حصاد 2022 في لبنان: ثقافة أكثر ديمقراطية واقتراباً من الجمهور

حفل سمية بعلبكي في افتتاح مهرجانات بعلبك
حفل سمية بعلبكي في افتتاح مهرجانات بعلبك
TT

حصاد 2022 في لبنان: ثقافة أكثر ديمقراطية واقتراباً من الجمهور

حفل سمية بعلبكي في افتتاح مهرجانات بعلبك
حفل سمية بعلبكي في افتتاح مهرجانات بعلبك

لا استسلام في بيروت، ولا ركون للانهيار. ثمة نبض ثقافي، وكأنما هو مقاومة ضمنية، أو محاولة لاستنهاض الهمم. بدل معرض واحد للكتاب، كان ثمة اثنان، هذه السنة، عدا الأيام الثقافية الفرنكوفونية الأدبية، والنشاط الفني الذي قام به «المركز الثقافي البريطاني» على ما يقارب الأسبوع، والأنشطة الفنية المتنوعة التي أحيتها السفارة الإيطالية. أضف إلى ذلك مهرجانات السينما المتعددة والمسرحيات التي لا تنقطع، والمعارض التشكيلية المتواصلة، وعودة المهرجانات الصيفية، كذلك الرجعة الكثيفة للحفلات الموسيقية.
قد لا يتنبه البعض إلى أن الحياة الثقافية أصبحت أقل نخبوية وأقرب إلى الذائقة العامة، إنْ لجهة نوعية الإصدارات حيث تروج الروايات على حساب الكتب الفكرية والتنظيرية والدراسات الأكاديمية، أو لناحية المسرح حيث تُقبل الجموع الغفيرة على أعمال تمسرح يومياتهم وهمومهم ومكنوناتهم، على حساب التجاريب السابقة التي كانت تنام على غموض، وتعتمد على استبطان المعنى.
الفنون أصبحت أكثر مباشرة، وهو أمر قد يبدو إيجابياً لجهة اجتذاب عدد أكبر من الجمهور، وقد لا يعجب البعض حيث يبدو كأنه تسطيح وتبسيط. الغرافيتي يملأ حيطان بيروت. مسرحيات تحضّ على إنصاف المرأة وإعطائها حضانة أطفالها، أو الكفّ عن التمييز، والحد من العنصرية. تمويلات الجمعيات الاجتماعية للمسرحيات، بهدف الترويج لقضاياها، تؤتي أُكلها، لكنها في الوقت نفسه تغير مسار الموضوعات ومركز الاهتمام. المسرح على أية حال، استعاد نشاطه. الصالات محجوزة، والأعمال تتوالى دون انقطاع. لا يزال يحيى جابر يعيد عرض «مجدره حمرا» مع القديرة أنجو ريحان، و«طريق الجديدة» مع زياد عيتاني، رغم مرور سنوات على انطلاقتهما الأولى، وأضاف إليهما وبنجاح «هيكلو» من تمثيل عباس جعفر، والناس تُقبل، وتسعد وتحتفي. مسرحيات مثل «لعل وعسى» لحنان الحاج علي، ورندا الأسمر، وكتابة وإخراج كريستل خضر، لقيت نجاحاً لم يكن متوقعاً، وجرى التمديد لها، بعد ثمانية عروض امتلأت بها الصالة في «مسرح مونو».

مشهد من مسرحية «لعل وعسى»

- معارض لتنمية الوعي
مع نهاية السنة كان لا يزال «ألو بيروت» قائماً في «البيت الأصفر»، وهو المعرض الذي يعيد تركيب الحياة اللبنانية، التي اندثرت الكثير من مفرداتها وأدواتها. استعادة التاريخ بطريقة مبتكرة جذبت الزوار من كل الأعمار، الشبان ليكتشفوا ما سبق، والأكبر سناً ليتذكروا حقبة مضت. انخراط الزوار في استخدام وتجريب كل قطعة معروضة، والتوقف طويلاً للقراءة والتعرف والتقاط الصور، هي حقاً أمور مثيرة تدل على ما بات للفن من دور فعلي في صناعة الوعي العام، وهو ما طال انتظاره.
معرضا الكتاب أثارا حبراً كثيراً، ولا سيما المعرض الذي أقيم أول السنة، في شهر يناير، ولم تقبل نقابة الناشرين المشاركة فيه بحجة أن الظرف غير مناسب، ثم قيل إنه أصبح مساحة لفئة دون أخرى. المعرض الثاني في نهاية السنة هو النسخة 64، أقيم تحت شعار «أنا أقرأ بتوقيت بيروت» ضم أجنحة فرنسية، وكأنها في معرض داخل معرض، بعد أن ألغي معرض الكتاب الفرنكوفوني السنوي واستعيض عنه بنشاط أدبي يستحق التوقف عنده.
لقد كان بالفعل حدثاً أدبياً فرنكوفونياً استثنائياً، ذلك الذي نظّمه المركز الثقافي للسفارة الفرنسية في بيروت، واستمر لعشرة أيام، امتدت أنشطته إلى مختلف المناطق اللبنانية. حمل اسم «المهرجان الدولي والفرنكوفوني للكتاب في بيروت» وهو بضيوفه الذين جاءوا من مختلف الدول الفرنكوفونية، وقراءته ومحاضراته وعروضه، أتى بديلاً عن «صالون الكتاب الفرنكوفوني» الذي كان يقام سنوياً في بيروت، وتوقف بعد دورة عام 2018 بسبب الانتفاضة الشعبية وما تلاها من وباء وانهيارات.
استقطب الفرنسيون لهذه المناسبة أسماء كبيرة ووازنة. ومن «قصر الصنوبر» في العاصمة اللبنانية، وبشكل استثنائي، أعلنت لجنة جائزة «غونكور» الأدبية العريقة اللائحة القصيرة والرابحين الأربعة في السباق إلى الجائزة الأدبية الفرنكوفونية الأرفع.

- إتاحة الفرص بالتشبيك
ونظّم المركز الثقافي البريطاني مهرجاناً تشاركياً في بيروت حمل اسم «ما بينَ بينْ»، وقدّم المهرجان برنامجاً منوعاً تضمّن 23 نشاطاً؛ بينها المعارض والعروض المسرحية والراقصة والتركيبات والحفلات الموسيقية والندوات وإطلاق المنشورات، وأتاح فرصاً للتشبيك، في ٩ مساحات مختلفة من بيروت. ونظمت هذه الأنشطة، بالشراكة مع 28 كياناً ثقافياً، كما استضاف المهرجان 15 ضيفاً من المملكة المتحدة لتطوير العلاقات والمبادرات مع محركي القطاع الثقافي والإبداعي في لبنان، وهو نوع من المبادرات أسهمت منذ انفجار مرفأ بيروت في المساعدة على منح العاصمة نبضها من جديد.
للمرة الأولى بعد غياب ثلاث سنوات عادت المهرجانات الصيفية إلى نشاطها وإن بشكل جزئي. برنامج مختصر في مهرجان بيت الدين، مع الحرص على المستوى الرفيع للحفلات. ونظراً للاوضاع الصعبة فتحت الأمسيات الغنائية والموسيقية مجاناً أمام الجمهور. قلعة بعلبك عادت وأضاءت أنوارها، وجاء برنامج «مهرجان بيبلوس» رمزياً مع الموسيقى الكلاسيكية.
مديرة الكونسرفتوار الوطني الفنانة والملحّنة هبة قواس، أعادت للأوركسترا الفيلهارمونية اللبنانية حفلاتها وجولاتها، كما الأوركسترا الوطنية اللبنانية للموسيقى الشرق عربية. هذه الحفلات المجانية في الصالات العامة أعادت الروح لمحبي الجمال ومتذوقي الكلاسيكيات.

- موسيقى كلاسيكية لكل الناس
كذلك نشطت حفلات الجوقة الموسيقية لجامعة القديس يوسف. وفي مهرجان «بيروت ترنم»، الذي يستمتع به اللبنانيون نهاية السنة صدحت الموسيقى في أرجاء المدينة للناس أجمعين لكبار الموسيقيين أمثال باخ، وشوبان، وبيتهوفين، وبرامز، كما عاد «مهرجان البستان» الموسيقي العريق بعد سنتين من الغياب، مستفيداً من المواهب اللبنانية هذه المرة..
«المتحف الوطني اللبناني» في بيروت افتتح أبوابه لعدد من المناسبات، «متحف سرسق» الذي دمر بشكل كبير جداً خلال انفجار بيروت، يعود تدريجياً لألقه وأنشطته، ويفتح ساحته للعروض الفنية، وقد رممت أضراره الجسيمة. «متحف جبران خليل جبران» في مسقط رأس الأديب في بشري، ينتعش بالمساعدة التي تلقّاها من حاكم الشارقة الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، حيث قدم منحة لترميم وتحديث المتحف، وصون المقتنيات وترميم القطع الفنية من صور، ومخطوطات، وأدوات، وكتب، ولوحات فنية، بالإضافة إلى تزويده بأحدث تقنيات العرض المتحفيّة.
ثمة حركة في كل مسرح ومقهى وزاوية ومتحف وغاليري. أماكن جديدة تدشن، مبادرات تولد، محاولات مستمرة لكسر الحلقة الجهنمية.

- عودة الروائيين
كان من اللافت جداً أن الأدباء المعروفين من شعراء وروائيين، بعد غياب سنتين أو أكثر، عادوا ليصدروا كتبهم، وتحديداً بالتزامن مع معرض بيروت للكتاب، الذي قيل الكثير عن صغر حجم المساحة فيه، وتراجع مستواه، والخوف من تقاعس الزوار عن ارتياده. فمن حنان الشيخ في «عين الطاووس»، إلى إلياس خوري في «رجل يشبهني» مكملاً ثلاثية «أولاد الغيتو»، وواسيني الأعرج في «عازفة البيكاديلي» رواية مستوحاة من بيروت، حسن داود «فرصة لغرام أخير»، علوية صبح «افرح يا قلبي»، عباس بيضون في رواية «حائط خامس». وكرّم في نهاية السنة الراحلون مثل رياض الريس، وصدر ديوان «خدوش على التاج» للشاعر محمد علي شمس الدين بعد رحيله بأشهر، كما أصدرت «دار الآداب» عدداً خاصاً عن رئيس تحريرها وصاحبها الراحل سماح إدريس، وقّعته ابنتاه.
بيروت تتألم، قلقة، ملهوفة، خائفة من غدها، لكنها صبية في العشرين، لا تقبل الهزيمة ولا تستسلم للبشاعة.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

مصر: اكتشاف ألسنة وأظافر ذهبية من العصر البطلمي بالمنيا

مجموعة من اللقى الأثرية المكتشفة في البهنسا بالمنيا (وزارة السياحة والآثار المصرية)
مجموعة من اللقى الأثرية المكتشفة في البهنسا بالمنيا (وزارة السياحة والآثار المصرية)
TT

مصر: اكتشاف ألسنة وأظافر ذهبية من العصر البطلمي بالمنيا

مجموعة من اللقى الأثرية المكتشفة في البهنسا بالمنيا (وزارة السياحة والآثار المصرية)
مجموعة من اللقى الأثرية المكتشفة في البهنسا بالمنيا (وزارة السياحة والآثار المصرية)

أعلنت وزارة السياحة والآثار المصرية، السبت، عن اكتشاف ألسنة وأظافر ذهبية وعدد من المقابر تعود للعصر البطلمي، مزينة بنقوش وكتابات ملونة، بداخلها مجموعة من المومياوات والهياكل العظمية والتوابيت، وغيرها من اللقى الأثرية.

وتوصلت البعثة المشتركة بين مصر وإسبانيا من خلال جامعة برشلونة ومعهد الشرق الأدنى القديم، إلى هذا الكشف الأثري أثناء عمليات التنقيب بمنطقة البهنسا في محافظة المنيا (251 كيلومتراً جنوب القاهرة).

وأكد الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار بمصر الدكتور محمد إسماعيل خالد، أهمية هذا الكشف، واعتبره سابقة في الاكتشافات الأثرية، قائلاً: «للمرة الأولى يتم العثور بمنطقة البهنسا الأثرية على بقايا آدمية بداخلها 13 لساناً وأظافر آدمية ذهبية لمومياوات من العصر البطلمي، بالإضافة إلى عدد من النصوص والمناظر ذات الطابع المصري القديم، والتي يظهر بعضها لأول مرة في منطقة البهنسا؛ مما يُمثل إضافة كبيرة لتاريخ المنطقة، ويسلط الضوء على الممارسات الدينية السائدة في العصر البطلمي»، وفق بيان لوزارة السياحة والآثار.

لوحات ومناظر تظهر لأول مرة في البهنسا بالمنيا (وزارة السياحة والآثار المصرية)

وأوضح أستاذ الآثار بجامعة القاهرة ومدير حفائر البعثة المشتركة الدكتور حسان إبراهيم عامر، أنه تم العثور على جعران القلب موجود في مكانه داخل المومياء، في إحدى المقابر المكتشفة، بالإضافة إلى العثور على 29 تميمة لـ«عمود جد»، وجعارين وتمائم لمعبودات مثل «حورس» و«جحوتي» و«إيزيس». في حين ذكر رئيس البعثة من الجانب الإسباني الدكتور أستر بونس ميلادو، أنه خلال أعمال الحفائر عثرت البعثة على بئر للدفن من الحجر المستطيل، تؤدي إلى مقبرة من العصر البطلمي تحتوي على صالة رئيسة تؤدي إلى ثلاث حجرات بداخلها عشرات المومياوات متراصّة جنباً إلى جنب؛ مما يشير إلى أن هذه الحجرات كانت قد استُخدمت كمقبرة جماعية.

وأضاف رئيس البعثة أنه «إلى جانب هذه البئر تم العثور على بئر أخرى للدفن تؤدي إلى ثلاث حجرات، ووجدوا جدران إحدى هذه الحجرات مزينة برسوم وكتابات ملونة، تمثل صاحب المقبرة الذي يُدعى (ون نفر) وأفراد أسرته أمام المعبودات (أنوبيس) و(أوزوريس) و(آتوم) و(حورس) و(جحوتي)».

إلى جانب ذلك، تم تزيين السقف برسم للمعبودة «نوت» (ربة السماء)، باللون الأبيض على خلفية زرقاء تحيط بها النجوم والمراكب المقدسة التي تحمل بعض المعبودات مثل «خبري» و«رع» و«آتوم»، حسب البيان.

مناظر عن العالم الآخر في مقابر البهنسا بالمنيا (وزارة السياحة والآثار المصرية)

وكان اللافت للانتباه، وفق ما ذكرته البعثة، هو «وجود طبقة رقيقة من الذهب شديدة اللمعان على وجه المومياء التي يقوم بتحنيطها (أنوبيس)، وكذلك على وجه (أوزوريس) و(إيزيس) و(نفتيس) أمام وخلف المتوفى». وأوضحت أن «هذه المناظر والنصوص تمثل صاحب المقبرة وأفراد أسرته في حضرة معبودات مختلفة، وهي تظهر لأول مرة في منطقة البهنسا».

وقال الخبير الأثري المصري الدكتور خالد سعد إن «محتويات المقبرة توضح مدى أهمية الشخص ومستواه الوظيفي أو المادي»، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط» أن «مصر وجدت الكثير من الدفنات المماثلة من العصرين اليوناني والروماني، وكانت الدفنة سليمة؛ لم يتم نبشها أو العبث بها».

ويوضح الخبير الأثري أن «الفكر الديني في ذلك الوقت كان يقول بوضع ألسنة ذهبية في فم المومياوات حتى يستطيع المتوفى أن يتكلم كلاماً صادقاً أمام مجمع الآلهة».

ألسنة ذهبية تم اكتشافها في المنيا (وزارة السياحة والآثار المصرية)

أما بالنسبة لتلابيس الأصابع (الأظافر الذهبية)، فهذا تقليد كان ينتهجه معظم ملوك الدولة الحديثة، وتم اكتشافها من قبل في مقبرة «توت عنخ آمون»، وكانت مومياؤه بها تلابيس في أصابع اليد والقدم، وفي البهنسا تدل التلابيس والألسنة الذهبية على ثراء المتوفى.

وتعدّ قرية البهنسا (شمال المنيا) من المناطق الأثرية الثرية التي تضم آثاراً تعود للعصور المختلفة من المصري القديم إلى اليوناني والروماني والقبطي والإسلامي، وقد عثرت فيها البعثة نفسها في يناير (كانون الثاني) الماضي على عدد كبير من القطع الأثرية والمومياوات، من بينها 23 مومياء محنطة خارج التوابيت، و4 توابيت ذات شكل آدمي.

مناظر طقوسية في مقابر منطقة البهنسا بالمنيا (وزارة السياحة والآثار المصرية)

وفسّر الخبير الأثري العثور على مجموعة من الأواني الكانوبية في المقابر بأنها «تحفظ أحشاء المتوفى، وهي أربعة أوانٍ تمثل أربعة من أولاد (حورس) يرفعون أطراف الكون الأربعة، وفقاً لعقيدة الأشمونيين، ويتمثلون في ابن آوى والقرد والإنسان والصقر، ويوضع في هذه الأواني المعدة والأمعاء والقلب والكبد، وكانت على درجة عالية من الحفظ، نظراً للخبرة التي اكتسبها المحنّطون في السنوات السابقة».

وأشار إلى أن «اللقى الأثرية الأخرى الموجودة بالكشف الأثري مثل الأواني الفخارية والمناظر من الجداريات... تشير إلى أركان طقوسية مرتبطة بالعالم الآخر عند المصري القديم مثل الحساب ووزن القلب أمام ريشة (ماعت)؛ مما يشير إلى استمرارية الديانة المصرية بكافة أركانها خلال العصر اليوناني والروماني، بما يؤكد أن الحضارة المصرية استطاعت تمصير العصر اليوناني والروماني».

بدورها، أشارت عميدة كلية الآثار بجامعة أسوان سابقاً الدكتورة أماني كرورة، إلى أهمية منطقة البهنسا، واعتبرت أن الكشف الجديد يرسخ لأهمية هذه المنطقة التي كانت مكاناً لعبادة «الإله ست» في العصور المصرية القديمة، وفق قولها، وأضافت لـ«الشرق الأوسط»: «هذه المنطقة كانت تضم العديد من المعابد والمنشآت العامة، فهناك برديات تشير إلى وجود عمال مكلفين بحراسة المنشآت العامة بها؛ مما يشير إلى أهميتها».