وضع قرار منظمة «أوبك» خفض الإنتاج إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في أزمة حقيقية في خضم توقيت سيئ داخلياً وخارجياً، فارتفاع أسعار الطاقة في الأسواق العالمية سيؤدي إلى ارتفاع أسعار البنزين في الداخل الأميركي، وبالتالي ارتفاع أسعار المواد الغذائية والنقل والشحن... وكثير من قطاعات الخدمة والضيافة والسفر، وكلها أمور تأتي في وقت يعاني فيه الاقتصاد الأميركي من ارتفاع كبير في مستويات التضخم وارتفاع في أسعار الفائدة؛ بما يلقي مزيداً من الأعباء على الأسر الأميركية وسيؤثر على توجهات الناخب الأميركي حين يتوجه في 8 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل إلى صناديق الاقتراع.
ووفقاً للمقولة الشهيرة حول توجهات الناخب: «إنه الاقتصاد يا غبي»؛ فهي قاعدة صريحة وواضحة، فلا شيء يأتي في المقام الأول عند الناخب الأميركي قبل مدى رضاه عن وضعه الاقتصادي، وعما يدخل جيبه من أموال وما يحصل عليه من تخفيضات ضريبية.
أما عن الأوضاع السياسية الخارجية؛ فحدث ولا حرج، فالحرب الروسية في أوكرانيا تلقي بظلال قاتمة على الاقتصاد الأميركي، وتخرج كل المؤسسات الدولية المالية بتقارير ترسم صورة متشائمة عن الأوضاع الاقتصادية بسبب هذه الحرب التي لا يبدو أنها تشهد نهاية قريبة؛ سواء بانتصار طرف وهزيمة الآخر، أو بالجلوس إلى طاولة مفاوضات.
وتئن الدول الأوروبية من شتاء قارس مع شح موارد الطاقة وشبح ركود اقتصادي يخيم على القارة الأوروبية بأكملها، إضافة إلى شبح اشتعال حرب نووية مخيفة. وتنظر العواصم الأوروبية إلى الولايات المتحدة لتقود الطريق إلى حلول توفر الطاقة وتبعد شبح الركود وتضع حلاُ حاسماُ للحرب.
* هلع في البيت الأبيض
ومنذ إعلان «أوبك» قرار خفض الإنتاج؛ تسود حالة من الذعر والهلع داخل البيت الأبيض من تداعيات هذا القرار، فارتفاع أسعار البنزين سيهدد جهود الحزب الديمقراطي للاحتفاظ بالأغلبية في مجلسي الشيوخ والنواب.
وسيدفع قرار «أوبك» بالرئيس بايدن إلى الدخول في معارك داخلية جديدة مع شركات النفط الأميركية الكبيرة، وما يمكن أن تسفر عنه محادثات تؤدي إلى زيادة تلك الشركات إنتاجها، وقدرتها على الضغط على إدارة بايدن للحصول على مزيد من تصاريح التنقيب عن الوقود الأحفوري.
ويبدو أن الطبيعة تتضافر مع الظروف السياسية لتضيف بعداً آخر من التحديات أمام الرئيس بايدن، فحينما ضرب إعصار «إيان» ولاية فلوريدا الأسبوع الماضي كان تركيز بايدن منصباً على شركات النفط الكبرى، محذراً إياها من استغلال العاصفة ذريعة لرفع الأسعار. وقد أعلنت شركة «إكسون موبيل» الأميركية الأسبوع الحالي عن تحقيق أرباح قوية في الربع الثالث من العام، وتوقعت أعلى مستوى في الأرباح خلال الربع الرابع منه.
https://twitter.com/aawsat_News/status/1578051958178549761
* هجوم من صناع النفط
ووجه صناع الوقود الأحفوري كلمات قاسية إلى بايدن، مشيرين إلى أن الإدارة الآن ليس لديها خيار سوى تشجيع مزيد من الإنتاج المحلي، وكتبت «جمعية النفط والغاز الأميركية» عبر «تويتر» تغريدة قالت فيها: «لدى البيت الأبيض خيار واحد؛ وهو الوحيد الذي ما كان يجب الابتعاد عنه في المقام الأول؛ وهو إنتاج مزيد من النفط والغاز»، واتهم منتجو النفط الأميركيون إدارة بايدن بتضييق الخناق على الإنتاج المحلي والاحتماء بـ«قواعد ومبررات متعجرفة».
وقال مايك سومرز، المدير التنفيذي لـ«معهد البترول الأميركي»: «الحل الوحيد أمام إدارة بايدن لتلبية الطلب على الطاقة موجود هنا في الولايات المتحدة؛ لأننا نواجه أزمات متتالية في الطاقة بسبب عدم الاستقرار الجيوسياسي، ويجب على صانعي السياسة الأميركيين بذل كل ما في وسعهم لإنتاج مزيد من الطاقة هنا في أميركا؛ لا حض الأنظمة الأجنبية على ضخ مزيد من النفط».
* هجوم جمهوري
وقدم قرار «أوبك» للجمهوريين هدية على طبق من ذهب، لشن هجوم ضارٍ على اتجاهات بايدن السياسية والاقتصادية، واتهام إدارته بزيادة التكلفة على الأسر الأميركية. وكثف الجمهوريون مجدداً انتقاداتهم لخطط بايدن السابقة المتعلقة بخفض إنتاج الوقود الأحفوري في الولايات المتحدة وقيامه بوقف خط أنابيب «كيستون» - وهو خط أنابيب يمتد من كندا إلى ولاية نبراسكا ويمكنه ضخ قرابة 830 برميلاً من النفط يومياً - لأسباب تتعلق بحماية البيئة.
وشن العديد من الجمهوريين هجوماً متتالياً، متهمين بايدن بتقويض استقلال الولايات المتحدة في مجال الطاقة، خصوصاً أن الولايات المتحدة تملك احتياطات هائلة من النفط والغاز في ولايات مثل ألاسكا وتكساس وبنسلفانيا، وأيضاً ولاية نيويورك في الشمال؛ وهي ولاية غنية بالغاز الطبيعي، لكنها تخضع لقرار بايدن بحظر التنقيب.
وإذا تنازل بايدن لشركات النفط الكبيرة وأعطى مزيداً من التصاريح للتنقيب؛ فإن هذا سيواجه بانتقادات من منظمات حماية البيئة ومن التقدميين داخل حزبه، وسيواجه انتقادات حول التزامه بـ«الطاقة الخضراء» وخططه لمواجهة التغير المناخي والتوجه إلى الطاقة النظيفة.
* المخزون الاستراتيجي
وفي أول رد فعل للرئيس بايدن على قرار «أوبك»، أصدر أوامره لوزارة الطاقة بضخ 10 ملايين برميل من الاحتياطي البترولي الاستراتيجي الأميركي إلى الأسواق الشهر المقبل، وتعهد بمواصلة إصدار مزيد من احتياطي البترول الاستراتيجي وفقاً للحاجة ولحماية المستهلكين الأميركيين. وأشار إلى أنه سيتشاور مع أعضاء الكونغرس للبحث عن أدوات إضافية لتقليل سيطرة منظمة «أوبك» على أسعار الطاقة.
وحين وجه الصحافيون أسئلة للمتحدثة باسم البيت الأبيض عن الخطوات التي ستتخذها إدارة بايدن لمنع ارتفاع الأسعار في الولايات المتحدة، ألقت كارين جان بيير بالمسؤولية على شركات النفط، وقالت مساء الأربعاء: «تحتاج هذه الشركات إلى خفض أسعارها وسد الفجوة بين أسعار الجملة وأسعار التجزئة للبنزين؛ وهي فجوة واسعة للغاية».
وأشار بايدن للصحافيين، صباح الخميس، إلى أن إدارته تبحث في كل البدائل، لكنه لم يقرر بعد خطواته التالية. وقال براين ديس، المستشار الاقتصادي للرئيس، إن كل الخيارات مطروحة على الطاولة للتعامل مع ارتفاعات أسعار الطاقة ومواجهة نقص الإمدادات.
ووصفت صحيفة «واشنطن بوست» تكتيكات إدارة بايدن للتعامل مع ارتفاع أسعار الطاقة بأنها سياسات تحمل مزيجاً من عدم الترابط والتشاؤم، وانتقدت قيامه باستنزاف المخزون الأميركي الاستراتيجي من جانب؛ وشيطنة شركات النفط الأميركية من جانب آخر، والدفع بتكنولوجيا «الطاقة الخضراء» الباهظة الثمن والمتقطعة وغير القابلة للتطبيق على نطاق واسع.
هل سيؤثر قرار «أوبك بلس» على نتائج الانتخابات النصفية الأميركية؟
* فنزويلا
وسرت تسريبات وتقارير صحافية تشير إلى أن الرئيس بايدن قد يقدم على خطوة رفع العقوبات الأميركية المفروضة على فتزويلا ونظام نيكولاس مادورو، والسماح لشركة «شيفرون» الأميركية باستئناف عملياتها هناك.
وأشارت صحيفة «وول ستريت» إلى أن تفكير إدارة بايدن يتجه إلى إعلان رفع العقوبات مقابل عودة مادورو إلى طاولة المفاوضات مع المعارضة السياسية بقيادة خوان غوايدو وتلبية الشروط لإجراء انتخابات رئاسية حرة ونزيهة في عام 2024.
رغم أن المتحدثة باسم مجلس الأمن القومي، إدريان واتسون، نفت ذلك، وقالت: «سنواصل تنفيذ وفرض عقوباتنا على فنزويلا»، فإنها أضافت عبارة مطاطة تعطي بعضاً من الضوء الأخضر، فقالت: «الولايات المتحدة ليست لديها خطط لتغيير سياسة العقوبات ضد فنزويلا دون خطوات بناءة من الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو لاستعادة الديمقراطية».
وتعدّ فنزويلا منتجاً رئيسياً للنفط، وكانت تضخ أكثر من 3.2 مليون برميل يومياً خلال فترة التسعينات من القرن الماضي، لكن صناعة النفط فيها انهارت خلال العقد الماضي بسبب نقص الاستثمار والفساد وسوء الإدارة، إضافة إلى العقوبات التي فرضتها إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب؛ مما أدى إلى تقليص الإنتاج وخروج العديد من شركات النفط الأجنبية من فنزويلا.
وحتى هذا الحل برفع العقوبات الأميركية عن فنزويلا لن يكون له تأثير فوري على الأسعار، ويقول مسؤول سابق في شركة «شيفرون» إنه حتى لو سمح بايدن برفع العقوبات عن فنزويلا وسمح للشركات الأميركية بالعمل هناك؛ «فإن الأمر سيستغرق على الأقل عامين حتى تصل فنزويلا إلى إنتاج 1.5 مليون برميل يومياً».
* المسائل الأخلاقية
واتجاه إدارة بايدن إلى رفع العقوبات عن فنزويلا لن يمر مرور الكرام، فالقضية معقدة، وسيواجه انتقادات بأنه بمثابة تخلٍ عن المعارضة الفنزويلية التي دعمتها الولايات المتحدة لإجبار مادورو على التنحي، «وسيقدم لنظام مادورو الديكتاتوري فوائد مالية بملايين الدولارات دون ضمان أنه سيقدم على إصلاحات سياسية». ثم هناك قضية أخلاقية أخرى هي إعطاء خصوم الولايات المتحدة وأ‘دائها والأنظمة الديكتاتورية في العالم إشارة إلى أنه يمكن التنازل بسهولة عن القيم الديمقراطية مقابل الحصول على النفط. وفي الداخل؛ ستكون صورة بايدن أنه يتساهل مع أكثر الأنظمة ديكتاتورية من أجل الحصول على الطاقة... وكلها خيارات سيئة وتداعياتها أكثر سوءاً.