السياسة تتسلل إلى حصون الأحاديث النبوية

TT

السياسة تتسلل إلى حصون الأحاديث النبوية

تتوق روح البليد إلى الشعور بأنه مخدوم وألا حاجة إلى التفتيش والبحث العلمي، وأن كل شيء على ما يرام ومُحكم، وأن ما عنده كله، دِقه وجلّه، صحيح لا شك فيه. ولهذا؛ لا يريد أن يطرح حول ذلك سؤالاً، وقد يكره من يطرح السؤال. وحده الحكيم هو من يدرك في قرارة نفسه، أن الحقيقة غالية وأن الوصول إلى الحقائق، الخاصة والعامة، يحتاج إلى كثير من التمزق والألم. قراءة هذا المقال تحتاج إلى شيء من هذا من قِبل القارئ؛ فالحديث هو عن تاريخنا وكيف تمت كتابته.
بدأ التدوين الحقيقي متأخراً جداً في منتصف القرن الهجري الثاني؛ فالعرب قبل الإسلام وخلال قرنه الأول وبعض الثاني لم يكونوا أهل كتب، بل أصحاب ثقافة شفهية. ينبغي ألا يكون هناك شك اليوم في أن العباسيين هم مَن أشرف على كتابة تاريخ المسلمين، فآثار أصابع بني العباس ظاهرة في كل مكان. وفي القرن الثالث الهجري خرجت كتب الحديث، مسند أحمد والكتب الستة ومستدرك الحاكم وكتب ابن خزيمة وابن حبان، وكتب اللغة وكتب التفسير. ما مدى ثقتنا بأن بني العباس لم يتدخلوا في التدوين فيزيدوا وينقصوا؟
كل تاريخنا وآدابنا دُوّنت تحت إشراف السلطة العباسية، وهذا لا يعني أبداً أن ندعو لحرق هذا التراث، بل لا بد أن يبقى؛ فهو تاريخنا، لكن لا بد من الشك النسبي في التفاصيل. تنظر في تاريخ ميلاد أصحاب الحديث فتجد أن أكبرهم سناً أحمد بن حنبل مات في سنة 241، والبخاري مات سنة 257، ومات مسلم سنة 261، ومات أبو داود سنة 275 ومات الترمذي سنة 279، أي أنهم كلهم ماتوا في القرن الثالث للهجرة، وهذه هي مرويات القرن الثالث، وهي تختلف عما كان معروفاً في القرن الأول، والأسماء الأخرى التي جاءت بعدهم أتت بأشياء لم يذكروها. هذه الكتب اجتهاد ومحل اجتهاد، ليست كلها صحيحة وليست كلها باطلة، لكنها قامت بدور التشكيل الثقافي الفكري للأمة.
أول ما خلص إليه بحثي في هذه القضية وأول كِذبة مكشوفة دسها العباسيون في الإسلام، حديث الرايات السود قبل أن يتولوا الحكم. فكلنا يعرف أنهم هم أصحاب الرايات السود والملابس السود. يقول الحديث «يُقتل عندَ كنزِكم ثلاثة، كلُّهم ابن خليفة، ثم لا يصير إلى واحدٍ منهم، ثم تطلع الرايات السود من قِبَلِ المشرقِ، فيقتلونَكم قتلاً لم يَقتله قومٌ - ثم ذكر شيئاً لا أحفَظُه فقال - فإذا رأيتموه فبايِعوه ولَو حبواً علَى الثلج فإنه خليفة اللَّهِ المهدي». وفي رواية «إذا رأيتم الراياتِ السود خرجت من قبَلِ خراسانَ فأْتوها ولَو حَبواً». هذا الحديث خرج إلى الدنيا مبشراً ومهدداً بين يدي ثورة بني العباس على بني أمية وانتزاع الحكم منهم، ولا شك عندي في أن دعاتَهم هم من كذبه، والإشارة إلى خراسان، لا تعني شيئاً سوى التبشير بثورة أبي مسلم الخراساني الذي نجح في زمن قياسي في الهيمنة على خراسان، في حين واصلت الجيوش العباسية زحفها نحو العراق، وبويع أبو العباس السفاح بالخلافة في الكوفة، وهُزم الخليفة الأموي مروان بن محمد في موقعة الزاب، ثم قُتل في أواخر سنة 132 للهجرة، وزالت الدولة الأموية. هذا الحديث المكذوب كان مجرد إعلان عن شعار ورمز سياسي وتبشير بأحداث سياسية جسيمة، ويبدو أنه لا يزال صالحاً للاستعمال، فالحزب الإرهابي «داعش» يزعمون أنهم هم أهل السواد المذكور ويدعون السذج للالتحاق بهم.
كم من الأحاديث المكذوبة ذات المضامين السياسة تم إدخالها في السنّة النبوية؟ هذا غير معلوم، إلا أن عباقرة الفكر الإسلامي كانوا يُلمحون إلى هذه القضية دون تعميم لكيلا يتهموا بمعاداة السنّة والإسلام. من ذلك، أننا وجدنا أبا المعالي الجويني قد أعلن عن رفضه حديث «الأئمة من قريش»، مع أنه مروي في كتاب البخاري وفي كتاب مسلم. ومع أن هذا النص قد أخذ به أهل السنّة لقرون، وجدنا الجويني قد كتب في كتابه «غياث الأمم في التياث الظُلَم»: «الذي يوضح الحقَّ في ذلك أنّا لا نجد من أنفسنا ثلَجَ الصدور واليقين المبتوت بصَدَر هذا من فَلْق رسول الله، كما لا نجد ذلك في سائر أخبار الآحاد، فإذن لا يقتضي هذا الحديث العلم باشتراط النسب في الإمامة». الفلق هو الفم، أي لم ينشرح صدري لقبول هذا الحديث وأنه خرج من فم رسول الله. البرهان على أن هذا الحديث موضوع مكذوب هو أن الحكم والمُلك - نظرياً وعملياً - لا يستقر إلا للأصلح، الأصلح للحكم وليس الأصلح بالمعنى الأخلاقي، أي أن من يحكم سيكون هو المُركّب من صراع الأضداد، ومن يستطيع أن يحتفظ بأفضل مزايا كل من سبقه. من الناحية العملية هذا ما حدث في كل التاريخ فلم يتول الإمامة العظمى أحد مِن أحفاد علي - رضي الله عنه -، ولا من أبنائه. هذا الرأي التنويري من أبي المعالي الجويني لم يجد صدى عند السلفيين وأهل الحديث، بل على النقيض من هذا وجدناهم يصححون أحاديث الأئمة في قريش ما بقي منهم اثنان، وأنه لا ينازعهم في ذلك أحد إلا أكبه الله في النار. مع أن هذا الحديث واضح الوضع وبيّنٌ أنه مدسوس مكذوب، فمعناه لا يوافق عليه العقل السليم. إنه يقرر أن لو تنازع على إمامة المسلمين العامة رجلان، أحدهما قد اجتمعت فيه كل مواصفات النقص والضعف والفشل لكنه من قريش، والآخر قد اجتمعت فيه كل صفات الكمال والقوة والنجاح، لكنه ليس بقرشي، لتعيّن على المسلمين مبايعة القرشي لمجرد أنه قرشي، حتى وإن أدى ذلك إلى ضعف الكيان السياسي وتهديد استقرار الدولة وفشلها في حماية أرضها ومواطنيها ومصالحها.
كل هذا غائب تماماً عن فهم السلفيين وكأنهم لم يتجاوزوا قط ذلك الحلف التاريخي بين الخليفة العباسي المتوكل وأحمد بن حنبل الذي كانت محنته مع المعتزلة سبباً جوهرياً في قربه الاضطراري من السياسة وتحالفه مع الحاكم في زمنه. فعل هذا من باب سد الذرائع، وإغلاق الباب أمام تكرار استئثار من يسميهم الحنابلة بأهل البدع، بالسلطان؟ منذ تلك اللحظة التاريخية التي انتصر فيها ابن حنبل على المعتزلة، أصبح هناك نوع من التخادم بين رجال السياسة والحنابلة الذين كانوا فيما مضى يتواصون بالبعد عن البلاط، فتغير الحال وألقت فتنة «خلق القرآن» بالحنابلة وأهل الحديث مباشرة في حضن السلطان العباسي. هو بلا شك يحتاج إليهم لأنهم أقرب منه إلى نبض الشارع، يخدمونه بالتأكيد على المبدأ الإسلامي في السمع والطاعة وترك الخروج عليه بالسيف والتحذير من مناهج الخوارج، وهو يغدق عليهم العطايا ويجري عليهم الأرزاق ويسلم لهم الوظائف الدينية والخطابية.
ختام المقال: سيظل الناس في حاجة إلى تلك المرويات التاريخية التي لا نعلم على وجه اليقين مدى صحتها ودقتها، لا ينبغي أن يكون ثمة خلاف، ولكن لا ينبغي أن يكون ثمة خلاف أيضاً على أن الأحاديث ذات المضامين السياسية يجب أن توضع في دائرة الشك وأن توضع بعدها علامة استفهام.
- باحث ومترجم سعودي


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.