كان أمامنا منظر شامل لمدينة ريو دي جانيرو ومحيطها: جبل شوغارلوف، وتمثال المسيح الفادي، وشاطئ كوباكابانا، كما بدت بعض المباني الحديثة، مثل «متحف نيتيروي للفن المعاصر» و«كاتدرائية متروبوليتان» بين العديد من المباني الأخرى، في حين كانت تمر القطارات وعربات الترام بين هذه المباني، بينما كان آلاف الراقصين يتمايلون خلال احتفال المدينة بكرنفالها.
لقد تمكنا من رؤية كل ذلك رغم أن المدينة البرازيلية كانت تبعد عنا بأكثر من 6 آلاف ميل، حيث كنت أنظر لهذه المشاهد أنا وزوجي وابني داخل مبنى في حي «Speicherstadt» أو (مدينة التخزين)، الذي يضم العديد من الأماكن التاريخية في هامبورغ، ألمانيا. وكان هذا المشهد البرازيلي الذي أُعجبنا به واحداً من أكثر من عشرة معروضات موجودة في معرض «Miniatur Wunderland» أو «العجائب المصغرة»، الذي يضم أكبر نموذج مصغر للسكك الحديدية، وأكبر مطار مصغَّر في العالم، حيث ظهرت النسخة المتماثلة المصغرة من مدينة ريو دي جانيرو كأحدث معروضاته في ديسمبر (كانون الأول) 2021، بعدما شُيّدت على مدى 4 سنوات بالشراكة مع شركة تصنيع نماذج مصغرة مملوكة لإحدى عائلات الأرجنتين.
«مشاهد مذهلة»، هكذا علّق زوجي عدة مرات خلال ساعاتنا الخمس التي قضيناها هناك للتعبير عن إعجابه بالنسخ المصغرة من ألمانيا وإيطاليا والدول الإسكندنافية والولايات المتحدة ومواقع أخرى حول العالم، والتي بدت مكتملة بشخصيات صغيرة مرسومة باليد تشارك في عدد لا يُحصى من أنشطة الحياة اليومية، وبين المناظر التي رأيناها في المكان أيضاً كان هناك نموذج لمسار سكك حديدية يبلغ طولها الإجمالي 16138 متراً (نحو 53 ألف قدم) تنتقل به القطارات باستمرار بين المدن المصغرة.
وقد بدأ العمل في المشروع في عام 2000، عندما حلم الأخوان التوأم فريدريك وجيريت براون، البالغان من العمر آنذاك 32 عاماً، بإنشاء أكبر نموذج للسكك الحديدية في العالم، حيث كان الشقيقان، اللذان كانا من هواة السكك الحديدية، يعملان في إدارة ملهى ليلي في هامبورغ وإحدى الشركات في التسعينات، ولكنهما في النهاية أرادا تغيير نمط حياتهما، وتمكنا، بمساعدة الأصدقاء والعائلة، من افتتاح أبواب «العجائب المصغرة» في 2001.
وفي غضون 21 عاماً منذ ذلك الحين، اجتذب هذا المكان أكثر من 21 مليون زائر من جميع أنحاء العالم، ليصبح إحدى أكبر مناطق الجذب السياحي في ألمانيا، وذلك رغم أن «العجائب المصغرة» يُعرف في الولايات المتحدة بشكل أساسي بين العاملين في مجال السكك الحديدية وهواة هذا المجال فقط.
ونُعدّ (أنا وزوجي) محظوظين، لأن لدينا ابناً يبلغ من العمر 15 عاماً الآن، مهووساً بالطائرات والقطارات والسيارات وأي شيء آخر يتحرك ميكانيكياً منذ طفولته المبكرة، كما أنني لم أكن أعرف عن «العجائب المصغرة»، وذلك رغم رحلاتنا العديدة إلى ألمانيا، بصفتي ابنة لأبوين مولودين في برلين، ولكن كان ابني يتحدث عن هذا المعرض لسنوات، منذ أن اكتشف بعض مقاطع الفيديو الخاصة به على موقع «يوتيوب»، حيث كان مهتماً بشكل خاص بالمطار المصغر الموجود فيه، الذي يبلغ معدل الإقلاع والهبوط فيه في المتوسط 500 رحلة يومياً، وهو ما يظهر على شاشة في المكان لمراقبة حركة الطائرات داخل وخارج المطار المصغر، ودائماً ما تقلع وتهبط هذه الطائرات المصغرة في الوقت المحدد.
ولذا، فإنه عندما خططنا للذهاب في رحلة إلى ألمانيا في أغسطس (آب) الماضي لرؤية العائلة في ميونيخ، أضفنا رحلة إلى هامبورغ لزيارة «العجائب المصغرة»، واشترينا التذاكر عبر الإنترنت، أردتُ وزوجي إسعاد ابننا الوحيد بهذه الزيارة، ولكن ما لم نتوقعه هو شعورنا بسحر خاص في هذا العالم المصغر الذي لم يكن مليئاً بالتفاصيل الدقيقة والبراعة التكنولوجية فحسب، ولكنه مليء بالفكاهة وروح الدعابة أيضاً. فكان هناك، على سبيل المثال، ديوراما إيطاليا، ومن بين النسخ المصغرة لكاتدرائية القديس بطرس والكولوسيوم وجبل فيزوف كانت هناك مشاهد صغيرة متحركة، تُنشط بالضغط على زر، ومن خلال الضغط على أحدها ينمو أنف تمثال مصغر للدمية الشهيرة «بينوكيو» بطول 6 بوصات عبر غرفة موجودة في كوخ صغير، وفي مكان آخر، يتحرك نموذج مصغر للرسام الشهير مايكل أنغلو على ترامبولين للوصول إلى سقف كنيسة سيستين وهو يحمل فرشاة الرسم الخاصة به، وهو ما يمثل فكرة إبداعية خالصة.
وفي مقابلة هاتفية أجريت معه أخيراً، يقول توماس سيرني، وهو مطور برمجيات والمتحدث باسم «العجائب المصغرة»: «لقد قال لنا منشئ هذا النموذج المصغر إنه كان بإمكانه وضع مايكل أنغلو ثابتاً على سقالات، ولكن لا أحد كان سيرى ذلك، وتساءل: (ما الذي يمكنني استخدامه بدلاً من ذلك ليظهر أنغلو للزوار وهو يرسم؟)».
وأضاف: «بُناة هذه النماذج هم مَن يجعلون المعرض بأكمله يبدو مميزاً، وفي حال تعرفت عليهم، فيمكنك حينها معرفة مَن منهم بنى أي نموذج، وذلك لأن كل واحد منهم لديه روح الدعابة الخاصة به».
وأثناء تنقلنا من مكان إلى آخر، ونحن يوجه بعضنا بعضاً بالإشارة إلى بعض الأماكن الجذابة التي لم نكن قد رأيناها، أعجبتنا للغاية فكرة أن المعروضات لم تكن ثابتة، فبالإضافة إلى القطارات والسيارات والقوارب التي كانت تتحرك (في القسم الإسكندنافي، كانت السفن تبحر بين أمواج مياه حقيقية)، فإن معظم الشخصيات التي يبلغ ارتفاعها بوصة تقريباً كانت تفعل شيئاً ما في المشاهد التي رأيناها، حيث كانت تبدو وكأنها تقوم بحركة، إن لم يكن ذلك من خلال قيامها بحركات فعلية أمامنا، ويقول سيرني: «مع مرور الوقت، أصبح نموذج السكك الحديدية أقل أهمية، بينما توجه اهتمام الزوار بشكل أكبر للقصص التي تُسرد والمناظر الإبداعية الأخرى».
وفي الطابق الرابع، مررنا بالقيادة المركزية لجميع المعروضات الموجودة في المكان، التي كانت مليئة بالشاشات الكبيرة والإلكترونيات؛ فقد بدا المكان وكأنه مثل المطبخ المفتوح، ففي هذه المنطقة من المعرض لم تكن هناك الأنظمة التي تتحكم في القطارات والمركبات والإضاءة فحسب، ولكن كانت كاميرات الفيديو تتيح للموظفين مراقبة أشياء، مثل انحرافات القطارات ومواطن الخلل الأخرى التي يمكن أن تحدث مع العديد من الأجزاء المتحركة في المعرض.
واكتشفنا أن الأجواء لا تبدو مشمسة دائماً في «العجائب المصغرة»، كما هو الحال في الواقع أيضاً، حيث كانت تتحول الإضاءة داخل المعروضات من النهار إلى الليل لفترة مدتها ثلاث دقائق كل 12 دقيقة، إذ تُصبَح الغرف المصغرة مظلمة، حيث كان يُشغّل ما يقرب من نصف مليون مصباح «ليد» داخل الديوراما الإيطالية، وبُرمجت كل هذه الأضواء لتشغل بشكل تدريجي بدلاً من تشغيلها مرة واحدة، مما يؤدي إلى إنشاء محاكاة لشكل غروب الشمس.
* خدمة «نيويورك تايمز»