مفارقات فبركة النصر في أوكرانيا

صورة لدبابة روسية محترقة التقطت في خاركيف الأحد (أ.ب.أ)
صورة لدبابة روسية محترقة التقطت في خاركيف الأحد (أ.ب.أ)
TT

مفارقات فبركة النصر في أوكرانيا

صورة لدبابة روسية محترقة التقطت في خاركيف الأحد (أ.ب.أ)
صورة لدبابة روسية محترقة التقطت في خاركيف الأحد (أ.ب.أ)

يقول ميشال إلتشانينوف في كتابه «داخل عقل بوتين»، إن جدّ بوتين كان يطهو لفلاديمير لينين، ومن بعده جوزف ستالين، لكنّ هذا لا يؤشّر أبداً إلى رأيه السياسي. يتابع الكاتب ليقول إن بوتين نفسه لم يؤمن يوماً بالشيوعيّة، فهي نتاج ألماني، صُدّرت إلى روسيا، حتى إن المجتمعات في عقل بوتين لا يمكن لها أن تكون أبداً كما بشّرت بها الشيوعية، أي مجتمعات دون طبقات.
ويرى الكاتب أن روسيا مجتمع عسكري بامتياز، مع ثقافة عسكريّة متأصلة في جينات الشعب الروسيّ. فخلال الحرب الباردة مثلاً، كانت روسيا دولة عسكريّة، والكلّ يعمل من أجل الجيش. وكان للجيش دولة بدل أن يكون للدولة جيشاً، إذ إن 70 في المائة من ميزانيّة الاتحاد السوفياتي كانت مخصصة للمجهود العسكريّ.
لم يحارب بوتين في أي حرب، لكنه بالتأكيد خاض معارك وحروباً متعدّدة، تبدأ من الشيشان، وهي اليوم في أوكرانيا، وذلك مروراً بجورجيا وسوريا. لكن الأخطر على روسيا وبوتين هي هذه الحرب التي تخاض في محيط روسيا المباشر.
يرى بوتين أن العالم الغربي لم يحفظ لروسيا الجميل. فروسيا هي التي قاتلت النازيّة، وهي التي دفعت ملايين الشهداء، وذلك من حصار لينينغراد وحتى ستالينغراد، مروراً بمعارك متفرّقة ومُكلفة، أهمّها في خاركيف عام 1943، وهو الإقليم الذي استردته أوكرانيا من الجيش الروسي مؤخراً.

- فبركة النصر
إن أكثر ما يميّز خطاب «الضمّ» الأخير لبوتين هو ذلك الكره للغرب، خصوصاً الولايات المتحدة الأميركيّة. فقد وصفها بالاستعماريّة، وهو محقّ في ذلك. لكن الاستعمار الأميركي له صفات مختلفة عن الاستعمار الفرنسي أو الإنجليزي. غير أن الرئيس بوتين نسي أن يذكر الاستعمار الروسيّ، المتميّز عن الاستعمار الغربي بأنه استعمار داخلي للشعوب والأقليات، كما أنه استعمار دول المحيط المباشر لروسيا، خصوصاً في الحقبة السوفياتيّة.
وإذا كانت القوّة البحريّة هي الوسيلة الأهم للغرب لاستعمار العالم، فإن الاستعمار الروسي ارتكز على مثلثّ ذهبي يقوم على: الجندي، ورجل الأعمال، والكاهن. الجندي للقتال والإخضاع، ورجل الأعمال للربط الاقتصاديّ. أما الكاهن فهو لنشر العقيدة المسيحية الأرثوذكسية. يكره بوتين الغرب، لكنّ روسيا لا تنظر إلا إلى الغرب. هكذا يقول التاريخ، من إيفان الرهيب إلى بطرس الأكبر وكاترين الكبرى، وكذلك القيادات السوفياتيّة، خصوصاً ستالين. ألا ينظر اليوم الرئيس بوتين نفسه في حربه على أوكرانيا إلى الغرب؟
يسعى الرئيس بوتين عبر الضمّ إلى فرض لعبة جديدة، مع قواعد جديدة يكون هو فيها اللاعب الأقدر، خصوصاً أن اللعبة القديمة بعد تحرير الجيش الأوكراني لإقليم خاركيف لم تعطه إلا دور ردّة الفعل. فالاندفاعة وزمام المبادرة هما بيد زيلينسكي.

- ما مفارقات قرار الضمّ؟
• بدل أن يحتلّ الرئيس بوتين الأقاليم في أوكرانيا، فإن قرار الضمّ يغيّر المعادلات والأطر. فمع قرار الضمّ، أصبح الجيش الروسي مُحرّراً لأرض محتلّة من أوكرانيا.
• بعد قرار الضمّ، أصبحت الأقاليم الأربعة أرضاً روسيّة، وهذا أمر يضعها تحت حماية المظلة النوويّة الروسيّة. من هنا تهديد الرئيس بوتين باستخدام النوويّ، والتذكير بأن تهديده ليس خدعة هذه المرّة. فهل كان خدعة في المرّات السابقة؟

- الوضع الميداني
من يسمع خطاب الرئيس بوتين يستنتج أن البُعدين العسكري والسياسي في استراتيجيّة بوتين الكبرى غير متطابقين. فالحرب هي السياسة لكن بوسائل أخرى. إذاً، لا بد من التجانس بينهما في فترة، والتمايز في فترات أخرى (السياسة، الحرب). فهما يأكلان بعضهما من بعض، إذ كلما حقّقت الحرب إنجازاً، تتدخّل السياسة لقياس النجاح وتقدير الكلفة، ومن ثمّ المقارنة مع الأهداف السياسيّة العليا، وذلك لإيقاف الحرب والانتقال إلى البُعد الدبلوماسي لشرعنه النصر في حال تحققت هذه الأهداف، أو تعديل الاستراتيجيّة في حال الفشل العسكريّ.
في الخطاب يقول الرئيس بوتين إن الضم هو قرار نهائي لا رجوع عنه. وبهذا يكون قد أغلق الباب الدبلوماسي لأي حلّ سياسيّ. أليست السياسة هي فن الممكن، حسب المستشار الألماني الراحل أوتو فون بسمارك؟
وإذا أراد الرئيس بوتين كلّ شيء، فقد لا يصل في النهاية إلى تحقيق أي شيء.
حقّقت القوات الأوكرانيّة إنجازاً عسكريّاً تزامن مع خطاب الرئيس بوتين الأخير، عبر استرداد مدينة ليمان. وهي حسب قرار الضمّ تعد أرضاً روسيّة. إذاً، هناك هجوم على وحدة الأرض الروسيّة. فكيف سيكون الردّ؟
اقترح الزعيم الشيشاني رمضان قديروف على الرئيس بوتين استعمال النووي التكتيكي في أوكرانيا. وهذا أمر يناقض المبدأ العسكري الذي يقول بتناسب قيمة الهدف مع الوسائل المستعملة. فسقوط مدينة ليمان لا يُقارن مطلقاً بحجم تأثير وتداعيات استعمال النووي على المسرح الأوكراني والأوروبيّ، كما العالميّ.
إذاً، متى يستعمل الرئيس بوتين النوويّ؟
يقول بعض الخبراء إن قرار استعمال النووي هو من ضمن منظومة روسيّة لعمليّة اتخاذ القرار. وتقوم هذه المنظومة على قرار من بوتين، وموافقة من كلٍّ من وزير الدفاع ورئيس الأركان. أيضاً إن الاستعمال لا يحصل في فراغ. فالولايات المتحدة وجّهت رسائل تحذير سرّيّة مؤخراً إلى الرئيس بوتين. كما أن استعمال النووي في أوكرانيا له تداعيات سلبيّة جدّاً على الداخل الروسيّ. أليست أوكرانيا وروسيا حسب الرئيس بوتين شعباً واحداً منذ أكثر من ألف سنة؟ هذا عدا التأثير الإشعاعي السلبي على الأرض الروسيّة، كما على الجيش الروسي الذي يقاتل في أوكرانيا (وهو حتماً غير مُجهّز لحرب نوويّة).
فهل انهيار الجيش الروسي في الأقاليم الأربعة وفي شبه جزيرة القرم، بطريقة دراماتيكيّة ومُذلّة، قد يؤدّي إلى استعمال النوويّ؟
بعض الأسئلة حول سقوط مدينة ليمان:
• كيف تسقط المدينة وفيها 5000 جندي روسي؟ فهم يدافعون، وعلى المهاجم أن يؤمّن بالحدّ الأدنى 3 أضعاف عدد المُدافع، أي 15 ألف جندي. فهل قاتل الجيش الأوكراني بهذا العدد؟ لا أعتقد.
• أين الطيران الروسيّ، وأين المدفعيّة الروسية، التي قال عنها مرّة الزعيم جوزف ستالين، إنها إلهة المعركة؟
ماذا بعد؟
لا أستذكر كردٍّ على هذا السؤال سوى ما قاله مرة ونستون تشرشل عن روسيا: «لا أستطيع أن أنبئكم بأفعال روسيا. إنها لغز مغلف بالسر داخل أحجية. لكن قد يكون هناك مفتاح. هذا المفتاح هو مصالح روسيا القومية».


مقالات ذات صلة

أوكرانيا تؤمن واردات الغاز من اليونان لتغطية احتياجاتها

الاقتصاد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يلتقط صورة سيلفي أمام مدخل مدينة خيرسون خلال زيارته للمدينة (رويترز)

أوكرانيا تؤمن واردات الغاز من اليونان لتغطية احتياجاتها

قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، يوم الأحد، إن أوكرانيا ستحصل على واردات من الغاز الطبيعي من اليونان للمساعدة في تغطية احتياجاتها الشتوية.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا مدنيون أوكرانيون يتلقون تدريباً تكتيكياً وتخصصياً شاملاً في مركز للمقاومة الوطنية في موقع غير معلن عنه بمنطقة خاركيف شمال شرقي أوكرانيا (إ.ب.أ)

روسيا تعلن السيطرة على قريتين إضافيتين في جنوب أوكرانيا

أعلن الجيش الروسي اليوم (الأحد) سيطرته على قريتين في جنوب أوكرانيا، حيث تواصل قواته تقدّمها البطيء مستغلة تفوقها العددي على طول جبهة القتال الواسعة.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا جنود أوكرانيون يطلقون النار من مدفع «هاوتزر» باتجاه القوات الروسية بالقرب من بلدة بوكروفسك (رويترز)

من المدفعية الثقيلة إلى الدراجات النارية... كيف حولت روسيا استراتيجيتها في أوكرانيا؟

شهدت الحرب الروسية في أوكرانيا تحولاً لافتاً في الاستراتيجية العسكرية لموسكو، إذ انتقلت من الأساليب القتالية التقليدية إلى تكتيكات أكثر ابتكاراً وغير مألوفة.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وهو يُصدر أوامره لجنود خلال زيارته «اللواء الآلي المنفصل 65» في منطقة زابوريزهيا (أ.ف.ب)

زيلينسكي: نسعى لتبادل 1200 أسير مع روسيا

قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ورئيس مجلس الأمن القومي رستم أوميروف إن كييف تعمل على استئناف تبادل الأسرى مع روسيا، على أمل إطلاق سراح 1200 أوكراني.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا جندي أوكراني يسير بجوار مبانٍ متضررة وسط بوكروفسك في منطقة دونيتسك بأوكرانيا (أ.ب)

الجيش الأوكراني يشن هجوماً على منطقة دونيتسك

قالت وسائل إعلام روسية، في وقت متأخر من يوم أمس (السبت)، إن الجيش الأوكراني شن هجوماً واسع النطاق على منطقة دونيتسك خلال الساعات القليلة الماضية.

«الشرق الأوسط» (موسكو)

سيارة سباق تصدم حشداً من المتفرجين في أستراليا... وإصابة 9 أشخاص

موقع الحادث (وسائل إعلام أسترالية - «فيسبوك»)
موقع الحادث (وسائل إعلام أسترالية - «فيسبوك»)
TT

سيارة سباق تصدم حشداً من المتفرجين في أستراليا... وإصابة 9 أشخاص

موقع الحادث (وسائل إعلام أسترالية - «فيسبوك»)
موقع الحادث (وسائل إعلام أسترالية - «فيسبوك»)

أُصيب 9 أشخاص بجروح بعد أن صدمت سيارة حشداً من المتفرجين خلال سباق للسيارات في جنوب شرقي أستراليا، وفق ما أفادت الشرطة.

وكانت السيارة تشارك في سباق، مساء أمس (السبت)، في والتشا، على بُعد نحو 300 كيلومتر شمال سيدني، عندما فقد سائقها السيطرة عليها واخترق سياجاً وصدم حشداً خلفه، وفق ما أفادت «وكالة الصحافة الفرنسية».

وأفادت شرطة نيو ساوث ويلز بأن رجلاً يبلغ 54 عاماً في حالة حرجة، بينما أصيب 3 آخرون بإصابات بليغة. وأضافت الشرطة أن المصابين تتراوح أعمارهم بين 20 و75 عاماً.

وأظهرت لقطات مُصوَّرة، نشرتها وسائل إعلام محلية، السيارة وهي تخترق السياج بسرعة كبيرة وتدهس الحشد خلفه.

وأشارت الشرطة إلى أن السيارة تعرَّضت لـ«حادث صدم على الحلبة» قبل لحظات من اقتحامها السياج.


بوتين ونتنياهو يبحثان الوضع في الشرق الأوسط والملف النووي الإيراني

لقاء سابق بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (أرشيفية - رويترز)
لقاء سابق بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (أرشيفية - رويترز)
TT

بوتين ونتنياهو يبحثان الوضع في الشرق الأوسط والملف النووي الإيراني

لقاء سابق بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (أرشيفية - رويترز)
لقاء سابق بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (أرشيفية - رويترز)

نقل تلفزيون «آر.تي» الروسي عن الكرملين القول إن الرئيس فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ناقشا هاتفياً الوضع في الشرق الأوسط وقطاع غزة.

وقال التلفزيون إن الاتصال الهاتفي الذي جرى، مساء اليوم السبت، بين نتنياهو وبوتين تناول أيضاً الملف النووي الإيراني وسبل إرساء الاستقرار في سوريا.


أرمينيا تستعد للانتخابات البرلمانية وسط بحر من «التعقيدات القوقازية»

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان في قصر الإليزيه بباريس يوم 8 نوفمبر 2025 (أ.ف.ب)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان في قصر الإليزيه بباريس يوم 8 نوفمبر 2025 (أ.ف.ب)
TT

أرمينيا تستعد للانتخابات البرلمانية وسط بحر من «التعقيدات القوقازية»

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان في قصر الإليزيه بباريس يوم 8 نوفمبر 2025 (أ.ف.ب)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان في قصر الإليزيه بباريس يوم 8 نوفمبر 2025 (أ.ف.ب)

تستعد أرمينيا لانتخابات برلمانية حاسمة في يونيو (حزيران) 2026، يقول مراقبون إنها قد تحدد ما إذا كانت الدولة القوقازية الصغيرة ستواصل توجهها نحو الغرب، أم ستعود عن هذا المسار تحت ضغط موسكو وأرمن الشتات. ولا شك في أن رئيس الوزراء نيكول باشينيان سيحتاج إلى دعم أوروبا والولايات المتحدة، لإبقاء بوصلة سياسته الخارجية ثابتة.

وقد وصل الصحافي السابق إلى السلطة بعدما قاد «ثورة مخملية» عام 2018، وهي في الواقع سلسلة من الاحتجاجات الجماهيرية التي أدت إلى استقالة رئيس الوزراء سيرج سركسيان. وبعد ذلك، تولى باشينيان (50 عاماً) رئاسة الوزراء، واستمر في منصبه بعد فوز حزبه «العقد المدني» في الانتخابات البرلمانية عام 2021. وتعرض الرجل لهجوم وحملة انتقادات واسعة، واتُّهم بالخيانة بعد هزيمة أرمينيا العسكرية في مواجهة أذربيجان في حرب كاراباخ (أرتساخ) عام 2020، وحصلت احتجاجات شعبية ضده، وتفاقم الأمر عام 2023 عندما سقطت كاراباخ بعد هجوم خاطف للجيش الأذربيجاني، أدى إلى خروج الأرمن من هذا الجيب الجبلي الواقع ضمن أراضي أذربيجان.

عرض عسكري في باكو عاصمة أذربيجان يوم 8 نوفمبر 2025 احتفالاً بمرور 5 سنوات على الانتصار في حرب كاراباخ عام 2020 (أ.ب)

وبينما يسعى باشينيان لإرساء السلام والاستقرار مع الجارة أذربيجان، يمضي قدماً في تنفيذ خطة إنشاء «الجمهورية الرابعة»، وبناء «أرمينيا الحقيقية» -وفق شعاره الانتخابي- أي إعادة فتح حدود البلاد، وخفض الاعتماد على روسيا، وتوسيع علاقات يريفان الخارجية والاقتصادية، عبر التطبيع مع خصميها التقليديين: أذربيجان وتركيا.

وفي أغسطس (آب) 2025، حقق باشينيان أول نجاح كبير ضمن هذا المسار، عبر التوصل إلى اتفاق إطار مع أذربيجان، في اجتماع عُقد بالبيت الأبيض، برعاية الرئيس الأميركي دونالد ترمب.

غير أن باشينيان يواجه معارضة شرسة؛ خصوصاً من «الدياسبورا الأرمنية»، وكذلك من موسكو التي بقيت حاضنة لأرمينيا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، قبل تغير الحال مع تغير الحكم في يريفان.

وفي السياق، كتب الصحافي البريطاني المتخصص في شؤون منطقة القوقاز، توماس دي وال، أن «هاتين القوتين (الشتات الأرمني وموسكو) اتخذتا وجهاً واحداً الأسبوع الماضي»، عندما استضاف المعلِّق الأميركي اليميني تاكر كارلسون، المعروف بميوله المؤيدة للكرملين، ناريغ كارابتيان (ابن شقيق الملياردير صاموئيل كارابتيان المحتجز في أرمينيا بتهم عدة، في انتظار محاكمته) الذي هاجم باشينيان واتهمه بتقويض القيم التقليدية للمجتمع الأرمني، وبـ«نسيان التاريخ» وتسليم البلاد لتركيا.

يرى دي وال في هذا الموقف وغيره انعكاساً للنهج الإقليمي الأوسع للكرملين، و«تضخيماً للرسالة التي تستخدمها موسكو في مختلف أنحاء شرق أوروبا: الغرب (المنحطّ) يسعى لنشر الفوضى وتدمير القيم الدينية التقليدية». غير أن الكاتب يشير في الوقت نفسه إلى أن مكانة روسيا في أرمينيا «تدهورت بشدّة خلال السنوات الخمس الماضية»، وأنّ فئات واسعة من المجتمع الأرمني تبدّل مزاجها في السنتين الماضيتين، ولم تعد تَنشد إلا السلام الإقليمي وتحقيق الازدهار الداخلي، ولا سيما بعد سقوط كاراباخ في 2023.

ولعل هذا الشعور العام في البلاد قد يساعد باشينيان على مواجهة تحدٍّ أساسي رَمَته في وجهه أذربيجان: تعديل دستور أرمينيا لإزالة الإشارات غير المباشرة إلى تحقيق الوحدة مع كاراباخ (لا حدود بين الجيب وأرمينيا) قبل الإبرام النهائي لاتفاق الإطار، وتحويله إلى معاهدة بين البلدين. ويتطلّب هذا التعديل الدستوري إجراء استفتاء وطني منفصل عن الانتخابات البرلمانية.

في المقابل، يبقى التحدي الأبرز مع تركيا، الداعمة الأولى لأذربيجان، والتي لم تنجح بعد في إزالة رواسب التاريخ «الصعب» بينها وبين الأرمن. وبالتالي تتسم العلاقة بين أرمينيا وتركيا بالتعقيد، فلا علاقات دبلوماسية بين البلدين، والحدود مغلقة منذ عام 1993 تضامناً من تركيا مع حليفتها أذربيجان خلال حرب كاراباخ الأولى، علماً بأن أنقرة اعترفت باستقلال أرمينيا عام 1991. ومع ذلك، المفاوضات بين الجانبين قائمة لتطبيع العلاقات بشكل كامل. وهو أمر لن يحصل إلا بتسوية رواسب الإبادة الأرمنية التي لا تعترف تركيا بحصولها، وبتسوية وضع إقليم ناختشيفان الأذري المعزول ضمن الأراضي الأرمينية.

أهمية القوقاز

تنبع أهمية منطقة القوقاز من موقعها الاستراتيجي الذي يربط بين أوروبا وآسيا، ولدورها في أمن الطاقة الإقليمي، من خلال توفير ممرَّات لنقل النفط والغاز عبر بحر قزوين. وتشكل المنطقة مسرحاً للتنافس الجيوسياسي بين روسيا والولايات المتحدة وتركيا وإيران، فضلاً عن كونها منطقة تعجُّ بصراعات مزمنة، الأمر الذي يجعل استقرارها مسألة بالغة الأهمية للأمن الدولي.

تشمل المنطقة جغرافياً جورجيا وأرمينيا وأذربيجان، بالإضافة إلى أجزاء من روسيا وتركيا وإيران. ومعلوم أن أذربيجان منتجة للنفط والغاز الطبيعي، وفي أرضها مخزون احتياطي معتَبر من المادتين (النفط: 7 مليارات برميل، والغاز: 3 تريليونات متر مكعب).

تاريخياً، تعود الأهمية الاستراتيجية للقوقاز إلى عهد الإمبراطورية الروسية، التي رأت فيها حاجزاً في وجه النفوذ العثماني. وفي أوائل القرن التاسع عشر، غزت الإمبراطورية الروسية منطقة شمال القوقاز الواقعة جنوبها مباشرة، لإقامة منطقة عازلة واسعة بين موسكو والإمبراطورية العثمانية.

ولم يتراجع الاهتمام الروسي بالمنطقة في العهد الشيوعي، فكانت جورجيا وأذربيجان وأرمينيا جزءاً من الاتحاد السوفياتي.

على مدى السنوات، حاول الروس والأوروبيون الغربيون فرض هوية محدَّدة في منطقة شديدة التنوع والتعقيد. وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي، اندلعت حرب بين روسيا وجورجيا عام 2008، ولئن كان الصراع قصيراً فإنه خلّف عواقب كبيرة؛ خصوصاً في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، المنطقتين الانفصاليتين المواليتين لموسكو.

وكانت هذه ذروة للنزاع الذي بدأ بعد «ثورة الورود» المؤيدة للغرب في جورجيا عام 2003، وطموح جورجيا الساعية للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وهو ما رأت فيه روسيا تهديداً مباشراً لأمنها.

انتهت حرب 2008 بانتصار سريع لروسيا، فانسحبت القوات الجورجية من المنطقتين الانفصاليتين. وتم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، بوساطة من الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، في 12 أغسطس. عقب ذلك، اعترفت روسيا رسمياً باستقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، وهي خطوة رفضها المجتمع الدولي. ولا تزال روسيا تحتفظ بوجود عسكري في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، وبالتالي لا يزال الصراع «مجمّداً».

اشتباك بين الشرطة ومتظاهرين في يريفان صيف 2022 (أرشيفية- رويترز)

من سيفوز؟

بالعودة إلى أرمينيا، لا بد من وضع مجريات التطورات السياسية فيها في إطار الصورة الكبرى للصراع العالمي، إنما بأوراق اقتراع محلية. فهل ستكون نتيجة الانتخابات البرلمانية حاسمة؟

ثمة انتقادات واسعة لما يُزعَم أن السلطة تقوم به من توقيفات احترازية لمعارضيها، وتضييق على حرية الإعلام، وتخوف من منع بعض المرشحين من خوض الانتخابات. وثمة تخوف أوسع في هذه الحالة من فوز باشينيان، واقتناعه بأن الناخبين أطلقوا يده ليفعل ما يشاء.

وثمة اعتقاد مقابل بأن الرجل يجب أن يبقى في السلطة ليواصل «تحرير» أرمينيا من رواسب التاريخ الثقيل، ونقلها إلى العالم العصري.

وأخيراً ثمة من يتوقع ألا تسفر الانتخابات عن توجُّه حاسم، بحيث تبقى البلاد ساحة للتجاذب الإقليمي والدولي الذي سيعرقل كل محاولات تحقيق النموّ والتنمية.