السياسة تتسلل إلى حصون الأحاديث النبوية

TT

السياسة تتسلل إلى حصون الأحاديث النبوية

تتوق روح البليد إلى الشعور بأنه مخدوم وألا حاجة إلى التفتيش والبحث العلمي، وأن كل شيء على ما يرام ومُحكم، وأن ما عنده كله، دِقه وجلّه، صحيح لا شك فيه. ولهذا؛ لا يريد أن يطرح حول ذلك سؤالاً، وقد يكره من يطرح السؤال. وحده الحكيم هو من يدرك في قرارة نفسه، أن الحقيقة غالية وأن الوصول إلى الحقائق، الخاصة والعامة، يحتاج إلى كثير من التمزق والألم. قراءة هذا المقال تحتاج إلى شيء من هذا من قِبل القارئ؛ فالحديث هو عن تاريخنا وكيف تمت كتابته.
بدأ التدوين الحقيقي متأخراً جداً في منتصف القرن الهجري الثاني؛ فالعرب قبل الإسلام وخلال قرنه الأول وبعض الثاني لم يكونوا أهل كتب، بل أصحاب ثقافة شفهية. ينبغي ألا يكون هناك شك اليوم في أن العباسيين هم مَن أشرف على كتابة تاريخ المسلمين، فآثار أصابع بني العباس ظاهرة في كل مكان. وفي القرن الثالث الهجري خرجت كتب الحديث، مسند أحمد والكتب الستة ومستدرك الحاكم وكتب ابن خزيمة وابن حبان، وكتب اللغة وكتب التفسير. ما مدى ثقتنا بأن بني العباس لم يتدخلوا في التدوين فيزيدوا وينقصوا؟
كل تاريخنا وآدابنا دُوّنت تحت إشراف السلطة العباسية، وهذا لا يعني أبداً أن ندعو لحرق هذا التراث، بل لا بد أن يبقى؛ فهو تاريخنا، لكن لا بد من الشك النسبي في التفاصيل. تنظر في تاريخ ميلاد أصحاب الحديث فتجد أن أكبرهم سناً أحمد بن حنبل مات في سنة 241، والبخاري مات سنة 257، ومات مسلم سنة 261، ومات أبو داود سنة 275 ومات الترمذي سنة 279، أي أنهم كلهم ماتوا في القرن الثالث للهجرة، وهذه هي مرويات القرن الثالث، وهي تختلف عما كان معروفاً في القرن الأول، والأسماء الأخرى التي جاءت بعدهم أتت بأشياء لم يذكروها. هذه الكتب اجتهاد ومحل اجتهاد، ليست كلها صحيحة وليست كلها باطلة، لكنها قامت بدور التشكيل الثقافي الفكري للأمة.
أول ما خلص إليه بحثي في هذه القضية وأول كِذبة مكشوفة دسها العباسيون في الإسلام، حديث الرايات السود قبل أن يتولوا الحكم. فكلنا يعرف أنهم هم أصحاب الرايات السود والملابس السود. يقول الحديث «يُقتل عندَ كنزِكم ثلاثة، كلُّهم ابن خليفة، ثم لا يصير إلى واحدٍ منهم، ثم تطلع الرايات السود من قِبَلِ المشرقِ، فيقتلونَكم قتلاً لم يَقتله قومٌ - ثم ذكر شيئاً لا أحفَظُه فقال - فإذا رأيتموه فبايِعوه ولَو حبواً علَى الثلج فإنه خليفة اللَّهِ المهدي». وفي رواية «إذا رأيتم الراياتِ السود خرجت من قبَلِ خراسانَ فأْتوها ولَو حَبواً». هذا الحديث خرج إلى الدنيا مبشراً ومهدداً بين يدي ثورة بني العباس على بني أمية وانتزاع الحكم منهم، ولا شك عندي في أن دعاتَهم هم من كذبه، والإشارة إلى خراسان، لا تعني شيئاً سوى التبشير بثورة أبي مسلم الخراساني الذي نجح في زمن قياسي في الهيمنة على خراسان، في حين واصلت الجيوش العباسية زحفها نحو العراق، وبويع أبو العباس السفاح بالخلافة في الكوفة، وهُزم الخليفة الأموي مروان بن محمد في موقعة الزاب، ثم قُتل في أواخر سنة 132 للهجرة، وزالت الدولة الأموية. هذا الحديث المكذوب كان مجرد إعلان عن شعار ورمز سياسي وتبشير بأحداث سياسية جسيمة، ويبدو أنه لا يزال صالحاً للاستعمال، فالحزب الإرهابي «داعش» يزعمون أنهم هم أهل السواد المذكور ويدعون السذج للالتحاق بهم.
كم من الأحاديث المكذوبة ذات المضامين السياسة تم إدخالها في السنّة النبوية؟ هذا غير معلوم، إلا أن عباقرة الفكر الإسلامي كانوا يُلمحون إلى هذه القضية دون تعميم لكيلا يتهموا بمعاداة السنّة والإسلام. من ذلك، أننا وجدنا أبا المعالي الجويني قد أعلن عن رفضه حديث «الأئمة من قريش»، مع أنه مروي في كتاب البخاري وفي كتاب مسلم. ومع أن هذا النص قد أخذ به أهل السنّة لقرون، وجدنا الجويني قد كتب في كتابه «غياث الأمم في التياث الظُلَم»: «الذي يوضح الحقَّ في ذلك أنّا لا نجد من أنفسنا ثلَجَ الصدور واليقين المبتوت بصَدَر هذا من فَلْق رسول الله، كما لا نجد ذلك في سائر أخبار الآحاد، فإذن لا يقتضي هذا الحديث العلم باشتراط النسب في الإمامة». الفلق هو الفم، أي لم ينشرح صدري لقبول هذا الحديث وأنه خرج من فم رسول الله. البرهان على أن هذا الحديث موضوع مكذوب هو أن الحكم والمُلك - نظرياً وعملياً - لا يستقر إلا للأصلح، الأصلح للحكم وليس الأصلح بالمعنى الأخلاقي، أي أن من يحكم سيكون هو المُركّب من صراع الأضداد، ومن يستطيع أن يحتفظ بأفضل مزايا كل من سبقه. من الناحية العملية هذا ما حدث في كل التاريخ فلم يتول الإمامة العظمى أحد مِن أحفاد علي - رضي الله عنه -، ولا من أبنائه. هذا الرأي التنويري من أبي المعالي الجويني لم يجد صدى عند السلفيين وأهل الحديث، بل على النقيض من هذا وجدناهم يصححون أحاديث الأئمة في قريش ما بقي منهم اثنان، وأنه لا ينازعهم في ذلك أحد إلا أكبه الله في النار. مع أن هذا الحديث واضح الوضع وبيّنٌ أنه مدسوس مكذوب، فمعناه لا يوافق عليه العقل السليم. إنه يقرر أن لو تنازع على إمامة المسلمين العامة رجلان، أحدهما قد اجتمعت فيه كل مواصفات النقص والضعف والفشل لكنه من قريش، والآخر قد اجتمعت فيه كل صفات الكمال والقوة والنجاح، لكنه ليس بقرشي، لتعيّن على المسلمين مبايعة القرشي لمجرد أنه قرشي، حتى وإن أدى ذلك إلى ضعف الكيان السياسي وتهديد استقرار الدولة وفشلها في حماية أرضها ومواطنيها ومصالحها.
كل هذا غائب تماماً عن فهم السلفيين وكأنهم لم يتجاوزوا قط ذلك الحلف التاريخي بين الخليفة العباسي المتوكل وأحمد بن حنبل الذي كانت محنته مع المعتزلة سبباً جوهرياً في قربه الاضطراري من السياسة وتحالفه مع الحاكم في زمنه. فعل هذا من باب سد الذرائع، وإغلاق الباب أمام تكرار استئثار من يسميهم الحنابلة بأهل البدع، بالسلطان؟ منذ تلك اللحظة التاريخية التي انتصر فيها ابن حنبل على المعتزلة، أصبح هناك نوع من التخادم بين رجال السياسة والحنابلة الذين كانوا فيما مضى يتواصون بالبعد عن البلاط، فتغير الحال وألقت فتنة «خلق القرآن» بالحنابلة وأهل الحديث مباشرة في حضن السلطان العباسي. هو بلا شك يحتاج إليهم لأنهم أقرب منه إلى نبض الشارع، يخدمونه بالتأكيد على المبدأ الإسلامي في السمع والطاعة وترك الخروج عليه بالسيف والتحذير من مناهج الخوارج، وهو يغدق عليهم العطايا ويجري عليهم الأرزاق ويسلم لهم الوظائف الدينية والخطابية.
ختام المقال: سيظل الناس في حاجة إلى تلك المرويات التاريخية التي لا نعلم على وجه اليقين مدى صحتها ودقتها، لا ينبغي أن يكون ثمة خلاف، ولكن لا ينبغي أن يكون ثمة خلاف أيضاً على أن الأحاديث ذات المضامين السياسية يجب أن توضع في دائرة الشك وأن توضع بعدها علامة استفهام.
- باحث ومترجم سعودي


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


يوم هزّت «أيلول الأسود» شباك «أولمبياد ميونيخ»


أحد منفّذي عملية ميونيخ يطلّ من مقر البعثة الإسرائيلية في القرية الأولمبية (غيتي)
أحد منفّذي عملية ميونيخ يطلّ من مقر البعثة الإسرائيلية في القرية الأولمبية (غيتي)
TT

يوم هزّت «أيلول الأسود» شباك «أولمبياد ميونيخ»


أحد منفّذي عملية ميونيخ يطلّ من مقر البعثة الإسرائيلية في القرية الأولمبية (غيتي)
أحد منفّذي عملية ميونيخ يطلّ من مقر البعثة الإسرائيلية في القرية الأولمبية (غيتي)

تفتتح، غداً، في باريس دورة الألعاب الأولمبية لعام 2024، وسط إجراءات استثنائية صارمة استدعتها المخاوف الأمنية وذكريات المجزرة التي شهدتها القرية الأولمبية في دورة ميونيخ عام 1972، إثر محاولة لاحتجاز رهائن إسرائيليين نفذتها مجموعة «أيلول الأسود» الفلسطينية.

«الشرق الأوسط» تعيد تسليط الضوء على تلك «الكارثة الأولمبية» انطلاقاً من أسئلة طرحتها على العقلين المدبرين للعملية. ولدت فكرة الهجوم في لقاء عُقد في مقهى بروما وضم صلاح خلف «أبو إياد» عضو اللجنة المركزية لحركة «فتح» ومساعده فخري العمري ومحمد داود عودة «أبو داود» عضو «المجلس الثوري» لـ«فتح». جاءت الفكرة من العمري وتبناها «أبو إياد» وأوكل التنفيذ إلى «أبو داود».

وتكشف رواية «أبو داود» عن أنه نجح في استطلاع مقر البعثة الإسرائيلية، وأن «أبو إياد» تولى شخصياً إحضار الأسلحة برفقة «زوجته» اللبنانية المزيفة التي سُميت جولييت. وشاءت الصدفة أن يسهم رياضيون أميركيون عائدون من سهرة عامرة في مساعدة الفريق الفلسطيني المهاجم في تسلق السياج ومن دون معرفة غرض الفريق ومحتوى الحقائب التي يحملها.

وتؤكد الرواية أن ياسر عرفات كان على علم بالعملية وأن الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس (مسؤول المالية آنذاك) صرف للفريق المبلغ اللازم لتنفيذها. وانتهت العملية بمقتل 11 إسرائيلياً وخمسة من المهاجمين حين اختلط الرصاص الألماني بالرصاص الفلسطيني.