خسرت ليز تشيني المعركة من أجل منصبها القيادي في الحزب الجمهوري الأميركي ومقعدها في الكونغرس عن ولاية وايومينغ أمام منافستها هارييت هاغمان في الانتخابات التمهيدية التي جرت منتصف أغسطس (آب) المنصرم، مع أنها حققت قبل سنتين فوزاً كبيراً تعدّى 73 في المائة في الانتخابات في الولاية ذاتها. هزيمة ليز، ابنة نائب الرئيس السابق ديك تشيني، وبـ28 في المائة فقط من أصوات الناخبين الجمهوريين كانت نتيجة مباشرة للمعركة التي خاضتها ضد الرئيس السابق دونالد ترمب لدفع التحقيقات في لجنة الكونغرس حول دوره في أحداث الاعتداء على مبنى الكابيتول في 6 يناير (كانون الثاني) 2021. وكان المعنى المباشر لابتعاد الناخبين عنها لصالح منافستها اليمينية التي حظيت بتأييد ترمب ودعمه قدرة ترمب على تحريك الناخبين، وتأثيره الواضح على أنصاره... وبالتالي الحزب الجمهوري ككل.
عادةً ما يكون لسلطة المال قدرة في التأثير على نتائج الانتخابات في الولايات المتحدة، إلا أن الوضع ما كان كذلك في تصويت الناخبين الجمهوريين في ولاية وايومينغ، حيث أسقطوا نائبتهم في الكونغرس ليز تشيني وتبنّوا غريمتها اليمينية المتشددة هارييت هاغمان، وذلك رغم أن ميزانية تشيني للمعركة بلغت 15 مليون دولار من التبرعات لحملتها مقابل 4.1 مليون دولار فقط جمعتها منافستها هاغمان.
ما عاشته تشيني (56 سنة) كان الخيار الصعب بين الولاء الحزبي أو المبدئي وبين النفعية السياسية من جانب آخر. وهذا ما عبرت عنه بقولها إنها لا تستطيع مواكبة «كذب الرئيس ترمب بشأن تزوير انتخابات 2020»، لأن الفوز بالانتخابات كان يتطلب منها مساندة جهود ترمب لتفكيك النظام الديمقراطي الأميركي. وشددت بثقة: «هذا مسار لا يمكنني أن أسلكه، ولن أسلكه ولا يوجد مقعد في مجلس النواب ولا يوجد مكتب في هذه الأرض، أكثر أهمية من المبادئ التي أقسمنا على حمايتها، وقد فهمت مسبقاً العواقب السياسية المحتملة للالتزام بواجبي».
- بين المبادئ والمنصب
نعم، فضّلت تشيني المبادئ على المنصب. إذ كان من الممكن أن تصمت وتقبل مزاعم تزوير الانتخابات وتحتفظ بمقعدها في الكونغرس، غير أنها ارتضت بالتكلفة الباهظة، وبذا خسرت كل قدرتها وتأثيرها في سياسات الحزب الجمهوري وجلبت على نفسها عداء معظم قادة الحزب وغدت «منبوذة» داخله.
أكثر من هذا، عبّرت ليز تشيني صراحةً عن أنها تنوي مواصلة المواجهة مع «الترمبيين»، وتعهدت بمنع ترمب من الاقتراب من البيت الأبيض من جديد، ولم تستبعد خوضها سباق الترشح للرئاسة في عام 2024... ما يعني في اللغة السياسية الأميركية أنها تنوي بالفعل السير في هذا المسار. وهنا قارنت نفسها بالرئيس الأميركي الشهير أبراهام لنكولن، فقالت: «لنكولن خسر سباق الكونغرس قبل أن يفوز في أهم انتخابات على الإطلاق ويصبح رئيساً للولايات المتحدة».
ولا يعني الترشح في سباق الرئاسة الفوز المؤكد، لكنه في بعض الأحيان يكون أفضل مسار لتوصيل رسالة، أو تسوية مع المتنافسين، أو تفتيت أصوات الناخبين. وفي حالة ليز تشيني فإنها ستحقق كل هذه الأهداف، فإذا ترشحت لسباق انتخابات الرئاسة في 2024 فهي ستواصل الحديث حول التهديد الحالي للديمقراطية الأميركية، مما سيجعل هذه القضية تتصدر الأحاديث وعناوين الأخبار، كما أن تفتيت أصوات الناخبين سيعني حرمان شخص آخر من ترشيح الحزب الجمهوري للرئاسة.
البعض عدّ النهج الذي تتبعه تشيني «مهمة انتحارية» و«مطاردة لطواحين الهواء» كحال «دون كيشوت» في رواية الأديب الإسباني ميغيل دي سرفانتس الشهيرة، فلا فرصة تقريباً لدى تشيني في الفوز بانتخابات الرئاسة. ولذا اقترح آخرون خوضها السباق الرئاسي كمرشح مستقل، لكن هذا سيعني سحبها الأصوات من المرشح الديمقراطي، وخدمة ترمب إذا ما قرّر بالفعل الترشح، وهذا هدف لا تريده تشيني.
بناءً عليه، يستبعد مرشحون جمهوريون محتملون ترشّح تشيني في 2024 حتى لو كان هدفها الوحيد هو منع ترمب من العودة للبيت الأبيض، ويعتقدون أنها ستكون عاطلة عن العمل. بعكسهم، يعتقد فريقها أنها ستكون الخصم الأقوى لترمب وأن ثمة جمهوريين يساندونها مثل حاكم ولاية ماريلاند لاري هوغان، والنائب آدم كينزينغر، وحاكم ولاية نيوجيرزي السابق كريس كريستي. ثم إنها تتمتع بقاعدة واسعة قادرة على جمع التبرعات وستحصل على دعم والدها ودعم الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش. لكنّ المحللين يرون أن هذه العوامل لن يكون لها التأثير المطلوب في إثارة الحماس لتشيني في ولايات مؤثرة في تحديد المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية.
من ناحية ثانية، لم يكن العداء لترمب مشكلة تشيني الوحيدة، فقد تفاقمت الخلافات بينها وبين كبار ساسة الحزب الجمهوري مثل السيناتور تيد كروز (من ولاية تكساس) المساند بقوة لترمب. إذ وصفها كروز بأنها أصبحت «ديمقراطية ليبرالية»، وحوّلت عملها في «لجنة تحقيقات 6 يناير» (مهاجمة مقر الكونغرس) إلى «سيرك»، «وما عاد ممكناً تمييز تصريحاتها عن تصريحات (الديمقراطية) نانسي بيلوسي».
- تشيني نائبة لبايدن؟
أما أكثر الأفكار إثارة وتشويشاً فقد طرحها بعض الأقلام الصحافية، ومؤداها أن يستقطب الرئيس جو بايدن (الديمقراطي) ليز تشيني (الجمهورية حتى الآن) ويرشحها معه كنائبة للرئيس عوضاً عن نائبته الحالية كامالا هاريس في الانتخابات الرئاسية لعام 2024.
هذه الفكرة قوبلت بتعجب واستغراب كبيرين، لكنها استندت إلى حقيقة أن ليز تشيني تقود معركة منفردة ضد الجناح المتطرف في الحزب الجمهوري، وتعهدت علناً بمنع ترمب من الوصول إلى البيت الأبيض. وعليه، لماذا لا تتكاتف مع بايدن لتحقيق هذا الهدف، وبخاصة أن بايدن بدأ بالفعل حملته لوصف مناصري ترمب بـ«الفاشيين»، وأنه يقود معركة من أجل الحفاظ على وحدة الأمة ودعم الديمقراطية؟
ولكن، هناك تبعات سياسية سلبية كبيرة لهذا المقترح. فاستبعاد كامالا هاريس سيُغضب كثرة من الناخبين السود، كما سيُغضب تيار «التقدميين» في الحزب الديمقراطي. وأيضاً ثمة معارضة واسعة من الديمقراطيين لاختيار تشيني التي تعارض (كبقية الجمهوريين) حق الإجهاض والتضييق على اقتناء الأسلحة، كما أن نهجها -عموماً- يتعارض مع الأفكار الليبرالية التي يتبناها الديمقراطيون، والشيء الوحيد المشترك بين الجانبين هو حماية الديمقراطية من تهديدات ترمب.
- سيرة ذاتية
ولكن، مَن هي ليز تشيني على الصعيد الشخصي؟
إليزابيث «ليز» لين تشيني هي محامية وسياسية أميركية شغلت منصب النائب الوحيد عن ولاية وايومينغ في مجلس النواب الأميركي منذ عام 2017، كما ترأست مؤتمر الحزب الجمهوري بمجلس النواب، وهو ثالث أعلى منصب في قيادة الحزب. وهي الابنة الكبرى لنائب الرئيس الأميركي السابق ديك تشيني. وُلدت تشيني عام 28 يوليو (تموز) 1966 في مدينة ماديسون عاصمة ولاية ويسكونسن، حيث كان والداها يدرسان في جامعة ويسكونسن بالمدينة ذاتها. ثم انتقلت العائلة إلى ولاية وايومينغ الريفية، حينما كان والدها يقود حملة انتخابية للترشح للكونغرس. وبعد انتخابه نائباً في الكونغرس عام 1984 ظلت ليز واختها ماري تنتقلان بين العاصمة واشنطن ووايومينغ.
تعليمياً، حصلت على درجة البكالوريوس في الآداب من كلية كولورادو (وهي جامعة خاصة راقية) بولاية كولورادو المتاخمة لوايومينغ. ثم إجازة في القانون من كلية الحقوق بجامعة شيكاغو عام 1996. وهي متزوجه من المحامي فيليب بيري، الشريك في شركة «لاثام آند وتيكينز» للمحاماة، وقد تزوجا عام 1993 ولديهما خمسة أطفال.
قبل دراستها الحقوق، عملت تشيني في وزارة الخارجية الأميركية لمدة خمس سنوات وفي «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» بين عامي 1989 و1993. وبعدها شاركت في تأسيس شركة استشارية مع ريتشارد أرميتاج. وبعد تخرجها في كلية الحقوق مارست المحاماة في مكتب «وايت آند كيس» كمحامٍ متخصص في القانون الدولي. وفي عام 2002 عُيّنت نائباً لمساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى في مهمة لتعزيز الاستثمار في المنطقة. ويقال إن الوظيفة أُنشئت خصيصاً لها بتوصية من وزير الخارجية (آنذاك) كولن باول. وفي ذلك الوقت قالت صحيفة «الصنداي تايمز» إن تعيين تشيني كان الدليل الأكثر إثارة على أن أميركا جادة في إصلاح الشرق الأوسط لأن تشيني اهتمت ببرامج محو الأمية والتعليم والإصلاح السياسي وتعزيز الديمقراطية.
- تشيني والشرق الأوسط
ولكن، في عام 2003 تركت تشيني منصبها في وزارة الخارجية للعمل في حملة إعادة انتخاب الرئيس بوش. ثم عادت مجدداً إلى الخارجية عام 2005 في منصب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى مع ديفيد ولش، وأشرفت على إطلاق صندوق المستقبل بقيمة 100 مليون دولار لتوفير رأس المال للشركات الصغيرة و«مؤسسة المستقبل» بقيمة 55 مليون دولار لتعزيز حرية الصحافة والديمقراطية، وترأست مجموعة السياسات والعمليات الإيرانية السورية. وإبان شغلها منصب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى ومنسّق مبادرات الشرق الأوسط الكبير وشمال أفريقيا، كان لتشيني، حقاً، توجّهات واضحة في الترويج لتغيير النظام في إيران خلال رئاستها مجموعة سياسات وعمليات إيران وسوريا مع السياسي إليوت أبرامز.
أيضاً، أيّدت تشيني حرب بوش في العراق، وهي الحرب التي روّج لها والدها ديك تشيني، كما أيّدت تشيني استخدام تقنيات التعذيب في غوانتانامو ومنها الإيهام بالغرق. ودافعت عن ترشيح جينا هاسبل لشغل منصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) عام 2018... التي وُجهت إليها اتهامات بالتعذيب وأساليب الاستجواب المعزّزة، ووصفتها تشيني في ذلك الوقت بأنها أنقذت الأرواح وأن أساليبها منعت الهجمات ضد الولايات المتحدة وأدت إلى الحصول على معلومات أُوصلت إلى أسامة بن لادن. كذلك عارضت الانسحاب من أفغانستان، وهي اليوم تعارض العودة إلى إحياء الاتفاق النووي الإيراني، وتوافق على المقترحات الإسرائيلية بوضع خيار عسكري على المائدة في التفاوض مع إيران.
في عام 2009 شاركت تشيني في إطلاق منظمة غير ربحية باسم «إبقاء أميركا آمنة Keep America Safe»، ثم عام 2013 أعلنت ترشحها لأحد مقعدي ولاية وايومينغ في مجلس الشيوخ متحديةً شاغل المقعد السيناتور الجمهوري مايك إنزي، لكنها انسحبت إثر تعرض حملتها لانتقادات بسبب دفاعها عن مواقف السياسة الخارجية المتشددة. وبعدها، عام 2016 ترشحت عن مقعد الولاية الوحيد في مجلس النواب وحصدت أكثر من 60 في المائة من الأصوات. وأُعيد انتخابها في عام 2018 ثم 2020 قبل خسارتها الأخيرة في 16 أغسطس 2022 أمام هاغمان المدعومة من ترمب. ولقد عُدّت هزيمتها وحصولها على 28 في المائة فقط من الأصوات، ثاني أسوأ هزيمة في مجلس النواب خلال السنوات الـ60 الماضية بعد هزيمة الجمهوري من ساوث كارولاينا بوب أنجليس عام 2010.
- من «المحافظين الجدد»
آيديولوجياً، يُنظَر إلى ليز تشيني على أنها واحدة من قادة تيار «المحافظين الجدد» في الحزب الجمهوري. وهي معروفة بتركيزها على الأمن القومي ودعم الجيش الأميركي وتبنيها وجهات نظر متشددة في السياسة الخارجية. وهي رغم انتقادها السياسة الخارجية لإدارة ترمب، صوّتت لدعم أجندة ترمب إبّان سنوات حكمه الأربع. لكنها انقلبت لاحقاً على ترمب، وأيّدت محاكمة عزله لدوره في اقتحام مبنى الكابيتول. كما أنها عارضت رواية ترمب عن تزوير الانتخابات، وواجهت التكتل المؤيد لترمب في المؤتمر الجمهوري في مجلس النواب الذي قرّر عزلها من قيادة الحزب. وإنه لمن المثير أنه في أثناء عمل ليز تشيني في مجلس النواب، من عام 2017 إلى عام 2021، نراها صوتت لصالح الأجندة التشريعية لترمب بنسبة تجاوزت 93 في المائة، وكانت من أبرز الداعمين لحملته. غير أن الهجوم على الكابيتول غيّر كل شيء...
وبعده قالت تشيني إنه «ليس هناك خيانة أكبر من رئيس الولايات المتحدة لمنصبه ولأدائه اليمني الدستورية من هذا الحدث». ومن ثم، اتهمت ترمب بأنه أشعل النار ولم يفعل شيئاً لإطفائها، وانضم إليها تسعة جمهوريين آخرين في التصويت لعزل ترمب... الأمر الذي أثار غضب أنصار ترمب ضدها.
ليز تشيني... تواجه تساؤلات عن احتمال ترشحها للرئاسة الأميركي
رغم تمردّها «الانتحاري» على الحزب الجمهوري
ليز تشيني... تواجه تساؤلات عن احتمال ترشحها للرئاسة الأميركي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة