هل يستطيع الناس المختلفون أن يتعايشوا في المدينة الواحدة؟

لندن من المدُن التي أضحت مسرحاً حيّاً للتلاقي والتفاعل والتقابس
لندن من المدُن التي أضحت مسرحاً حيّاً للتلاقي والتفاعل والتقابس
TT

هل يستطيع الناس المختلفون أن يتعايشوا في المدينة الواحدة؟

لندن من المدُن التي أضحت مسرحاً حيّاً للتلاقي والتفاعل والتقابس
لندن من المدُن التي أضحت مسرحاً حيّاً للتلاقي والتفاعل والتقابس

تحمل مُدنُنا الإنسانيّة المعاصرة سماتِ التراث الذي نشأت عليه، وبه انطبعت انطباعاً عميقاً، وفيه اختبرت ضروباً شتّى من النموّ والتطوّر. ولكنّنا نراها اليوم تُشرّع أبوابَها لاستضافة أفرادٍ يأتون إليها من كلّ حدب وصوب، إما للسياحة، وإما للتجارة، وإما للتقابس الفكريّ، وإما للإقامة الموقّتة أو الدائمة. لا شكّ في أنّ لكلّ مدينة من مُدننا طابعها التراثي المقترن بهويّتها الثقافيّة الخاصّة. لذلك يلاحظ المرءُ الإرباك الذي ينتاب الضيوف حين يَطؤون أرض الغربة، سواء في الشرق أو في الغرب. فالشرقي الذي يَقصد مُدنَ الغرب يندهش اندهاشاً عظيماً حين يعاين مقدار الاختلافات التي تجعله يفكّر تفكيراً مليّاً في إمكانات تكيّفه وتأقلمه وانسلاكه الهني في المجتمع المستضيف.
شهيرة المفاتحات التي أسرَّ بها إليها الأديب المصري رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873) في كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز». ومعروفة الملاحظات اللغويّة التي دوّنها العلّامة اللبناني إبراهيم اليازجي (1847-1906) في مجلّة «الضياء» المصريّة، حين أدرك عجز اللغة العربيّة عن وصف أدقّ عناصر الآلات التقنيّة الغربيّة، والإتيان باصطلاحات ومرادفات عربيّة ملائمة تفي بأغراض الإبانة الصحيحة. ولا يخفى على أحد التأثير الطيّب الذي خلّفه أدبُ الرحلة في ذاكرة الشعوب. غالباً ما أستمتع بالصوَر المبدعة التي رسمها الشاعر الفرنسي لامارتين (1790-1869) في وصف رحلته اللبنانيّة (1832)، أو الأديب اللبناني ميخائيل نعيمة (1889-1888) في الإفصاح عن أحاسيس وجدانه أثناء ترحالاته الروسيّة والفرنسيّة والأميركيّة. لا عجب، من ثمّ، أن يتكرّر السؤال، على سبيل المثال، عن كيفيّة استضافة البلدان الإسلاميّة الأجانبَ الذين يأتون إليها. من المصادفات الباعثة على التفكير أن يسأل المرء اليوم: كيف ستستقبل الدوحة الجموع الغفيرة التي ستنزل في ضيافتها لمناسبة العُرس الكروي العالميّ، حاملة إليها أعرافها وتقاليدها وممارساتها التي تخالف تراث المدينة، وأحكامها المتعلّقة بشرب الكحول، والاحتفالات الليليّة الصاخبة، والمخالطات التغازلية العفويّة.
لا بدّ، والحال هذه، من الاستفسار عن إمكانات المعايشة التمايزيّة في نطاق المدينة الإنسانيّة المعاصرة الواحدة، سواء في الشرق أو في الغرب. إذا كان لكلّ مدينة من مُدننا هويّتها الثقافيّة، وخصوصيّتها التراثيّة، ومُستنداتها الأخلاقيّة، وخلفيّاتها الروحيّة، وأحكامها التشريعيّة، وأعرافها المسلكيّة، فهل يستطيع الناسُ الضيوفُ الذين لا يؤيّدون هذه التصوّرات أن يحيوا فيها حياة سلميّة هادئة؟ إذا اقتصرت الإقامة على بضعة أيّام، أمكننا أن نغضّ الطرف، وأن نستمتع بالغربة الثقافيّة استمتاعاً استثنائيّاً. أما إذا تحوّلت الزيارة إلى سكنٍ دائمٍ، فهل نستطيع أن نتعايش والأقوام الذين يختلفون عنا في مَعشرهم وملبسهم ومأكلهم ومسلكهم ومعبدهم ومفهومهم الثقافي الأرحب؟
من السؤال الثقافي المربك هذا تنبثق استفساراتٌ أخرى: هل يحقّ للضيف أن يبدّل في هويّة المضيف الثقافيّة؟ هل يجوز أن يظلّ الضيفُ المقيمُ على حال التريّث والامتناع عن التأقلم حتّى تتبدّل الأمورُ؟ ما حدود التغيير الذي يمكن أن يتصوّره المرءُ حين يفترض أنّ الغربة تُفضي حتماً إلى التفاعل الثقافي البنّاء، فتُبدّل في الضيف وفي المضيف على حدٍّ سواء؟ متى يصبح الضيف من أهل البيت؟ وما معايير الاندماج الثقافي الحقّ؟
من شروط الاستضافة اللائقة أن يراعي المضيفُ اقتناعات الضيف، وأن يحرص الضيفُ على صون الانتظام الاجتماعي العامّ في مدينة الاستضافة. ينطوي التراث العربي على أعراف ضيافة الأربعين يوماً يَنعم الضيفُ في أثنائها بكرم المضيف، وخصوصاً بحرّيّة الامتناع عن تسويغ إقامته، إذ إنّ المضيف لا يسمح لنفسه بأن يستنطقه أو يستجوبه. غير أنّ هذا كلّه يقتصر على الأخلاقيّات العامّة، في حين أنّ المطلوب النظرُ في إمكانات المعايشة السلميّة بين الناس المختلفين في المدينة الإنسانيّة الواحدة. لذلك لا بدّ لنا من استجلاء بعض الحقائق الأنثروبولوجيّة الأساسيّة التي ينبغي أن نعتصم بها في سياق المباحثات الرامية إلى معالجة هذه المسألة.
لا ريب في أنّ المبدأ الأوّل التنوّعُ الأصلي في الأرض، إذ إنّ الناس يُعبّرون عن ذاتيّاتهم في صوَرٍ شتّى وأشكالٍ مختلفة. ومن ثمّ، لا يجوز أن نسعى إلى إنشاء مدُنٍ محايدة تراثيّاً وثقافيّاً تنشأ على صورة الحياد التقني الانصهاري الذي تفرضه علينا العولمة الجارفة. ولكن من الضروري أن نفكّر في الفصل بين التراث الثقافي الذي يبني الهويّة الجماعيّة، والشريعة الإنسانيّة الكونيّة الواحدة في تنوّع تعابيرها القانونيّة وغزارة منطوياتها التطبيقيّة. يقتضي مثل هذا الفصل أن نقبل الطابع التراثي الثقافي الذي يَهب كلَّ مدينة سحرَها الخاصّ، وأن نَنعم بالغربة الثقافيّة التي تستتبعها الأعرافُ العامّة السائدة في المدينة التي تستضيفنا، ولكن من غير أن نغفل المقتضيات الحقوقيّة الأساسيّة التي تفترضها كرامة الكائن الإنسانيّ.
لذلك لا يجوز لنا أن نطالب بنزع الطابع الثقافي هذا، أو بتغييره، أو بتعديله. لا يجوز لنا أن نبني الهياكل البوذيّة في أنحاء باريس كلّها، وحجّتنا في ذلك أنّ البوذيّة مذهبٌ روحي سلمي يُغني الوجدان الإنسانيّ. ولا يحقّ لنا أن نملأ الأحياء السكنيّة الباريسيّة بالمطاعم الصينيّة، وذريعتنا أنّ النظام الغذائي الصيني من أفضل الأنظمة وأخفّها وأسلمها. ماذا ينفع الحضارة الكونيّة أن نستزرع النموذجَ الصيني في التربة الفرنسيّة، أو أن نستنبت المثالَ الفرنسي في الأرض الصينيّة؟ هل تحتاج الإنسانيّة إلى صين أخرى أو فرنسا أخرى؟
يربكني أشدّ الإرباك أمرُ الأُوروبّيين الذين يرومون أن يفرضوا نظام المدينة الغربيّة في الأرض العربيّة، وأمرُ العرب المهاجرين الذي يسعَون إلى إعادة بناء المدينة الأوروبّيّة المضيفة على هيئة مُدُنهم العربيّة التي تركوها لأسبابٍ شتّى.
استناداً إلى مبدأ التنوّع الذي يتطلّب الفصل بين التراث الخاصّ والشريعة الكونيّة، يجب أن نصوغ مبدأً ثانياً يقضي أن نميّز في التراث الثقافي الخاصّ بين ضربَين من الحقائق الإنسانيّة: الحقائق التي يؤيّدها جميعُ الناس من غير اعتراض أو تحفّظ، والحقائق التي يستحسنها أهلُ المدينة دون سواهم. لا بدّ هنا من التفطّن إلى المخاطر التي ينطوي عليها مثل هذا التمييز. ربَّ سائلٍ يسأل: كيف نستطيع أن نجزّئ الهويّة الثقافيّة الواحدة؟ جوابي أنّ التراثات الثقافيّة الخاصّة تنفرد ببعض الأحكام الاعتباريّة الاستنسابيّة المقترنة باختبارات الجماعة التاريخيّة، ولو أنّها تشتمل على تصوّراتٍ تحمل سمات الحقائق الأنثروبولوجيّة العامّة. بتعبير أوضح، يجب إلقاء البال إلى بعض الأحكام التشريعيّة الخاصّة التي تعتمدها المجتمعات وتفرضها على أبنائها دون سواهم، ومنها ما يتعلّق بالملبس والمأكل وآداب المعاشرة، وما إلى ذلك من شؤون الحياة اليوميّة.
لا أعتقد أنّ مثل هذه التباينات تُعطّل المعايشة السلميّة بين أصحاب الأرض المضيفين والضيوف المستقرّين حتّى زمن اندماجهم التفاعلي الناجز. لا بدّ، في هذا السياق، من التخلّق بأخلاق الحكمة الإنسانيّة السمحة، والاعتراف بأنّ زي المرأة الغربيّة المتحرّرة المتخفّفة من معاطفها لن يُبطل انتظامَ الحياة الاجتماعيّة في المدينة العربيّة، وأنّ الخِمار الأرجواني الزاهي أو الوردي المشرق الذي تتخمّر به المرأة العربيّة المتصوّنة، وبه تزيّن ضفائرَ شعرها، لن يصيب الوعي الفردي الغربي بمكروهٍ حضاري جسيم. غير أنّ العري الجسدي الفاضح في الشارع الغربي والشارع العربي يستقبحه الإنسانُ في جميع التراثات الثقافيّة. كذلك البرقع الأسود الذي يُغشّي جسد المرأة من قمّة الرأس إلى أخمص القدم لا يخيف الناس فحسب؛ بل يحجب هويّة المرأة التي ينبغي أن تتلألأ على محيّاها، ويعطّل العلاقة الإنسانيّة المبنيّة على استجلاء أمارات الوجه وتأوّل انفعالات النفس المتجلّية في حركات الجسد كلّه.
ذكرتُ المثال التفصيلي هذا لأبيّن الغنى التفسيري الذي يحتمله مبدأ الفصل بين الحقائق الخاصّة والحقائق العامّة في التراث الثقافي الواحد. بيد أنّ المسألة تنطوي على خلاصات أوسع وأشمل، إذ إنّ المدُن المعاصرة لا يجوز لها أن تفرض على الضيوف المستقرّين أحكاماً تشريعيّة لا يُقرّها العقل الإنساني السليم. وكذلك الضيوف المستقرّون لا يحقّ لهم أن يسلكوا مسلكاً يخالف هذه الأحكام، ولا يحسن بهم أن يغيّروا في أعراف المجتمع المضيف التي لا تناقض المبادئ الإنسانيّة الأساسيّة. لذلك يجب الاعتصام بمبدأٍ ثالثٍ يصون المعايشة الاختلافيّة التمايزيّة في المدينة الإنسانيّة الواحدة، ويقضي بأن يعتمد أهلُ المسكونة جمعاء شرعة حقوق الإنسان الكونيّة التي أقرّتها أغلبيّة الدساتير الوطنيّة والشرائع المحلّيّة. أعتقد أنّ هذه الشرعة تحتوي على عصارة النضج الإنساني الكوني الذي يفرض على الضيف والمضيف أن يسلكا سلوكاً يراعي كرامة كلّ إنسان وحرّيّته، ويصون أصول العدل والإنصاف، حتّى ينعم الجميع بالحدّ الإنساني الممكن من التضامن الأخوي والتسالم البنّاء.
إذا راعى الناس المبادئ الثلاثة هذه، أمكنهم أن يتعايشوا في المدُن التي أضحت مسرحاً حيّاً للتلاقي والتفاعل والتقابس. وحدها مثل الحكمة الإنسانيّة الراقية هذه تمنعنا من تقسيم العالم فسطاطَين أو دارَين يتحاربان حتّى الإفناء. ليست الأرض في حال احترابٍ حضاريٍّ؛ بل في طور النضج التحاوري الذي يجعل الناس يعترفون بذاتيّاتهم الثقافيّة، اعترافاً يتيح لكلّ جماعة أن تحيا وتنمو في المدينة الإنسانيّة المعاصرة المبنيّة على شرعة حقوق الإنسان الكونيّة، والمزيّنة بالتراثات الروحيّة الجليلة التي لا تناقض مبادئ هذه الشرعة.
- مفكر لبناني


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».