الإرهاق الذهني... حالة نفسية بيولوجية تضعف الأداء المعرفي والجسدي

يعوق إنتاجية المرء في المهام العقلية والبدنية داخل بيئات مختلفة

الإرهاق الذهني... حالة نفسية بيولوجية تضعف الأداء المعرفي والجسدي
TT

الإرهاق الذهني... حالة نفسية بيولوجية تضعف الأداء المعرفي والجسدي

الإرهاق الذهني... حالة نفسية بيولوجية تضعف الأداء المعرفي والجسدي

هل تنتابك حالة من الإرهاق الذهني ولا تستطيع حينها مواصلة التفكير؟ هل تشعر بأنك أصبحت مستنزفاً عقلياً، ولا رغبة لديك في مزيد من القراءة خلال مراحل التحصيل العلمي أو الاستمرار في مراجعة البيانات أثناء عملك الوظيفي؟ إذا كان الأمر كذلك؛ فمن المحتمل أنك تعاني من «التعب العقلي».

- «تعب عقلي»
«التعب العقلي (Mental Fatigue)» يمكن أن يحدث؛ ولأي إنسان، حينما يرهق عقله بنشاط ذهني معرفي لوقت طويل، مما يعوق قدرة الاستمرار على الإنتاجية في إنجاز المهام؛ سواء أكانت مهام ذهنية، كمواصلة القراءة أثناء التحصيل العلمي أو مراجعة يومية لبيانات وظيفية مرهقة، أم مهام بدنية تتطلب تفكيراً ذهنياً، كالتنافس في الألعاب الرياضية أو تكرار قيادة السيارة. كما قد يتكرر حدوث ذلك التعب الذهني بشكل يومي لدى البعض، وتصبح لديه حالة مزمنة.
وفي الغالب، يمكن للشخص القيام بمعظم المهام في بداية اليوم، ويمكن اعتباره بصحة جيدة تماماً. ولكن بمرور الساعات؛ لا تكون الطاقة العقلية لديه كافية للاستمرار، وتؤثر بالتالي على قدرة العمل والمشاركة في الأنشطة الاجتماعية.
وتشمل الأعراض الأكثر شيوعاً كلاً من: التثبيط العقلي، وقلة الدافع، والتهيج، وزيادة الأكل أو فقدان الشهية، والأرق، وتعطيل النوم الليلي.
وتشير الأبحاث إلى أن الإرهاق العقلي يؤثر على الأشخاص من جميع الخلفيات والتركيبات السكانية والاجتماعية. وتفيد بأن نحو ربع الأشخاص في عموم الناس، يعانون من علامات التعب الذهني، وأن النساء أكثر عرضة من الرجال لذلك النوع من الإرهاق. وهذا الإرهاق العقلي يمكن أن يتأثر به الشخص على المديين القصير أو الطويل؛ سواء في قدرات التحمل النفسي أو الذهني، والبدني، كما يمكن أن يؤدي إلى أنواع من المشكلات الصحية.
ويوضح أطباء «مايو كلينك»: «يشعر كل شخص تقريباً بالإِنهاك وضغط العمل من وقت لآخر. ويمكن تحديد السبب وراء أمثلة الإرهاق المؤقت هذه، ومن المحتمل وجود علاج لها. من جانب آخر؛ قد يستمر الإنهاك الشديد لفترة أطول، ويكون معمقاً أكثر، ولا يمكن التخفيف منه عند الراحة. وهو حالة من الوهن المستمر تقريباً، وينشأ بمرور الوقت، فيُقلل من طاقتك وحماسك وتركيزك. ويؤثر الإرهاق عند هذا المستوى أيضاً على سلامتك الانفعالية والنفسية».
ومن أجل التغلب على التعب الذهني بشكل فعال حين حدوثه، ومنع تكرار الوصول إليه، من المهم أن يكون المرء قادراً على التعرف على بدايات أعراض هذا التعب، وفهم ما يمكن أن يسبب هذا الإرهاق له، ومعرفة ما الملائم له للتخفيف منه أو منع حدوثه.

- حلول طبية
ولا تزال مشكلة الإرهاق الذهني تبحث عن حلول لها من قبل الأوساط الطبية. وضمن مراجعة منهجية؛ قدم باحثون في جامعة «فريجي» في بروكسل ببلجيكا دراستهم بعنوان: «كيفية معالجة التعب العقلي: مراجعة منهجية للتدابير المضادة المحتملة والآليات الكامنة وراءها». ووفق ما جرى نشره ضمن عدد سبتمبر (أيلول) الحالي من «مجلة الطب الرياضي (Sports Medicine)»، أفاد الباحثون البلجيكيون: «التعب العقلي حالة نفسية بيولوجية تضعف الأداء المعرفي والجسدي في بيئات مختلفة. وفي الآونة الأخيرة، سعى العديد من الدراسات إلى معرفة طرق مواجهة هذه الآثار السلبية للتعب العقلي والتغلب عليها (MF Countermeasures). ويتم تصنيف هذه الإجراءات المضادة وفق توقيت تطبيقها واستخدامها (قبل أو أثناء أو بعد المعاناة من حالة التعب العقلي)، ووفق نوع التدخل (سلوكي أو فسيولوجي أو نفسي)».
وقال الباحثون في نتائجهم: «تكشف المراجعة المنهجية الحالية أن ثمة مجموعة واسعة من الإجراءات المضادة لمواجهة التعب العقلي بنجاح على المستوى الشخصي، والمستوى العصبي الفسيولوجي و/ أو السلوكي. ومن بين هذه العوامل، يعدّ الكافيين، والروائح العطرية، والموسيقى، والمساعدة من الغير (كالأصدقاء وأفراد الأسرة أو زملاء العمل)، هي الأكثر إثباتاً لفائدتها».
وصنف الباحثون كلاً من الكافيين والروائح العطرية بوصفها معالجات فسيولوجية، والاستماع إلى الموسيقى والمساعدة من الغير بوصفها معالجة سلوكية. وقالوا إن الآلية الأكثر افتراضاً التي تعمل من خلالها هذه الإجراءات المضادة هي «نظام الدوبامين (Dopaminergic System)». ومعلوم أن المسارات العصبية في «نظام الدوبامين» داخل الدماغ، تلعب دوراً رئيسياً في العديد من الوظائف العقلية الذهنية، كالوظائف التنفيذية والتعلم والتأثر الإيجابي بالمكافأة وبالعوامل المحفزة.
وضمن مراجعة علمية أخرى لباحثين من جامعة موناش في ملبورن بأستراليا، حول الآليات العصبية الكامنة وراء التعب العقلي، تم نشرها ضمن عدد يوليو (تموز) الماضي من مجلة «مراجعات في علوم الأعصاب (Reviews in the Neurosciences)»، قال الباحثون: «رغم تأثيره السلبي المعترف به على نطاق واسع، فإن الآليات العصبية التي تبرز هذه الظاهرة لا تزال غير مفهومة تماماً. والإرهاق العقلي عَرَض شائع في بعض الحالات المرضية المزمنة، ويؤثر على نوعية حياة المرضى. كما يمكن أن يؤدي استمرار أداء المهام المعرفية الذهنية، إلى حدوث حالة التعب العقلي، التي تتسم بالإحساس الذاتي بالتعب الذهني وانخفاض الأداء المعرفي. وبالإضافة إلى المخاطر المهنية المرتبطة بالإرهاق العقلي، يمكن أن يؤثر أيضاً على الأداء البدني، مما يقلل من القدرة على التحمل والتوازن والمهارات الفنية الخاصة بالرياضة».

- العقل والجسد
ومثالاً؛ عرض فريق مشترك لباحثين من جامعة «سارلاند» في ألمانيا، وجامعة «إيدج هيل» وجامعة «تشيتشستر» وجامعة «نيوكاسل» في بريطانيا، دراستهم بعنوان: «فهم وجود التعب العقلي لدى اللاعبات النخبة لكرة القدم النسائية». و«اللاعبون النخبة» يُقصد بهم المحترفون في الغالب. ووفق ما تم نشره ضمن عدد سبتمبر (أيلول) الحالي من مجلة «البحوث الفصلية لممارسة التمارين والرياضة (Research Quarterly for Exercise and Sport)»، قال الباحثون: «أظهرت الأبحاث السابقة في كرة القدم، تأثير الإرهاق العقلي على انخفاض الإنجاز المرتبط بالأداء البدني والفني والتكتيكي واتخاذ القرار». وقالوا في ملخص نتائج دراستهم: «تقدم هذه النتائج توصيات عملية لتقليل الإرهاق العقلي في إعدادات كرة القدم النخبوية، مثل النظر في توقيت اجتماعات الفريق ومحتواها ومدتها، وتزويد اللاعبين بوقت فراغ (راحة) حيثما أمكن ذلك، والنظر في طريقة إرشادات التدريب أثناء المباريات».
وكان باحثون من جامعة «غوتنبيرغ» في السويد قد نشروا ضمن عدد مارس (آذار) الماضي من مجلة «الرابطة الطبية السويدية (Lakartidningen)»، دراستهم بعنوان: «التعب العقلي... التفسيرات الممكنة وطرق التشخيص والعلاجات الممكنة».
وقال الباحثون: «التعب العقلي أو إرهاق الدماغ عَرَض مرضي، ومسبب للعجز، مع انخفاض الطاقة العقلية. وفيه يمكن للشخص القيام بمعظم الأشياء (في الأحوال العادية) ويمكن اعتباره بصحة جيدة تماماً، ولكن بمرور الوقت لا تكون الطاقة العقلية لديه كافية للاستمرار، ويؤثر بالتالي على قدرة العمل والمشاركة في الأنشطة الاجتماعية. وعلى سبيل المثال؛ بعد محادثة مع الغير، يمكن أن تُستنزف طاقة الشخص تماماً، ويكون بعدها وقت التعافي طويلاً بشكل غير متناسب».
ووصف الباحثون ظاهرة «التعب العقلي»، وقدموا نموذجاً توضيحياً لكيفية ظهور الحالة، وأشاروا إلى طرق التشخيص والعلاجات الممكنة، التي هي حالياً في مرحلة البحث، ولكن يمكن تنفيذها في مجال الرعاية الصحية في المستقبل المنظور.

- أعراض مختلفة للإرهاق العقلي
> «الإرهاق العقلي» يطال في الأساس قدرات المهارات المعرفية، مثل التفكير والذاكرة واتخاذ القرار وحل المشكلات. ولكن العلامات الشائعة الأخرى تشمل ما يلي:
- الاكتئاب أو القلق أو التشاؤم.
- صعوبة الاهتمام بأي شيء.
- الغضب أو الانفعال.
- صعوبة معالجة وإدارة العواطف.
- انخفاض في الدافع أو الإنتاجية.
- الشعور بالخمول أو التباطؤ في الحركات أو الاستجابات.
كما يمكن أن تظهر أعراض بدنية ليس لها سبب واضح. مثل:
- آلام الرأس والجسم.
- معدة مضطربة.
- مشكلات النوم.
- تغيرات في الشهية والوزن.
- شعور عام بالتوعك.
وبعض من هذه الأعراض قد يحدث أيضاً في حالات الإرهاق العاطفي والإرهاق البدني كذلك. ولكن على المرء أن يلاحظ أن ثمة مسببات مختلفة لكل منها.

- ما الذي يتسبب بالضبط بالإرهاق الذهني؟
> في صورته الشائعة، قد يحدث الإرهاق العقلي إذا كان المرء يؤدي بانتظام أنواعاً من المهام التي تستهلك كثيراً من الطاقة للتفكير المعرفي و/ أو التفاعل العاطفي، خصوصاً إذا نسي المرء تحديد وقت للاسترخاء والرعاية الذاتية. ولكن مسببات الإرهاق الذهني تختلف لدى الطالب عنها لدى التاجر، كما تختلف لدى المُضارب في الأسهم عنها لدى الطبيب، وكذلك بين اللاعب الرياضي في الألعاب الجماعية وآخر في تلك الفردية.
وفي العموم، هناك قواسم مشتركة في تلك المسببات؛ منها:
- تطلب تكرار اتخاذ القرار: إذ إن تكرار اتخاذ القرار أمر مرهق ذهنياً ويستنفد القدرات الوظيفية التنفيذية لدى الشخص؛ سواء أكان ذلك في مرحلة تحضير الطالب للاختبارات، أم اللاعب خلال مراحل التدريب وأثناء أداء المباريات المهمة، أم خلال المضاربة في الأسهم، أم بوصفه أحد متطلبات العمل الوظيفي.
- فوضى التنسيق الذهني: عند تراكم أنواع من المشوشات الذهنية، خلال قيام المرء بأعمال ذهنية متعددة دون تنسيق، يحدث ارتفاع إنتاج هرمون التوتر (هرمون الكورتيزول)، وتتدني قدرات التركيز والإبداع، وتنخفض عتبة المعاناة من الألم البدني والنفسي (سهولة حدوث ذلك). ويعطي مارك هيرست، مؤلف كتاب «قليل من المعرفة (Bit Literacy)»، مثالاً بقوله: «الاستهلاك المفرط للأشياء الرقمية؛ مثل إشعارات الوسائط الاجتماعية، وموجز الأخبار، والألعاب، والملفات الموجودة على جهاز الكومبيوتر... كلها تتنافس على جذب انتباهنا، مما يصنع فوضى رقمية في أذهاننا».
- الإفراط في الالتزام: التزام المرء بمهام أكثر مما لديه من قدرة أو وقت لإنهائها، ليس فقط سبباً لاستنزاف قدراته العقلية، ولكن يؤدي كذلك إلى نتائج عكسية أيضاً في نتائج أداء المهام تلك. ناهيك بتسببه في الإنهاك الوظيفي. ويقول أطباء «مايو كلينك»: «الإنهاك الوظيفي نوع خاص من التوتر المرتبط بالعمل، هو حالة من الإرهاق البدني أو النفسي. ويتضمن أيضاً إحساساً بتراجع الإنتاجية، بما يؤثر على صحتك البدنية والنفسية».
- التحاشي والتسويف: وبخلاف الاعتقاد الشائع؛ فإن التسويف يضغط على العقل أكثر من ذلك الضغط الذي يتسبب فيه إنجاز العمل دون تأخير. وتوضح الدكتورة أليس بويز، مؤلفة كتاب «مجموعة أدوات العقل السليم ومجموعة أدوات القلق (The Healthy Mind Toolkit and The Anxiety Toolkit)، قائلة: «عندما نماطل أو نتجنب، فإن قلقنا بشأن كل ما نتجنبه يميل إلى الازدياد»، وهو ما بالتالي يستنزف الطاقة العقلية إلى حد النفاد.
- اضطرابات النوم: عدم أخذ قسط كاف من النوم (أي نحو 8 ساعات) في الليل بالذات، أحد الأسباب الشائعة للإرهاق الذهني. وفترة النوم في الليل هي الوقت الأساسي للدماغ كي يُقوي الروابط بين الخلايا العصبية فيه، ويدمج الذكريات، وينظف نفسه من السموم ونواتج عمليات تفاعلات الأيض الكيميائية، ويصلح ويعيد ترتيب نفسه.
- ضعف التغذية الدماغية: يحتاج الدماغ إلى شرب الماء، والتغذية الجيدة بالخضراوات والفواكه والأسماك الدهنية والروبيان والمكسرات وزيت الزيتون والبقول وحبوب القمح الكاملة غير المقشرة (Whole – Grain)، مع خفض تناول الشحوم الحيوانية واللحوم الحمراء والسكريات. وثمة منتجات معينة ذات تأثيرات إيجابية «عامة» في تنشيط عمل الدماغ؛ مثل القهوة، وثمار الأفاكادو، وأنواع الفواكه التوتية (Berries)، ودهون «أوميغا3» في الأسماك، والشوكولا الداكنة، ولبن الزبادي، وزيت الزيتون البكر، والكركم، ومكسرات الجوز والفستق، والطحالب البحرية.

- استشارية في «الباطنية»


مقالات ذات صلة

وزارة الصحة: كل مستشفيات غزة ستتوقف عن العمل خلال 48 ساعة

المشرق العربي فلسطيني يحمل طفلة صغيرة مصابة داخل مستشفى كمال عدوان في قطاع غزة (أ.ف.ب)

وزارة الصحة: كل مستشفيات غزة ستتوقف عن العمل خلال 48 ساعة

حذرت وزارة الصحة في قطاع غزة من توقف جميع مستشفيات القطاع عن العمل أو تقليص خدماتها خلال 48 ساعة بسبب نقص الوقود، إذ ترفض إسرائيل دخوله للقطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
صحتك سمنة البطن مع وزن طبيعي للجسم... مشكلة صحية تستدعي الاهتمام

سمنة البطن مع وزن طبيعي للجسم... مشكلة صحية تستدعي الاهتمام

تعتمد الأوساط الطبية بالعموم في تحديد «مقدار وزن الجسم» على عدد الكيلوغرامات بوصفه «رقماً»

د. حسن محمد صندقجي (الرياض)
صحتك الحياة الخاملة ترفع ضغط الدم لدى الأطفال

الحياة الخاملة ترفع ضغط الدم لدى الأطفال

كشفت أحدث دراسة تناولت العوامل المؤثرة على ضغط الدم، عن الخطورة الكبيرة للحياة الخاملة الخالية من النشاط على الصحة بشكل عام، وعلى الضغط بشكل خاص.

د. هاني رمزي عوض (القاهرة)
صحتك الصداع النصفي: خيارات العلاج المستهدف

الصداع النصفي: خيارات العلاج المستهدف

الصداع النصفي ليس مجرد صداع عادي يعاني منه الجميع في وقتٍ ما، بل هو اضطراب عصبي معقد يمكن أن يُشعر المريض وكأن العالم قد توقف.

د. عبد الحفيظ يحيى خوجة (جدة)
صحتك استشارات طبية: المغنيسيوم والنوم... وعدم تحمّل دواء خفض الكوليسترول

استشارات طبية: المغنيسيوم والنوم... وعدم تحمّل دواء خفض الكوليسترول

ما تأثير تناول المغنيسيوم الغذائي بالعموم، أو أقراص مكملات المغنيسيوم، على النوم؟

د. حسن محمد صندقجي

الحياة الخاملة ترفع ضغط الدم لدى الأطفال

الحياة الخاملة ترفع ضغط الدم لدى الأطفال
TT

الحياة الخاملة ترفع ضغط الدم لدى الأطفال

الحياة الخاملة ترفع ضغط الدم لدى الأطفال

كشفت أحدث دراسة تناولت العوامل المؤثرة على ضغط الدم، عن الخطورة الكبيرة للحياة الخاملة الخالية من النشاط على الصحة بشكل عام، وعلى الضغط بشكل خاص. وأوضحت أن قضاء وقت من دون حركة كافية لفترة أكثر من 6 ساعات يومياً، يمكن أن يسبب زيادة في ضغط الدم الانقباضي (الخارج من البطين الأيسر- systolic blood pressure) بمقدار 4 ملِّيمترات زئبقية، وذلك في الفترة العمرية من الطفولة، وحتى بداية مرحلة البلوغ.

الخمول ومؤشرات الأمراض

أجريت الدراسة بالتعاون بين جامعتي «بريستول» و«إكستر» في المملكة المتحدة، وجامعة «شرق فنلندا»، ونُشرت في مطلع شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الحالي، في مجلة «الهزال وضمور العضلات» (Journal of Cachexia, Sarcopenia and Muscle). وأكدت أن النشاط والخمول يلعبان دوراً رئيسياً في تنظيم الضغط؛ حيث يساهم الخمول وعدم الحركة في رفع ضغط الدم، بينما يساهم النشاط البدني الخفيف بشكل يومي في خفض الضغط. وفي الماضي وقبل التقدم التكنولوجي المعاصر، ولأن الأطفال كانوا في نشاط مستمر، كان ارتفاع ضغط الدم من الأمور شديدة الندرة في الأطفال.

قام الباحثون بمتابعة 2513 طفلاً من دراسة خاصة بجامعة «بريستول» على أطفال التسعينات من القرن الماضي، وتمت المتابعة من سن 11 إلى 24 عاماً. وركَّز الباحثون على الأطفال الذين قضوا تقريباً 6 ساعات يومياً من دون أي نشاط يذكر، ثم 6 ساعات يومياً في ممارسة تمارين خفيفة (LPA)، وأخيراً نحو 55 دقيقة يومياً في نشاط بدني يتدرج من متوسط إلى قوي (MVPA)، وبعد ذلك في بداية مرحلة المراهقة والشباب قضوا 9 ساعات يومياً في حالة خمول، ثم 3 ساعات يومياً في التمارين الخفيفة، ونحو 50 دقيقة يومياً في تمارين متوسطة إلى قوية.

تم أخذ عينات دم بعد فترة صيام لعدة ساعات للأطفال بشكل متكرر، لتثبيت العوامل التي يمكن أن تلعب دوراً مهماً في ارتفاع ضغط الدم، مثل قياس مستويات الكوليسترول منخفض الكثافة (LDL)، والكوليسترول عالي الكثافة (HDL)، والدهون الثلاثية (TG)، وأيضاً تم قياس منحنى الغلوكوز لكل 3 شهور (hba1c) في الدم، وكذلك هرمون الإنسولين، ودلالات الالتهاب مثل البروتين التفاعلي سي (C-reactive protein)، وقاموا بقياس معدل ضربات القلب.

بعيداً عن التحاليل الطبية، قام الباحثون برصد بقية العوامل المؤثرة في ارتفاع ضغط الدم، وتم سؤال الأطفال عن التاريخ العائلي للإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، بجانب الحالة الاقتصادية والاجتماعية للعائلة، وحالة الطفل النفسية، وتعامل العائلة معه، وأيضاً نوعية الغذاء، وهل تحتوي على دهون أم لا، واستخدام ملح الطعام باعتدال. وبالنسبة للمراهقين والبالغين تم سؤالهم عن حالة التدخين، بالإضافة إلى قياس كتلة الدهون في الجسم، وكذلك الكتلة العضلية.

ضغط الدم في الأطفال

قال العلماء إن الدراسة الحالية تُعد أكبر وأطول دراسة متابعة في العالم، لرصد العلاقة بين حجم النشاط البدني ومستوى ضغط الدم في الأطفال والمراهقين، وصولاً لمرحلة البلوغ. وحتى تكون الدراسة معبرة عن التغيرات الطبيعية التي تحدث للضغط في المراحل العمرية المختلفة، قام الباحثون بقياس ضغط الدم بعد فترات الخمول والتمرينات الخفيفة ومتوسطة الشدة، في عمر الحادية عشرة (نهاية فترة الطفولة) وفي عمر الخامسة عشر (فترة المراهقة والتغيرات الهرمونية) وأخيراً في عمر الرابعة والعشرين (مرحلة البلوغ).

وجد الباحثون أن متوسط ضغط الدم في مرحلة الطفولة كان 106/ 56 ملِّيمتراً زئبقياً، وبعد ذلك ارتفع إلى 117/ 67 ملِّيمتراً زئبقياً في مرحلة الشباب. ويرجع ذلك جزئياً -في الأغلب- إلى النمو الفسيولوجي الطبيعي المرتبط بالسن، وأيضاً ارتبطت الزيادة المستمرة في وقت الخمول من سن 11 إلى 24 عاماً بزيادة ضغط الدم الانقباضي في المتوسط بمقدار 4 ملِّيمترات زئبقية.

لاحظ الباحثون أن المشاركة في التمرينات الخفيفة بانتظام من الطفولة وحتى البلوغ، ساهمت في خفض مستوى الضغط الانقباضي بمقدار 3 ملِّيمترات زئبقية تقريباً. وفي المقابل تبين أن ممارسة التمرينات الشاقة والقوية لم تساهم في خفض الضغط بعكس المتوقع، وذلك لأن زيادة حجم الكتلة العضلية ارتبط بزيادة الدم المتدفق إليها، مما سبب زيادة طفيفة في ضغط الدم، ما يوضح الأهمية الكبرى للنشاط البدني الخفيف بانتظام؛ لأنه يُعد بمثابة وقاية من خطر ارتفاع ضغط الدم.

النشاط البدني الخفيف المنتظم يقي من خطره

أكد الباحثون أن أي فترة صغيرة في ممارسة النشاط الحركي تنعكس بالإيجاب على الطفل. وعلى سبيل المثال عندما استُبدلت بعشر دقائق فقط من كل ساعة تم قضاؤها في حالة خمول، فترة من التمرينات الخفيفة (LPA) في جميع مراحل النمو من الطفولة إلى مرحلة الشباب، انخفض ضغط الدم الانقباضي بمقدار 3 ملِّيمترات زئبقية، وضغط الدم الانبساطي بمقدار ملِّيمترين زئبقيين، وهو الأمر الذي يُعد نوعاً من الحماية من خطر الإصابة بالنوبات القلبية والسكتة الدماغية؛ لأن خفض ضغط الدم الانقباضي بمقدار 5 ملِّيمترات زئبقية فقط يقلل بنسبة 10 في المائة من الذبحة الصدرية وجلطة المخ.

من المعروف أن منظمة الصحة العالمية (WHO) أصدرت تقارير تفيد باحتمالية حدوث 500 مليون حالة مرضية جديدة من الأمراض غير المعدية المرتبطة بالخمول البدني بحلول عام 2030، ونصف عدد هذه الحالات بسبب ارتفاع ضغط الدم. ونصحت المنظمة بضرورة ممارسة النشاط البدني الخفيف لمدة 3 ساعات على الأقل يومياً، للحماية من الإصابة بضغط الدم، وأيضاً لأن هذه التمرينات بمثابة علاج للضغط العالي للمرضى المصابين بالفعل. وأكدت أن النشاط البدني لا يشترط وقتاً أو مكاناً معيناً، مثل المشي لمسافات طويلة، وركوب الدراجات، وحتى القيام بالأعمال المنزلية البسيطة.

* استشاري طب الأطفال