وما أدراك ما الإدراك؟!

الخوارزميات ستستحيل روبوتات وآلات فائقة الذكاء من حيث القدرة على التحليل والمتابعة وتقديم البدائل (إ.ب.أ)
الخوارزميات ستستحيل روبوتات وآلات فائقة الذكاء من حيث القدرة على التحليل والمتابعة وتقديم البدائل (إ.ب.أ)
TT

وما أدراك ما الإدراك؟!

الخوارزميات ستستحيل روبوتات وآلات فائقة الذكاء من حيث القدرة على التحليل والمتابعة وتقديم البدائل (إ.ب.أ)
الخوارزميات ستستحيل روبوتات وآلات فائقة الذكاء من حيث القدرة على التحليل والمتابعة وتقديم البدائل (إ.ب.أ)

ما الإدراك؟! ما كُنهُهُ...؟! ما حقيقته؟ ما أماراته؟ ما أثره؟! هل تعريفه مسألة حاكمة في حياة الإنسان على الأرض... أم أنها تهويمات فلسفية لا بأس بها أن تقبع في رؤوس أصحابها أو في دوائر الجدل المرسل وتظل هناك بلا أمل يرجى أو بأس يتقى؟!
ما مدى محورية تعريفه في توجيه حياتنا أخلاقياً واجتماعياً ودينياً واقتصادياً وقانونياً وسياسياً؟! هل يستطيع أو استطاع أحد أن يقطع بتعريف كنه الإدراك؟ هل هو الملاحظة؟ هل هو المشاهدة... والقدرة على الرصد؟
هل هو القدرة على التمييز اللوني أو البيولوجي؟ هل هو الشعور والقدرة على التقييم؟ هل هو المعاناة؟
البحث في كنه الإدراك ليس قضية علمية أو فلسفية وكفى... ولا ينبغي لها أن تكون... لأنها قبل ذلك قضية ذات أثر عميق مباشر على توجهاتنا واختياراتنا وقراراتنا القانونية والسياسية وقبلهما الأخلاقية.
فمن قطع أو أراد أن يقطع بأن الإدراك هو الملاحظة أو القدرة على الرصد... فإن كاميرا التصوير الفوتوغرافي والسينمائي قادرة على الملاحظة والرصد...!
ومن أراد الإدراك هو القدرة على التمييز... فإن عدسات المراقبة الإلكترونية المزودة بخوارزميات الذكاء الاصطناعي قادرة وبدقة فائقة على تمييز الأوجه البشرية وتفاوت الألوان والملامح، ومدى تطابق أو اختلاف صور الكائنات والمخلوقات من جماد وحيوان وإنسان.
ومن ظن أن الإدراك هو الشعور والحساسية والقدرة على التقييم... فإن ترموستات الحرارة قادر بلا خطأ أن يشعر بدرجة الحرارة ويقيمها ويسجلها... ومرة أخرى بربطه بخوازميات لتحليل البيانات يستطيع أن يقدم رأياً داعماً في صنع القرار عن التغير المناخي وتداعياته على المستوى البيئي... وفي سياق الاختراق الصناعي والميكنة في حياة البشر - من أبسط الآلات المنزلية اليومية، إلى وسائل انتقالهم، إلى المدن الهائمة في الفضاء من المحطات المدارية ومركبات الفضاء - يستطيع أن يصدر أحكاماً قاطعة عن حال تلك الآلة وقدرتها على الأداء.
إن علم القياس والتحكم قائم على الرقائق الإلكترونية ذات القدرة على القياس والتعيير... ولكن الرقائق بحساسيتها الفائقة تبقى قطعاً صماء أصلها من رمل.
أما الآن وفي الفتح الإنساني الجديد في علم الذكاء الاصطناعي... ونحن ننتقل وبسرعة مذهلة بين عالمين في ذاك المجال... من تكنولوجيا الجيل الخامس إلى تكنولوجيا الجيل السادس في أقل من خمس سنوات من الآن... والفارق لو تعلمون عظيم...!!
فإن كانت تكنولوجيا الجيل الخامس هي ما أفاض علينا فتوحات علمية معروفة بإنترنت الأشياء وذروة سنامها السيارات ذاتية القيادة... وخوارزميات تحديد توجهات الرأي والاختيار لدى البشر بناء على سلوكهم الرقمي على هواتفهم وحواسيبهم وغيرها، إلى درجة التنصت على ما ينبس به الإنسان من بنت شفة حول أمر بعينه، فيتحول إلى كلمة مفتاحية لتلك الخوارزمية، التي ما تلبث أن تمطر هاتفه وحاسبه بمئات الإعلانات والمعلومات عن ذاك الموضوع الذي قاربه في حوار أسَرّ به لبعض أصحابه، أو حدث به نفسه ولكن بصوت عالٍ... إلى تكنولوجيا الجيل السادس وفتح الآلات ذاتية التعلم، التي ستجعل القسمة في المستقبل القريب ليست بين بشر أذكى وبشر أقل ذكاء... ولكن بين آلات مهيمنة بذكائها وبشر ينافح محاولاً أن يبقى على قدرته على منافستها في بعض مجالات عمل يزاح منها بالكلية... ولتتحول مأساة البشر من المعاناة من الاستغلال... استغلال البشر للبشر... إلى فقدان الدور والهامشية في الحياة.
وعليه... فإن قضية الإدراك وكنهه ستكون هي القضية الحاكمة أخلاقياً وقانونياً وسياسياً...!
فهل السيارة ذاتية القيادة... وهي القادرة على الرصد والتوقع ورد الفعل والمناورة في كل ما يواجهها في مسارها... كائن مدرك واعٍ... أم كائن أصم؟ على أي قاعدة فلسفية وأخلاقية نسن قانوناً يجرم أو لا يجرم ما ينتج عن حادث تسببت فيه تلك المركبة ذاتية القيادة فحطمت أو أصابت أو قتلت...؟! من نعاقب وعلام وعلى من يحتسب المجتمع لكي يقر العدل...؟
تلك الخوارزميات التي ستستحيل روبوتات وآلات فائقة الذكاء من حيث القدرة على التحليل والمتابعة وتقديم البدائل في ضوء كلمة مفتاحية أو كلمات تنم عن موضوع ما... على من نحتسب إن هي أضلت وساقت طفلاً أو مراهقاً أو حتى رجلاً أو امرأة كاملي النضج، فأودت بهم أو بمقدراتهم أو بثرواتهم أو بحياتهم... ممن يقتص المجتمع... وعلى أي قاعدة عدل يحيا...؟
في وسط هذا التيه، أتت المقاربات الفلسفية نحو تعريف كنه الوعى والإدراك على وجه من ثلاثة أوجه...
أولها... يقرر أن معرفة كنه الوعى والإدراك أمر مستحيل، ولن يستطيع العقل البشرى سبر غوره على أي نحو كان. ثانيها... يقدم قائمة من التصورات القاصرة - أسلفناها - على كون الوعي والإدراك هما المشاهدة المجردة أو الملاحظة غير المنحازة وغير المؤهلة لإصدار أحكام، أو البعد الشعوري والتقويمي للملاحظة... وقد أثبتنا قصورها بل تهافتها بما سقناه من أمثلة.
ثالثها... وأكثرها منطقية... هو ما يؤكد أن «الإدراك هو صنو المعاناة»... فالمعاناة النفسية أو الجسدية هي عنوان الإدراك ودلالته ومنطلقه وأثره... ولكن يبقى لهذا الوجه تحديان واجبا النقاش.
فمن ساقوا هذا الوجه لتعريف الوعي والإدراك... وقد لا يجانبهم الصواب في بعض أطروحتهم... حين يدللون على استقامة طرحهم بأن ما يفرق بين البشر والآلة القادرة على الرصد والمشاهدة أو تلك القادرة على قياس الحرارة... هو مردود ذلك على البشر وعلى إنسانيته... ما يفرحه وما يحزنه... ما يسوؤه وما يؤلمه... وما يشد عضده... ما يوجعه... ما يخيفه... ما يطمئنه... ذاك ما يجعل من الإنسان فاعلاً سياسياً وأخلاقياً... وإلى هنا قد لا نختلف في كثير.
ولكن ما يذهب إليه بعض من هؤلاء بُغيَة تغريب الوحي أو تضحيل دوره في تسيير حياة البشر وترقيها... بأنه، وإن جزمنا بأن الوعي هو صنو المعاناة... وأن المعاناة ليست بالضرورة هي الوجع، ولكنها رغبة الإنسان في تغيير واقع ما إلى واقع أفضل... قد يكون من واقع ألم ووجع إلى واقع مهادنة وسكون... أو من واقع رحب جيد إلى واقع أكثر رحابة وجودة... أو إلى إحراز متعة حسية ونفسية على نحو ما... فإن مصدر تعريف الأفضل والأجود وما يورث السكينة وما يورث النعيم والمتعة، هو ما فيه الاختلاف...!
فإن أتى تعريف الاستقامة والاعوجاج، في قديم من وحي السماء (أو هكذا كان يظن القدماء في زعم هؤلاء المحدثين)... فما لبث أن حلت سلطة الدولة محل السلطة الإلهية... وأخيراً فقد صار ما يقرر طبيعة المعاناة ونوع النجاة منها لا وحي السماء ولا سلطة الدولة ولكن سلطة الضمير الفرد.
والضمير الفرد هو ما يقرر إلى أي مدى يكون الفعل آثماً أو صالحاً بمدى المعاناة التي يوقعها بغيره... ويذهب هؤلاء إلى صك ما يسمونه «جرائم اللاضحايا»...!
ففي عرف هؤلاء، المثلية والشذوذ الأخلاقي مثلاً... هما فعل اختيار وتراض لا يخرج أثره (في عرفهم) معاناة على أي نحو إلى المجتمع... فهو فعل بين أطرافه... وبمثلها أي جريمة يعدها الوحي (الدين) أو العرف أو سلطة الدولة جرائم، في حين أن ضمير فرد يستطيع تصنيفها في إطار جريمة اللاضحية (أي جريمة لا ضحايا لها)... فهو فعل طبيعي مستقيم... بل مستحسن...!!
وينطلق هؤلاء إلى «تعريف الوعي والإدراك على كونه القدرة على المعاناة»... ويكون إنفاذ أثره سياسياً وأخلاقياً وقانونياً على نحو ما ينتهى إليه الضمير الفرد... وقد تسرب هذا الفهم ولم يزل إلى كثير من القضايا الكبرى التي تزلزل المجتمع الإنساني برمته وتنذر بسوء عاقبة.
قد لا نختلف مع من يذهبون إلى أن الوعي والإدراك ظاهره هو صنو المعاناة... ولكن ما نجزم به أن جوهره ما زال وسيظل مستغلقاً... ففهمنا لمنشأ المعاناة ومدرج نضجها وتعاظمها وما تمليه على النفس من أثر سيظل تعريفه من ضروب المستحيل.
لأن كل ما يقارب حقيقة لماذا تنشأ المعاناة... ولما تتعاظم في نفس وتهون في أخرى... وكيف تكون أطوارها في نفس واحدة لشخص واحد تأرجحاً بين التسامي والانحطاط بين النفس الأمارة بالسوء... إلى النفس اللوامة... إلى النفس الزاهدة المطمئنة... هو من أمر الروح...!
وهو ما قدره أن يبقى مستغلقاً علماً وفلسفة إلى أن يكون أمر ربي بإزالة الحجب.
ألم نقل إن العلم والوحي والفلسفة هي قوائم استقرار الفكر الإنساني... في تكاملها تمام نضجه وترقيه... وفي إقحام تنافر بينها إقحام لعنت إنساني ثقيل، وهدر لأعمارها سدى.
فَكرُوا تَصحُوا...
* كاتب ومفكر مصري


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

TT

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)
مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)

في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، على مساحة لا تزيد على 360 كيلومتراً مربعاً، بطول 41 كم، وعرض يتراوح بين 5 و15 كم، يعيش في قطاع غزة نحو مليوني نسمة، ما يجعل القطاع البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم.

تبلغ نسبة الكثافة وفقاً لأرقام حديثة أكثر من 27 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد، أما في المخيمات فترتفع الكثافة السكانية إلى حدود 56 ألف ساكن تقريباً بالكيلومتر المربع.

تأتي تسمية القطاع «قطاع غزة» نسبة لأكبر مدنه، غزة، التي تعود مشكلة إسرائيل معها إلى ما قبل احتلالها في عام 1967، عندما كانت تحت الحكم المصري.

فقد تردد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في احتلال القطاع بعد حرب 1948، قبل أن يعود بعد 7 سنوات، في أثناء حملة سيناء، لاحتلاله لكن بشكل لم يدُم طويلاً، ثم عاد واحتله وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان عام 1967.

خيام النازحين الفلسطينيين على شاطئ دير البلح وسط قطاع غزة الأربعاء (إ.ب.أ)

في عام 1987، أطلق قطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى، وغدا مصدر إزعاج كبيراً لإسرائيل لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، تمنى لو يصحو يوماً ويجد غزة وقد غرقت في البحر.

لكن غزة لم تغرق كما يشتهي رابين، ورمتها إسرائيل في حضن السلطة الفلسطينية عام 1994 على أمل أن تتحول هذه السلطة إلى شرطي حدود. لكن هذا كان أيضاً بمثابة وهم جديد؛ إذ اضطرت إسرائيل إلى شن أولى عملياتها العسكرية ضد غزة بعد تسليمها السلطة بنحو 8 سنوات، وتحديداً في نهاية أبريل (نيسان) 2001.

وفي مايو (أيار) 2004، شنت إسرائيل عملية «قوس قزح»، وفي سبتمبر (أيلول) 2004، عادت ونفذت عملية «أيام الندم». ثم في 2005، انسحبت إسرائيل من قطاع غزة ضمن خطة عرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب».

بعد الانسحاب شنت إسرائيل حربين سريعين، الأولى في 25 سبتمبر (أيلول) 2005 باسم «أول الغيث»، وهي أول عملية بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين، وبعد عام واحد، في يونيو (حزيران) 2006، شنت إسرائيل عملية باسم «سيف جلعاد» في محاولة فاشلة لاستعادة الجندي الإسرائيلي الذي خطفته «حماس» آنذاك جلعاد شاليط، بينما ما زالت السلطة تحكم قطاع غزة.

عام واحد بعد ذلك سيطرت حماس على القطاع ثم توالت حروب أكبر وأوسع وأضخم تطورت معها قدرة الحركة وقدرات الفصائل الأخرى، مثل «الجهاد الإسلامي» التي اضطرت في السنوات الأخيرة لخوض حروب منفردة.

ظلت إسرائيل تقول إن «طنجرة الضغط» في غزة تمثل تهديداً يجب التعامل معه حتى تعاملت معها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بانفجار لم تتوقعه أو تستوعبه إسرائيل وجر حرباً دموية على غزة، وأخرى على لبنان، وسلسلة مواجهات باردة في جبهات أخرى في حرب تبدو نصف إقليمية، وما أسهل أن تتحول إلى نصف عالمية.

أبرز الحروب

«الرصاص المصبوب» حسب التسمية الإسرائيلية أو «الفرقان» فلسطينياً:

بدأت في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، وشنت خلالها إسرائيل إحدى أكبر عملياتها العسكرية على غزة وأكثرها دموية منذ الانسحاب من القطاع في 2005. واستهلتها بضربة جوية تسببت في مقتل 89 شرطياً تابعين لحركة «حماس»، إضافة إلى نحو 80 آخرين من المدنيين، ثم اقتحمت إسرائيل شمال وجنوب القطاع.

خلفت العمليات الدامية التي استمرت 21 يوماً، نحو 1400 قتيل فلسطيني و5500 جريح، ودمر أكثر من 4000 منزل في غزة، فيما تكبدت إسرائيل أكثر من 14 قتيلاً وإصابة 168 بين جنودها، يضاف إليهم ثلاثة مستوطنين ونحو ألف جريح.

وفي هذه الحرب اتهمت منظمة «هيومان رايتس ووتش» إسرائيل باستخدام الفسفور الأبيض بشكل ممنهج في قصف مناطق مأهولة بالسكان خلال الحرب.

«عمود السحاب» إسرائيلياً أو «حجارة السجيل» فلسطينياً:

أطلقت إسرائيل العملية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 باغتيال رئيس أركان «حماس»، أحمد الجعبري. واكتفت إسرائيل بالهجمات الجوية ونفذت مئات الطلعات على غزة، وأدت العمليات إلى مقتل 174 فلسطينياً وجرح 1400.

شنت «حماس» أعنف هجوم على إسرائيل آنذاك، واستخدمت للمرة الأولى صواريخ طويلة المدى وصلت إلى تل أبيب والقدس وكانت صادمة للإسرائيليين. وأطلق خلال العملية تجاه إسرائيل أكثر من 1500 صاروخ، سقط من بينها على المدن 58 صاروخاً وجرى اعتراض 431. والبقية سقطت في مساحات مفتوحة. وقتل خلال العملية 5 إسرائيليين (أربعة مدنيين وجندي واحد) بالصواريخ الفلسطينية، بينما أصيب نحو 500 آخرين.

مقاتلون من «كتائب القسام» التابعة لـ«حماس» في قطاع غزة (أرشيفية - «كتائب القسام» عبر «تلغرام»)

«الجرف الصامد» إسرائيلياً أو «العصف المأكول» فلسطينياً:

بدأتها إسرائيل يوم الثلاثاء في 8 يوليو (تموز) 2014، ظلت 51 يوماً، وخلفت أكثر من 1500 قتيل فلسطيني ودماراً كبيراً.

اندلعت الحرب بعد أن اغتالت إسرائيل مسؤولين من حركة «حماس» اتهمتهم أنهم وراء اختطاف وقتل 3 مستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.

شنت إسرائيل خلال الحرب أكثر من 60 ألف غارة على القطاع ودمرت 33 نفقاً تابعاً لـ«حماس» التي أطلقت في هذه المواجهة أكثر من 8000 صاروخ وصل بعضها للمرة الأولى في تاريخ المواجهات إلى تل أبيب والقدس وحيفا وتسببت بشل الحركة هناك، بما فيها إغلاق مطار بن غوريون.

قتل في الحرب 68 جندياً إسرائيلياً، و4 مدنيين، وأصيب 2500 بجروح.

قبل نهاية الحرب أعلنت «كتائب القسام» أسرها الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون، خلال تصديها لتوغل بري لجيش الاحتلال في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وما زال في الأسر.

«صيحة الفجر»:

عملية بدأتها إسرائيل صباح يوم 12 نوفمبر عام 2019، باغتيال قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، بهاء أبو العطا، في شقته السكنية في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وردت «حركة الجهاد الإسلامي» بهجوم صاروخي استمر بضعة أيام، أطلقت خلالها مئات الصواريخ على مواقع وبلدات إسرائيلية.

كانت أول حرب لا تشارك فيها «حماس» وتنجح إسرائيل في إبقائها بعيدة.

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

«حارس الأسوار» أو «سيف القدس»:

بدأت شرارتها من القدس بعد مواجهات في حي الشيخ جراح، واقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى ثم تنظيم مسيرة «الأعلام» نحو البلدة القديمة، وهي المسيرة التي حذرت «حماس» من أنها إذا تقدمت فإنها ستقصف القدس، وهو ما تم فعلاً في يوم العاشر من مايو (أيار) عام 2021.

شنت إسرائيل هجمات مكثفة على غزة وقتلت في 11 يوماً نحو 250 فلسطينياً، وأطلقت الفصائل أكثر من 4 آلاف صاروخ على بلدات ومدن في إسرائيل، ووصلت الصواريخ إلى تخوم مطار رامون، وقتل في الهجمات 12 إسرائيلياً.

 

«الفجر الصادق» أو «وحدة الساحات»:

كررت إسرائيل هجوماً منفرداً على «الجهاد» في الخامس من أغسطس (آب) 2022 واغتالت قائد المنطقة الشمالية لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، تيسير الجعبري، بعد استنفار أعلنته «الجهاد» رداً على اعتقال مسؤول كبير في الحركة في جنين في الضفة الغربية، وهو بسام السعدي.

ردت «حركة الجهاد الإسلامي» بمئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وقالت في بيان إنها عملية مشتركة مع كتائب المقاومة الوطنية وكتائب المجاهدين وكتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح)، في انتقاد مبطن لعدم مشاركة «حماس» في القتال. توقفت العملية بعد أيام قليلة إثر تدخل وسطاء. وقتل في الهجمات الإسرائيلية 24 فلسطينياً بينهم 6 أطفال.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

«السهم الواقي» أو «ثأر الأحرار»:

حرب مفاجئة بدأتها إسرائيل في التاسع من مايو 2023، باغتيال 3 من أبرز قادة «سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة)، أمين سر المجلس العسكري لسرايا القدس، جهاد غنام (62 عاماً)، وقائد المنطقة الشمالية في السرايا خليل البهتيني (44 عاماً)، وعضو المكتب السياسي أحد مسؤولي العمل العسكري في الضفة الغربية، المبعد إلى غزة، طارق عز الدين (48 عاماً).

وحرب عام 2023 هي ثالث هجوم تشنه إسرائيل على «الجهاد الإسلامي» منفرداً، الذي رد هذه المرة بتنسيق كامل مع «حماس» عبر الغرفة المشتركة وقصف تل أبيب ومناطق أخرى كثيرة بوابل من الصواريخ تجاوز الـ500 صاروخ على الأقل.

... ثم الحرب الحالية في السابع من أكتوبر 2023.