باسكال صقر لـ «الشرق الأوسط»: أغيبُ مع غياب الفن الراقي

فنانة «وعد يا لبنان» تزداد تمسكاً بالقضية

باسكال صقر فنانة القضية اللبنانية
باسكال صقر فنانة القضية اللبنانية
TT

باسكال صقر لـ «الشرق الأوسط»: أغيبُ مع غياب الفن الراقي

باسكال صقر فنانة القضية اللبنانية
باسكال صقر فنانة القضية اللبنانية

أربع سنوات شاقة عبرت بثقلها على الفنانة اللبنانية باسكال صقر البعيدة عن الصخب. تجول الثورة في بالها مُلحقة بـ«الكوفيد»، زلزال النيترات، والذل الاقتصادي؛ ثم تشكر الله: «لا نزال صامدين». تروّض وحشة الأيام بحفلات خاصة تحييها بتقطُّع، وتحاكي جدوى الوقت باهتمامات عائلية وبعض الرياضة. الإحباط لا يكفّ عن زياراته المزعجة.
رافقت الذاكرة اللبنانية بأغنيات لا يحفر الزمن قبرها، بل رسّخت سطوعها في كل منعطف. توارت كأنها تترك ساحة لم تعد تشبه فناً كرّست مكانته بصوتها. أين أنتِ باسكال صقر، أتتعمّدين الغياب؟
تُقدّر كلاماً منصفاً يتردّد على مسمعها خلال حديثها مع «الشرق الأوسط»، فهي ابنة أغنية تراعي جمال المعنى. تغيب بغياب فن فوّاح، يُحلّق بعيداً عن هذه الأيام الضحلة: «لستُ وحدي مَن يبتعد، فالأغنية القيّمة الشاهدة على عبقرية الكبار، ترحل. حتى أغنيات فيروز ما عادت تُبثّ إلا في الصباح الباكر. لا يتعمّد الفنان الغياب، لكنّ الأيام دوّارة. هذا عصر شركات إنتاج كبرى تشجّع على الفن الترفيهي الصاخب».
يشكّل ميل الفن إلى المركب التجاري منه إلى الثقافي، ألماً ينعكس على النبرة وهي تتحدّث، فتتمنّى لو أنّ العطاء لا ينكفئ والأحوال لم تنقلب انقلابَ سلحفاة. عملت مع كبار، منهم غادر الحياة والتحق بمساحات السماء، كمنصور وإلياس الرحباني، وملحم بركات، وزكي ناصيف، وإحسان المنذر. فهل هو الفراغ العميق بما يخصّ كتّاب الأغنية المُعدّة للبقاء، وملحّنيها، السبب خلف البُعد؛ بحيث أنّ أغنيات اليوم بمعظمها مكتوبة للحظة، للمرحلة، للترند، لعصر السرعة؟
تختصر الردّ فتوضح أنّ عظماء الفن لا يقتصرون فقط على كتّاب الكلمة، فهم أيضاً صنّاع اللحن والتوزيع وأناقة الغناء بأسره. ترمي أملاً على شكل رجاء: «عسى نشهد بزوغ فنانين رسالتهم الارتقاء بالفن ككبارنا الخالدين»، وترمق أمامها طول الدرب: «النوابغ قلّة. قد يتطلّب الأمر عقوداً طويلة».

تستعمل مفردة «ضيعانهم» للتحسّر، وتهدي تحية لمَن صنعوا أغنية المرحلة كاملة، بمنعطفاتها وظروفها، عوض الدارج؛ أغنية اللحظة. حين تتكلم على الأغنية الراهنة، تمدّ لها جسراً يربطها بوجع الحياة واختناق إنسان اليوم: «هذه الأغنيات بمثابة (فشة خلق)، فإن رقص المرء وهيَّص، هوّن عليه المرارة».
بهذا الدور، تقيّد وظيفتها، ولا تسدل الستارة على شعاع أغنيات تخفّف الهم، من دون أن توقظ الأحلام والمشاعر النبيلة: «لستُ ضدّها، فهي مرغوبة، يحتاجها المتلقي لانتشاله من القلق. الإنسان مزيج من اللهو والسلطنة». أسفها أنّ الفنّ الذي كرّست له عذوبة شبابها يفتقر الدعم: «الترويج المكثّف يطال الأغنية السريعة. تهبّ في كل وقت».
أعادت تجديد أغنيات قديمة، ولعل السبب رغبتها في تقديمها بإيقاع عصري لجيل أيامنا اللاهثة. أو لعلها لم تجد ما يجدر العودة من خلاله بما يليق بمكانتها ويشبه هويتها. توافق على أن وراء تجديد الأغنيات يكمن هذان السببان. تقرّ بخوفها من خوض مغامرة شائكة: «أخشى التغرُّب عن هويتي الفنية. هذا يؤرقني. أنتظر عودة تشبه تجديد وردة الجزائرية (بتونّس بيك) للإطلالة على الجيل الشاب. هذا ما أبحث عنه ولا أجده بسهولة. لذا أجدّد القديم، وأترقّب ظرفاً يتيح اللقاء بمَن يمنحني أغنية قريبة من أجواء أغنية فنانة الجزائر، بأصالتها وأسلوبها الإيقاعي».
تبقى «اشتقنالك يا بيروت»، بأنامل إلياس الرحباني، علامة فارقة في أغنياتها، نستعيدها حين نشعر أننا كائنات يعصى عليها الانسلاخ عن مدينة تحبّها بقدر ما تتعذّب جراء ألم الحب. تتجوّل فنانتها في شوارع العاصمة الحزينة وتلمح إصرارها على التشبّث بالفرح. تتنهّد وترفع الصلاة لتعود منارة الشرق.
ولكن، هل تتبدّل القناعات حيال القضايا؟ أي أفكار تتخبّط في رأس باسكال صقر، فنانة القضية اللبنانية اليوم؟ تجيب بأنها أدّت فكرة ولحناً من صنع كبار حمّلوها القضية. وتدحض احتمال الشك بما كان على الدوام يقيناً تاماً: «اليوم، بعد النضج، أتأكد بأنّ النضال محق. لا، لم تتبدّل قناعاتي، بل ازدادت ترسّخاً. هذه قناعات متعلقة بالجوهر اللبناني. الطماعون والقتلة كثر. غنّينا القضية ولا نزال من أجل لبنان الحرّ السيد المستقل. 40 سنة ونحن نقاوم للوصول إلى خلاص حمّلناه الأغنية. الرجاء أن نصل يوماً».
نغلق باب الحوار على واحدة من لمعان البصمات الفنية في مسيرتها، أغنية «وعد يا لبنان»، الأنشودة لرفع الهمم. مكانها في داخل باسكال صقر، هل غيّره الزمن؟ وهل من أغنية استطاعت منافستها في الوجدان اللبناني خلال الحرب؟
تفسّر مغزاها: «كانت لشخص ومرحلة. أردنا بنبضها إحباط مخططات جهنّمية، والتصدّي لمحاولات احتلال الأرض. بشير الجميّل كان قائد هذه المسيرة، ومَن اصطفّوا ضدّه آنذاك في المنطقة (الغربية)، راحوا يلمسون تضحياته لقيامة الوطن. لهذه الأغنية مكانة فريدة في قلبي. ثمة أغنيات تستلقي أيضاً في الوجدان: (بتضلك سيفي)، (من قلب الدمار)، (رشّوا الفلّ العسكر طلّ)، لكن (وعد يا لبنان) استثنائية».
تترحّم على الرئيس الراحل، نجم الأغنية، وتستعيد معادلة تاريخية أليمة: «كل مَن يعمل لمصلحة لبنان مصيره الموت أو المنفى».


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

«إثراء» تكرّس مؤتمر الفن الإسلامي بالظهران «في مديح الفنان الحِرفي»

الأمير سعود بن نايف أمير المنطقة الشرقية والأمير سلطان بن سلمان في افتتاح مؤتمر الفن الإسلامي بمركز «إثراء» بالظهران (الشرق الأوسط)
الأمير سعود بن نايف أمير المنطقة الشرقية والأمير سلطان بن سلمان في افتتاح مؤتمر الفن الإسلامي بمركز «إثراء» بالظهران (الشرق الأوسط)
TT

«إثراء» تكرّس مؤتمر الفن الإسلامي بالظهران «في مديح الفنان الحِرفي»

الأمير سعود بن نايف أمير المنطقة الشرقية والأمير سلطان بن سلمان في افتتاح مؤتمر الفن الإسلامي بمركز «إثراء» بالظهران (الشرق الأوسط)
الأمير سعود بن نايف أمير المنطقة الشرقية والأمير سلطان بن سلمان في افتتاح مؤتمر الفن الإسلامي بمركز «إثراء» بالظهران (الشرق الأوسط)

افتتح الأمير سعود بن نايف بن عبد العزيز، أمير المنطقة الشرقية، اليوم الأحد، أعمال مؤتمر الفن الإسلامي بنسخته الثانية، بحضور الأمير سلطان بن سلمان، المستشار الخاص لخادم الحرمين الشريفين، رئيس مجلس الأمناء لجائزة عبد اللطيف الفوزان لعمارة المساجد.

وينظم المؤتمر مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» بالظهران، بالتعاون مع جائزة عبد اللطيف الفوزان لعمارة المساجد، ويستمر حتى 26 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، تحت شعار «في مديح الفنان الحِرفي».

ويحضر المؤتمر باحثون في الفن والتاريخ الإسلامي، ومثقفون وضيوف من مختلف دول العالم،

ويهدف إلى دعم وإحياء التقاليد الفنية الإسلامية بتسليط الضوء على أعمال الحِرفيين المعاصرين الذين يُبقون هذه التقاليد الفنية والحِرفية على قيد الحياة.

الحرف رحلة تعلّم

وفي كلمته، ثمن المستشار الخاص لخادم الحرمين الشريفين ورئيس مجلس أمناء جائزة عبد اللطيف الفوزان لعمارة المساجد الأمير سلطان بن سلمان آل سعود، جهود «أرامكو» في مجال الإرث والحضارة ودعم المشاريع التراثية في المنطقة الشرقية، مستعرضاً الأهمية التاريخية للحِرف بوصفها مليئة بالتراث الحضاري للمناطق، وذلك عطفاً على إنجازات المملكة في المحافل الدولية والعالمية بمشاركات متنوعة، سواء من مؤسسات ومعارض ومؤتمرات ذات بُعد تاريخي واجتماعي تصبّ في المنفعة المجتمعية.

وأكد «الأهمية التاريخية للحرف على أنها رحلة تعلم وليست إنجازات»، لافتاً، في الوقت نفسه، إلى «دور المتاحف في تعزيز التاريخ بوصفها وجهة رئيسية لكل دولة». وأشار إلى جهود المملكة في تسجيل واحة الأحساء بصفتها موقعاً تراثياً عالمياً في منظمة اليونسكو.

الحرفي شاعر صامت

وفي كلمته ذكر مدير مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» عبد الله الراشد أن مدرسة الفنون الإسلامية يكاد يغيب عنها الصانع، قائلاً: «القطع الإسلامية لا تعرف من صنعها، أما القطع المعاصرة فيُحتفى بالصانع، وكأن الحرفي في الفنون الإسلامية يود أن يبقى في الظل والخفاء»، مشيراً إلى أن «الحرفي شاعر صامت»، فمن هذا المنطلق حرص «إثراء» على إقامة هذا المؤتمر «في مديح الفنان الحرفي»، والذي «يحوي أوراقاً بحثية وجلسات حوارية ومعارض مصاحبة من أنحاء العالم؛ لنستكشف جمال الحرف الإسلامية وتأثيرها العميق على الثقافة الإنسانية، ولنعبر بتقدير عالٍ لمن يبدعون بأيديهم تراثنا وهويتنا ويصنعونها في زمن جل ما يلمس ويستخدم يصنع بالآلة، لذا أتينا بهذه المعارض لنحتفي باليد البشرية».

ولفت الراشد إلى إطلاق ثلاثة معارض متزامنة مع أعمال المؤتمر في القطع الأثرية والفنون الإسلامية والأزياء التراثية من حول العالم، في حين يتزامن إطلاق المؤتمر مع تسمية عام 2025 عام الحرف اليدوية الذي أطلقته وزارة الثقافة، مما يضيف بعداً خاصاً لهذه المناسبة.

وأضاف: «جهودنا في (إثراء) للعام المقبل تتضمن تقديم عشرات البرامج الكبرى والمعارض والورش؛ كلها حول الحرف اليدوية نستهدف فيها آلاف الزوار».

كود المساجد

بدوره، أعلن رئيس مجلس أمناء الفوزان لخدمة المجتمع عبد الله بن عبد اللطيف الفوزان، اعتماد كود المساجد في المملكة، والذي عملت عليه الجائزة بالشراكة مع وزارة الشؤون الإسلامية واللجنة الوطنية لكود البناء، مشيراً إلى أنه سيجري تدشينه في شهر يناير (كانون الثاني) المقبل.

وأشار إلى أن المؤتمر ملهم لإحياء الإرث الحضاري والتاريخي للأجيال القادمة، منوهاً، في الوقت نفسه، بالمكانة التي يتمتع بها الفنان الحرفي عبر العصور، لذا جاءت الجائزة بوصفها مرجعاً ثقافياً وفكرياً ومظلة حاضنة للمبادرات، والتي تحافظ على الموروث بوصفه رؤية مستقبلية.