكوت عن ضيم، وهذا ما سبَّب له فشلاً عدة مرات كان المسؤول عن بعضها اتخاذ قرارات خاطئة عائدة لسياسيين آخرين، شخصية لا تنكسر ولا تتقبّل الإحباط، وعند شعوره بذلك كان وينستون يلجأ إلى الكتابة والرسم، شخصية ذات قدرة على الإقناع كالخطابات التي ألقاها أمام الشعب الإنجليزي إبّان وفي أثناء الحرب العالمية الثانية وقدرته على إقناع الولايات المتحدة الأميركية في عهد الرئيس روزفلت لدخول الحرب مع الحلفاء بعد غارات الطائرات اليابانية على قاعدة «بيرل هاربر» البحرية وتدمير الأسطول الأميركي فيها وإلحاق الهزيمة بدول المحور، ما غيّر مسار الحرب ومجرى التاريخ أيضاً. إنّ «ذاك الولد غيّر تاريخ العالم»، وغيرها من الأحداث المشهود لها.
يمكن أن يُقال الكثير عن هذا الطفل وهذا الرجل الذي تميّز بصفات قلّ نظيرها، فأين نحن من شخصية كهذه تظهر فجأة كمعجزة في بلد ما لتنقذه من محنته؟!
- باحثة لبنانية


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


جولة في «دماغ نتنياهو»: كيف سخّر رجل واحد العالم لخدمة أهدافه الشخصية

صورة ملصق انتخابي ممزق لبنيامين نتنياهو في 1999 (غيتي)
صورة ملصق انتخابي ممزق لبنيامين نتنياهو في 1999 (غيتي)
TT

جولة في «دماغ نتنياهو»: كيف سخّر رجل واحد العالم لخدمة أهدافه الشخصية

صورة ملصق انتخابي ممزق لبنيامين نتنياهو في 1999 (غيتي)
صورة ملصق انتخابي ممزق لبنيامين نتنياهو في 1999 (غيتي)

قبل 15 عاماً، سُئل بنتسي نتنياهو، والد رئيس الوزراء الإسرائيلي، عن رأيه، في نجله. فأجاب: «إنه ليس بأهبل».

الصحافي الذي سأله يُدعى عميت سيجال، وهو من سلالة يمينية، يعمل مراسلاً سياسياً في «القناة 12»، التي كانت تُدعى «القناة الثانية». وسيجال يتفاخر بأنه من المعجبين برئيس حكومته نتنياهو. والغرض من سؤال الوالد، لم يكن المساس بشخص الابن بل بالعكس، فقد وجّه سيجال السؤال، لكي يفهم ما وراء التصريح الذي أدلى به نتنياهو الابن في جامعة «بار إيلان»، في سنة 2009، وأعرب فيه عن تأييده حل الدولتين.

وعليه، أجاب الوالد: «بيبي لا يؤيد حل الدولتين. لقد وضع شروطاً لا يمكن للعرب قبولها. وهذه بلاد اليهود ولا مكان للعرب فيها». وكانت الشروط أن يعترف الفلسطينيون بإسرائيل دولةً للشعب اليهودي، وتكون الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح، وأن تحل قضية اللاجئين خارج تخوم إسرائيل.

الخطاب جاء في ظروف معينة، تُذكّر بهذه الأيام. ففي حينه، باشر الرئيس باراك أوباما دورته الرئاسية الأولى، في 20 يناير (كانون الثاني)، وبعد شهرين، في نهاية مارس (آذار)، باشر نتنياهو رئاسة الحكومة الإسرائيلية. وفي 18 مايو (أيار) استقبل أوباما نتنياهو في البيت الأبيض، وطلب منه وقف المستوطنات وتأييد حل الدولتين، «الذي لا حل سواه لإنهاء الصراع». وفي 4 يونيو (حزيران)، ألقى الرئيس الأميركي خطاباً في القاهرة، متوجهاً للعالم العربي والإسلامي، وفاتحاً صفحة جديدة في العلاقات الأميركية معهما. وبعد 10 أيام ألقى نتنياهو خطاب «بار إيلان».

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

قبل هذا الموعد بست سنوات، كان نتنياهو قد عُيّن وزيراً للمالية في حكومة أرئيل شارون، وقد سُئل والده عن مستقبل ابنه، وإن كان يصلح ليصبح رئيس وزراء؟ فأجاب: «كلا، إنه يصلح وزيراً للخارجية». ففي مفهومه، منصب وزير الخارجية يُلائم مَن يحب الكلام، ويجيد الخطابة، ويتمتع بحفلات الكوكتيل، ولا يحب العمل. ومن يعرف الابن أكثر من الوالد.

التسويق في البضائع والسياسة

المشكلة اليوم أن هذا الابن يقود دولة في مركز الأحداث في الشرق الأوسط والعالم، وأولئك الذين يتعاملون مع هذا الابن، هم رؤساء دول وملوك وقادة جيشه ومخابراته وبشر يتحكم بمصائرهم، وكلهم ذاقوا على جلودهم مرارة التجربة.

ومن الصعب أن تجد فيهم مَن يستطيع فك رموز شخصية بنيامين نتنياهو. فهو دائماً مفاجئ، وفي كثير من الأحيان صادم، لكن هناك شيئاً يتقنه جيداً. هو وضع مصالحه الشخصية فوق أي اعتبار؛ إذا أراد أمراً فلن يعيقه شيء عن الوصول إليه. وأهم أدواته في تحقيق أهدافه، إدارة التسويق.

كان نتنياهو قد بدأ حياته موظفاً في تسويق البضاعة بمحل لتجارة الأثاث في الولايات المتحدة، وأبدع في التقاط أسرار هذه المهنة. كان يعرض بضاعة أخشاب السويد على أنها أخشاب زان، ويبيع أشياء تصلح وأشياء لا تصلح.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو متحدّثاً لأعضاء في الكونغرس الأميركي في يوليو 2024 (غيتي)

وإذا ما قرر صاحب المحل التخلُّص من بضاعة كاسدة، كلّف نتنياهو بالمهمة، فيروِّج لها الأخير كما لو أنها أفضل المنتجات. كان يكذب بتلقائية، ومن دون أن تظهر على وجهه أي علامة. كان يقبض ولا يدفع. المراوغة والاحتيال وخيانة الأمانة، كلها تمر على الزبائن بفضل قدرته العالية على الكلام، وقبل أن يُكتشف أمره، انتقل إلى العمل السياسي. عُين ممثلاً لإسرائيل في الأمم المتحدة، ثم نائباً لوزير الخارجية، ووزيراً للخارجية، ثم وزيراً للمالية، ثم رئيساً للوزراء، لفترة أطول من أي رئيس وزراء سابق له.

لقد حمل نتنياهو معه إلى السياسة كل صفاته في التسويق. المثل الصارخ على ذلك، هو ما يفعله اليوم في اختراعه معضلة «محور فيلادلفيا» لعرقلة صفقة تبادل الأسرى. قبل هذه المعضلة بواحد وثلاثين سنة، اخترع نتنياهو قصة أخرى بفضلها انتخب لرئاسة «الليكود»، ليُمهّد الطريق لرئاسة الحكومة. ففي الرابع عشر من يناير من سنة 1993، وعلى أثر هزيمة «الليكود»، بقيادة إسحق شامير، خاض نتنياهو انتخابات داخلية على منصب رئيس الحزب ومرشحه لرئاسة الحكومة، في مواجهة 3 مرشحين: دافيد ليفي، وبيني بيغن، وموشيه قصاب.

رجل يضع ملصقاً انتخابياً لإيهود باراك فوق صورة المرشح بنيامين نتنياهو في انتخابات 1999 (غيتي)

قبل 10 أيام من الانتخابات، طلب نتنياهو الوصول إلى استوديوهات القناة الرسمية الوحيدة للتلفزيون للكشف عن فضيحة كبرى، وهناك أعلن أنه كان على علاقة بامرأة أخرى خارج الزواج، وأن شخصية كبيرة في «الليكود»، محاطة بعصابة مجرمين، هددت بكشف شريط يوثق علاقته بها بشكل فاضح، إذا لم ينسحب من المنافسة. وألمح إلى أن هذه الشخصية هي المنافس الأساسي دافيد ليفي. وانقلبت المعركة الانتخابية وفقاً للأجندة التي فرضها. وبالنتيجة فاز على منافسيه الثلاثة بنسبة 52 في المائة.

وبالطريقة نفسها، لكن بمستوى أخطر، فاز برئاسة الحكومة، فقد أدار حملة تحريض دموية على إسحاق رابين، واتهمه بخيانة مصالح إسرائيل الأمنية عندما وقع على اتفاقيات «أوسلو»، فقرر شاب يميني متطرف اغتيال رابين. ورغم أن الاغتيال أحدث زلزالاً في السياسة الإسرائيلية، نجح نتنياهو في رئاسة الحكومة بعد أقل من سنة.

الناس زبائن تُحركهم نقاط ضعفهم

التسويق إذن هو الحمض النووي (DNA) في شخصية نتنياهو. يضع لنفسه هدفاً، ويبتدع أنجع الطرق لتسويقه. يقرأ خريطة الناس بصفتهم زبائن، يكتشف نقاط الضعف، وينفذ من خلالها كالسهم. قد تكون هذه الطرق قذرة، وقد تكون طافحة بالأكاذيب، وفائضة بالخدع، وقد تُكلف بلاده وشعبه وحتى حزبه ثمناً باهظاً، لكن المهم أنه يجد مَن يصفق له. وكيف يصفقون له: بنوعية الرسائل التي يبثها.

بنيامين نتنياهو معلناً عودته للحياة السياسية في 2000 بعد فوز إيهود باراك في 1999 (غيتي)

داني فيدوسلافسكي، المتخصص في سلوك الفرد، ويدير كلية لتعليم السياسيين كيف ينجحون في الوصول إلى قلوب الجماهير، أصدر كتاباً بعنوان: «أسرار التسويق عند بيبي». وهو يُعدّ أهم عنصر في نجاحه معرفته صياغة رسائل قصيرة وبسيطة للناس. ويقول: «ليس مهمّاً إن كانت هذه الرسائل صحيحة أو صادقة، بل المهم أن يعرف كيف تُصيب وجدان الجماهير، وتخترق دماغهم». يخاطب الناس بلغة نحن وهم، وعندما يقول نحن يقصد هو وهم. يتحدث عن خصومه: «يسار». وبعدما جعل من كلمة يسار لعنة، راح يلصقها بكل خصومه حتى داخل «الليكود».

ولكن، من كثرة ما بنى له من خصوم، أصبح واضحاً أنه لا يهتم بشيء بمقدار مصلحته الشخصية، فصار فناناً في تصفية كل مَن يعترض طريقه، وليس فقط من الخصوم. وبنى لنفسه قاعدة جماهيرية محدودة من اليمين، ذات تركيبة عجيبة. غالبيتهم من الفقراء، مع أن سياسته رأسمالية راديكالية. شرقيون مع أنه إشكنازي متعجرف. على طول طريقه السياسي، نجح في تحطيم الأحزاب التي تنافسه. في سنة 2009، كان ينافسه إيهود باراك. وباراك كان قائد نتنياهو في الجيش، وفي سنة 1999 هزمه في الانتخابات، وفاز برئاسة الحكومة. لكن نتنياهو أقنعه بدخول حكومته وزيراً للدفاع، وتسبب بذلك في تفسخ حزب «العمل» وانهياره، إلى أن اعتزل باراك السياسة. وفعل الأمر نفسه مع يائير لبيد، ومع بيني غانتس، ومع موشيه كحلون.

ومن كثرة نجاحاته هذه، اقتنع بأنه يتمتع بقدرات عالية فوق طبيعية.

ويُحكى أنه ذات مرة قال أمام مقربين منه: «احمدوا الله على أنه حباكم قائداً مثلي». وزوجته سارة تردد هذه الجملة باستمرار. وإذا أراد أن يكون متواضعاً، يُشبه نفسه بالقائد البريطاني ونستون تشرشل.

ولا يكتفي نتنياهو بأن يرى نفسه أو يراه أفراد عائلته والمقربون والمنافقون بهذا الشكل، بل يطالب العالم بأن يراه بهذا الشكل أيضاً، فهو يُعدّ نفسه قائداً عالمياً، تاريخياً، أرسله الله ليقود معركة الغرب كله بشكل صحيح، ولديه نصائح لجميع القادة الكبار في العالم. ذات مرة التقاه الرئيس باراك أوباما في البيت الأبيض، وبعد انتهاء اللقاء قال أوباما لمساعديه: «من منا رئيس الدولة العظمى؟». ولكن الرئيس التالي بعد أوباما، دونالد ترمب، ورغم غروره ونبرته، اقتنع من نتنياهو بضرورة الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران. وتباهى نتنياهو بذلك، وبأن إسرائيل تحت قيادته وجهت ضربات لإيران، أكثر من أي قائد غربي آخر.

حب المال وتلقي الهدايا

مشكلة نتنياهو أنه على طريقه الطويل، وقع في حادث أليم، فقد كُشفت إحدى نقاط ضعفه الخطيرة، وهي المال. رأس ماله يقدر بثلاثة وعشرين مليون دولار. راتبه الشهري 20 ألف دولار. أمواله جمعت من الرواتب العالية، وكذلك من المحاضرات، إذ يُعدّ محاضراً مطلوباً في العالم، خصوصاً في الولايات المتحدة.

بنيامين نتنياهو وزوجته سارة في زيارة رسمية لباريس (أرشيفية - غيتي)

لكن الأهم من دخله، الذي جمعه من عرق الجبين بغالبيته، هو مصروفه. نتنياهو معروف بأنه لا يصرف مطلقاً. كل مصاريفه على حساب الدولة، على عكس كل سابقيه، الذين حرصوا على الدفع من جيوبهم. لا يوجد له أصدقاء، ولكنه يحرص على علاقات جيدة مع عدد كبير من أصحاب الرساميل في العالم، الذين يُحدد مستوى القرب معهم بمستوى صرفهم هم عليه. وهو محب للهدايا السخية بشكل خاص، فإذا أهدى أحد المعارف عقداً من الذهب الخالص لزوجته سارة، لا يتردد نتنياهو بالاتصال بمقدم الهدية، مظهراً الزعل ومعاتباً: لماذا لم تشترِ لها الخاتم والحلق الملائمين للعقد؟

هذه العادات قادت نتنياهو إلى قفص الاتهام بتهمة تلقي الرشى وخيانة الأمانة، لأن هناك اشتباهاً بأنه استغل منصبه بصفته رئيس حكومة ليوفي الهدايا بخدمات يحتاج إليها أصحابها. وهناك شبهات نشرها اليعاد شارغا، رئيس حركة «طهارة الحكم»، الذي يقود منذ عشرات السنين معارك قضائية كبيرة ضد الفساد وضد المساس بالديمقراطية. وقال خلال مؤتمر «هرتسليا 2024»: «نتنياهو ارتكب أكبر وأخطر قضية فساد في تاريخ إسرائيل، جرى فيها هدر مليارات الدولارات عبثاً، على أسلحة لسنا بحاجة إليها، وبصفقة تمت من وراء ظهر وزير الأمن ورئيس أركان الجيش وقائد سلاح البحرية. وبلغ فيها الفساد فحشاً في قدس أقداسنا، الأسلحة الاستراتيجية. نتنياهو أدخل إلى جيبه 25 مليون شيقل عمولة في هذه القضية، وهذا عدا عمولات أخرى لشركائه في الجريمة. غابي إشكنازي، قال يومها إنه في اللحظة التي نشتري فيها الغواصة السادسة، لن يبقى لدينا مال للمجنزرات والمدرعات التي نحتاج إليها لاجتياح الشجاعية. وهذا ما حصل فعلاً، واليوم نذوق هذا النقص على جلود أبنائنا الجنود في قطاع غزة».

هذه القضية هي أيضاً مطروحة على بساط البحث في المحكمة، ولم يتقرر بعد تحويلها إلى لائحة اتهام. وتلميح شارغا إلى غزة يتعلق بالتهمة الموجهة إلى نتنياهو بأنه كان مسؤولاً عن إخفاق 7 أكتوبر (تشرين الأول) بشكل شخصي، إذ إنه قام بتقوية «حماس»، وتباهى بأنه يُحول لها الأموال لكي يعمق الانقسام الفلسطيني، وتم تحذيره بأن سياسة حكومته ستفجر حرباً، ولم يكترث.

الفساد... قضية حياة أو موت سياسي

نتنياهو يعرف جيداً خطورة هذه القضايا الثلاث، ويدرك أنه يواجه خطر الحبس بسببها. مسألة حياة أو موت، سياسياً، فإذا تخلّى عن منصبه بصفته رئيس حكومة، سيسهل على الجهاز القضائي الحكم عليه بالسجن، وإذا بقي رئيس حكومة، ستسير محاكمته ببطء شديد كما هي الحال اليوم؛ حيث إنها بدأت قبل 4 سنوات وما زالت في مرحلة سماع الشهود، وسيتمكن من منع إقامة لجنة تحقيق رسمية في قضية 7 أكتوبر، وسيمارس الضغط لتغيير القضاة في المحكمة العليا والنيابة، فلا يقدم إلى المحاكمة بسبب قضية الغواصات.

وقد وجد نتنياهو ائتلافاً قوياً لحكومته، من 64 نائباً من مجموع 120، يتألف من حزبه «الليكود» والأحزاب الدينية والاستيطانية. لهم مصلحة مشتركة في البقاء معاً. الأحزاب الدينية تحصد أموالاً طائلة لمدارسها ومؤسساتها وحاخاماتها، والأحزاب الاستيطانية تكسب توسيع الاستيطان وإجهاض حل الدولتين وتصفية القضية الفلسطينية، و«الليكود» تمت تصفية المعارضة فيه وقادته ينافقون نتنياهو، لدرجة الحضور معه إلى المحكمة تضامناً في قضايا الفساد.

قاعدة توفر إكسير الحياة

هذا الائتلاف، ومعه نحو 20 بالمائة من الناخبين في إسرائيل يشكلان قاعدة جماهيرية ثابتة لا تتزعزع، حتى الآن، ويعتمد عليها نتنياهو اعتماداً أساسياً. عندما يخطب يأخذ هذه القاعدة في الاعتبار، وعندما يتخذ قراراته يضعها فوق كل اعتبار. هي أهم بالنسبة له من الأسرى الإسرائيليين في أنفاق «حماس»، وأهم من عائلات هؤلاء الأسرى الذين لا يصدقون أن حياة أبنائهم أهدرت على هذا النحو. وأهم من الجنود الذين يُحاربون هباءً في غزة، ومن قادة الجيش وبقية الأجهزة الأمنية، الذين يؤكدون أن سياسة نتنياهو تلحق ضرراً استراتيجياً بأمن إسرائيل، فيهاجمهم علناً ويؤنبهم باللغة الإنجليزية -حتى يسمع الغرب كله- «إسرائيل دولة يوجد لها جيش وليس جيشاً توجد له دولة». وهي أهم من الإدارة الأميركية، التي وقفت إلى جانبه بوصفها شريكة في الحرب رغم الخلافات العميقة معه، وتمكّن من جرّها إلى كثير من الورطات، ولا يزال يحاول جرها إلى حرب إقليمية. لا بل إنه يحاربها في بيتها، ويقف مع انتخاب ترمب للرئاسة، نكاية بها، لأنها باتت معنية بوقف الحرب.

فهذه القاعدة هي التي توفر له إكسير الحياة. ولأجلها يكرس كل مواهبه وطاقاته ولديه كثير منها. لها يكرس البضاعة التي يسوقها. لا يهمه أحد غيرها، فإذا كان الأمر يحتاج إلى إجهاض الصفقة، يدير سياسة منهجية تجهض الصفقة، وإذا كان الأمر يحتاج إلى حرب يذهب إلى الحرب. في نظره، أميركا مجبورة على مساندة إسرائيل؛ لأنه يخدم مصلحتها، وأعداؤه هم أعداؤها. فإذا خسر في المعارك، يتهم الجيش والمخابرات والشرطة وكل العالم ما عدا الاعتراف بمسؤوليته. وإذا حقق الجيش إنجازات، يتقدم نتنياهو إلى الشاشات يتباهى. والجيش يلهث في اللحاق وراءه، ويدافع عن نفسه أمام هجماته، ويحاول أن يثبت أن اتهامات اليمين له بالجبن غير صحيحة، ويثبت ذلك في حرب عبثية يقاتل فيها الفلسطينيين من بعيد، بالغارات والقصف المدفعي وقتل المدنيين.

متظاهر بالقرب من فندق ووترغيت بواشنطن ضمن احتجاجات تستبق كلمة بنيامين نتنياهو أمام الكونغرس الأربعاء (أ.ب)

اليسار... تهمة

إذا كانت هناك معارضة سياسية، يتهمها بأنها يسارية، وهذا يكفي لقاعدته الشعبية. وإذا وقف الإعلام ضده، فإنه يهاجم الإعلام، ويقيم مؤسسات إعلامية كبيرة لمواجهته، وهذا إضافة إلى حسابه في «تويتر» (إكس) الذي يوجد له فيه 1.4 مليون متابع، أو «فيس بوك» (2.3 مليون متابع).

فقط قبل سنة كادت الجماهير، التي نزلت إلى الشوارع بمئات الألوف مدعومة من الدولة العميقة، تُسقط نتنياهو. وراح يسعى لحرب تحرف الأنظار، إلا أن الجيش رفض شن حرب. فجاء هجوم «حماس» في 7 أكتوبر. فخرج الجيش إلى الحرب، ويمكن القول إنه «علّق نفسه بهذه الحرب»، ولا يعرف كيف يُخرج منها. ونتنياهو بالمقابل يزدهر. العرق يتصبب من كل خلايا جسده، لكنه من حيث تحقيق الأهداف يزدهر.

هذا هو نتنياهو اليوم، وهذه هي حساباته. بعيد عن المنطق؟ نعم، يجعل من إسرائيل دولة هشّة؟ نعم، ألا يوجد مَن يتصدى له في إسرائيل؟ يوجد لكن صوتهم ضعيف مخنوق، على المستوى الشعبي، وأداؤهم هزيل على مستوى المعارضة السياسية. ففي وضع طبيعي تُعدّ حالة نتنياهو فريسة سهلة لأي معارض سياسي له. بهذا الفشل وهذا الفساد وبهذه الأخطار التي يجلبها، يمكن إلحاق هزيمة شديدة به. أي قائد سياسي قوي وحكيم كان سينقض على هذه الفرصة لإسقاط حكومة نتنياهو، لكن قادة المعارضة في إسرائيل لا يتمتعون بهذه الصفات بعد. وحتى الجمهور الذي يثبت في الاستطلاعات، باستمرار أنه عاف نتنياهو ويريد تغييره، لا يرى في أي من قادة المعارضة الحالية عنواناً له. وقوة نتنياهو مستمدة تحديداً من هذا الضعف.