هل يستطيع الناس المختلفون أن يتعايشوا في المدينة الواحدة؟

لندن من المدُن التي أضحت مسرحاً حيّاً للتلاقي والتفاعل والتقابس
لندن من المدُن التي أضحت مسرحاً حيّاً للتلاقي والتفاعل والتقابس
TT

هل يستطيع الناس المختلفون أن يتعايشوا في المدينة الواحدة؟

لندن من المدُن التي أضحت مسرحاً حيّاً للتلاقي والتفاعل والتقابس
لندن من المدُن التي أضحت مسرحاً حيّاً للتلاقي والتفاعل والتقابس

تحمل مُدنُنا الإنسانيّة المعاصرة سماتِ التراث الذي نشأت عليه، وبه انطبعت انطباعاً عميقاً، وفيه اختبرت ضروباً شتّى من النموّ والتطوّر. ولكنّنا نراها اليوم تُشرّع أبوابَها لاستضافة أفرادٍ يأتون إليها من كلّ حدب وصوب، إما للسياحة، وإما للتجارة، وإما للتقابس الفكريّ، وإما للإقامة الموقّتة أو الدائمة. لا شكّ في أنّ لكلّ مدينة من مُدننا طابعها التراثي المقترن بهويّتها الثقافيّة الخاصّة. لذلك يلاحظ المرءُ الإرباك الذي ينتاب الضيوف حين يَطؤون أرض الغربة، سواء في الشرق أو في الغرب. فالشرقي الذي يَقصد مُدنَ الغرب يندهش اندهاشاً عظيماً حين يعاين مقدار الاختلافات التي تجعله يفكّر تفكيراً مليّاً في إمكانات تكيّفه وتأقلمه وانسلاكه الهني في المجتمع المستضيف.
شهيرة المفاتحات التي أسرَّ بها إليها الأديب المصري رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873) في كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز». ومعروفة الملاحظات اللغويّة التي دوّنها العلّامة اللبناني إبراهيم اليازجي (1847-1906) في مجلّة «الضياء» المصريّة، حين أدرك عجز اللغة العربيّة عن وصف أدقّ عناصر الآلات التقنيّة الغربيّة، والإتيان باصطلاحات ومرادفات عربيّة ملائمة تفي بأغراض الإبانة الصحيحة. ولا يخفى على أحد التأثير الطيّب الذي خلّفه أدبُ الرحلة في ذاكرة الشعوب. غالباً ما أستمتع بالصوَر المبدعة التي رسمها الشاعر الفرنسي لامارتين (1790-1869) في وصف رحلته اللبنانيّة (1832)، أو الأديب اللبناني ميخائيل نعيمة (1889-1888) في الإفصاح عن أحاسيس وجدانه أثناء ترحالاته الروسيّة والفرنسيّة والأميركيّة. لا عجب، من ثمّ، أن يتكرّر السؤال، على سبيل المثال، عن كيفيّة استضافة البلدان الإسلاميّة الأجانبَ الذين يأتون إليها. من المصادفات الباعثة على التفكير أن يسأل المرء اليوم: كيف ستستقبل الدوحة الجموع الغفيرة التي ستنزل في ضيافتها لمناسبة العُرس الكروي العالميّ، حاملة إليها أعرافها وتقاليدها وممارساتها التي تخالف تراث المدينة، وأحكامها المتعلّقة بشرب الكحول، والاحتفالات الليليّة الصاخبة، والمخالطات التغازلية العفويّة.
لا بدّ، والحال هذه، من الاستفسار عن إمكانات المعايشة التمايزيّة في نطاق المدينة الإنسانيّة المعاصرة الواحدة، سواء في الشرق أو في الغرب. إذا كان لكلّ مدينة من مُدننا هويّتها الثقافيّة، وخصوصيّتها التراثيّة، ومُستنداتها الأخلاقيّة، وخلفيّاتها الروحيّة، وأحكامها التشريعيّة، وأعرافها المسلكيّة، فهل يستطيع الناسُ الضيوفُ الذين لا يؤيّدون هذه التصوّرات أن يحيوا فيها حياة سلميّة هادئة؟ إذا اقتصرت الإقامة على بضعة أيّام، أمكننا أن نغضّ الطرف، وأن نستمتع بالغربة الثقافيّة استمتاعاً استثنائيّاً. أما إذا تحوّلت الزيارة إلى سكنٍ دائمٍ، فهل نستطيع أن نتعايش والأقوام الذين يختلفون عنا في مَعشرهم وملبسهم ومأكلهم ومسلكهم ومعبدهم ومفهومهم الثقافي الأرحب؟
من السؤال الثقافي المربك هذا تنبثق استفساراتٌ أخرى: هل يحقّ للضيف أن يبدّل في هويّة المضيف الثقافيّة؟ هل يجوز أن يظلّ الضيفُ المقيمُ على حال التريّث والامتناع عن التأقلم حتّى تتبدّل الأمورُ؟ ما حدود التغيير الذي يمكن أن يتصوّره المرءُ حين يفترض أنّ الغربة تُفضي حتماً إلى التفاعل الثقافي البنّاء، فتُبدّل في الضيف وفي المضيف على حدٍّ سواء؟ متى يصبح الضيف من أهل البيت؟ وما معايير الاندماج الثقافي الحقّ؟
من شروط الاستضافة اللائقة أن يراعي المضيفُ اقتناعات الضيف، وأن يحرص الضيفُ على صون الانتظام الاجتماعي العامّ في مدينة الاستضافة. ينطوي التراث العربي على أعراف ضيافة الأربعين يوماً يَنعم الضيفُ في أثنائها بكرم المضيف، وخصوصاً بحرّيّة الامتناع عن تسويغ إقامته، إذ إنّ المضيف لا يسمح لنفسه بأن يستنطقه أو يستجوبه. غير أنّ هذا كلّه يقتصر على الأخلاقيّات العامّة، في حين أنّ المطلوب النظرُ في إمكانات المعايشة السلميّة بين الناس المختلفين في المدينة الإنسانيّة الواحدة. لذلك لا بدّ لنا من استجلاء بعض الحقائق الأنثروبولوجيّة الأساسيّة التي ينبغي أن نعتصم بها في سياق المباحثات الرامية إلى معالجة هذه المسألة.
لا ريب في أنّ المبدأ الأوّل التنوّعُ الأصلي في الأرض، إذ إنّ الناس يُعبّرون عن ذاتيّاتهم في صوَرٍ شتّى وأشكالٍ مختلفة. ومن ثمّ، لا يجوز أن نسعى إلى إنشاء مدُنٍ محايدة تراثيّاً وثقافيّاً تنشأ على صورة الحياد التقني الانصهاري الذي تفرضه علينا العولمة الجارفة. ولكن من الضروري أن نفكّر في الفصل بين التراث الثقافي الذي يبني الهويّة الجماعيّة، والشريعة الإنسانيّة الكونيّة الواحدة في تنوّع تعابيرها القانونيّة وغزارة منطوياتها التطبيقيّة. يقتضي مثل هذا الفصل أن نقبل الطابع التراثي الثقافي الذي يَهب كلَّ مدينة سحرَها الخاصّ، وأن نَنعم بالغربة الثقافيّة التي تستتبعها الأعرافُ العامّة السائدة في المدينة التي تستضيفنا، ولكن من غير أن نغفل المقتضيات الحقوقيّة الأساسيّة التي تفترضها كرامة الكائن الإنسانيّ.
لذلك لا يجوز لنا أن نطالب بنزع الطابع الثقافي هذا، أو بتغييره، أو بتعديله. لا يجوز لنا أن نبني الهياكل البوذيّة في أنحاء باريس كلّها، وحجّتنا في ذلك أنّ البوذيّة مذهبٌ روحي سلمي يُغني الوجدان الإنسانيّ. ولا يحقّ لنا أن نملأ الأحياء السكنيّة الباريسيّة بالمطاعم الصينيّة، وذريعتنا أنّ النظام الغذائي الصيني من أفضل الأنظمة وأخفّها وأسلمها. ماذا ينفع الحضارة الكونيّة أن نستزرع النموذجَ الصيني في التربة الفرنسيّة، أو أن نستنبت المثالَ الفرنسي في الأرض الصينيّة؟ هل تحتاج الإنسانيّة إلى صين أخرى أو فرنسا أخرى؟
يربكني أشدّ الإرباك أمرُ الأُوروبّيين الذين يرومون أن يفرضوا نظام المدينة الغربيّة في الأرض العربيّة، وأمرُ العرب المهاجرين الذي يسعَون إلى إعادة بناء المدينة الأوروبّيّة المضيفة على هيئة مُدُنهم العربيّة التي تركوها لأسبابٍ شتّى.
استناداً إلى مبدأ التنوّع الذي يتطلّب الفصل بين التراث الخاصّ والشريعة الكونيّة، يجب أن نصوغ مبدأً ثانياً يقضي أن نميّز في التراث الثقافي الخاصّ بين ضربَين من الحقائق الإنسانيّة: الحقائق التي يؤيّدها جميعُ الناس من غير اعتراض أو تحفّظ، والحقائق التي يستحسنها أهلُ المدينة دون سواهم. لا بدّ هنا من التفطّن إلى المخاطر التي ينطوي عليها مثل هذا التمييز. ربَّ سائلٍ يسأل: كيف نستطيع أن نجزّئ الهويّة الثقافيّة الواحدة؟ جوابي أنّ التراثات الثقافيّة الخاصّة تنفرد ببعض الأحكام الاعتباريّة الاستنسابيّة المقترنة باختبارات الجماعة التاريخيّة، ولو أنّها تشتمل على تصوّراتٍ تحمل سمات الحقائق الأنثروبولوجيّة العامّة. بتعبير أوضح، يجب إلقاء البال إلى بعض الأحكام التشريعيّة الخاصّة التي تعتمدها المجتمعات وتفرضها على أبنائها دون سواهم، ومنها ما يتعلّق بالملبس والمأكل وآداب المعاشرة، وما إلى ذلك من شؤون الحياة اليوميّة.
لا أعتقد أنّ مثل هذه التباينات تُعطّل المعايشة السلميّة بين أصحاب الأرض المضيفين والضيوف المستقرّين حتّى زمن اندماجهم التفاعلي الناجز. لا بدّ، في هذا السياق، من التخلّق بأخلاق الحكمة الإنسانيّة السمحة، والاعتراف بأنّ زي المرأة الغربيّة المتحرّرة المتخفّفة من معاطفها لن يُبطل انتظامَ الحياة الاجتماعيّة في المدينة العربيّة، وأنّ الخِمار الأرجواني الزاهي أو الوردي المشرق الذي تتخمّر به المرأة العربيّة المتصوّنة، وبه تزيّن ضفائرَ شعرها، لن يصيب الوعي الفردي الغربي بمكروهٍ حضاري جسيم. غير أنّ العري الجسدي الفاضح في الشارع الغربي والشارع العربي يستقبحه الإنسانُ في جميع التراثات الثقافيّة. كذلك البرقع الأسود الذي يُغشّي جسد المرأة من قمّة الرأس إلى أخمص القدم لا يخيف الناس فحسب؛ بل يحجب هويّة المرأة التي ينبغي أن تتلألأ على محيّاها، ويعطّل العلاقة الإنسانيّة المبنيّة على استجلاء أمارات الوجه وتأوّل انفعالات النفس المتجلّية في حركات الجسد كلّه.
ذكرتُ المثال التفصيلي هذا لأبيّن الغنى التفسيري الذي يحتمله مبدأ الفصل بين الحقائق الخاصّة والحقائق العامّة في التراث الثقافي الواحد. بيد أنّ المسألة تنطوي على خلاصات أوسع وأشمل، إذ إنّ المدُن المعاصرة لا يجوز لها أن تفرض على الضيوف المستقرّين أحكاماً تشريعيّة لا يُقرّها العقل الإنساني السليم. وكذلك الضيوف المستقرّون لا يحقّ لهم أن يسلكوا مسلكاً يخالف هذه الأحكام، ولا يحسن بهم أن يغيّروا في أعراف المجتمع المضيف التي لا تناقض المبادئ الإنسانيّة الأساسيّة. لذلك يجب الاعتصام بمبدأٍ ثالثٍ يصون المعايشة الاختلافيّة التمايزيّة في المدينة الإنسانيّة الواحدة، ويقضي بأن يعتمد أهلُ المسكونة جمعاء شرعة حقوق الإنسان الكونيّة التي أقرّتها أغلبيّة الدساتير الوطنيّة والشرائع المحلّيّة. أعتقد أنّ هذه الشرعة تحتوي على عصارة النضج الإنساني الكوني الذي يفرض على الضيف والمضيف أن يسلكا سلوكاً يراعي كرامة كلّ إنسان وحرّيّته، ويصون أصول العدل والإنصاف، حتّى ينعم الجميع بالحدّ الإنساني الممكن من التضامن الأخوي والتسالم البنّاء.
إذا راعى الناس المبادئ الثلاثة هذه، أمكنهم أن يتعايشوا في المدُن التي أضحت مسرحاً حيّاً للتلاقي والتفاعل والتقابس. وحدها مثل الحكمة الإنسانيّة الراقية هذه تمنعنا من تقسيم العالم فسطاطَين أو دارَين يتحاربان حتّى الإفناء. ليست الأرض في حال احترابٍ حضاريٍّ؛ بل في طور النضج التحاوري الذي يجعل الناس يعترفون بذاتيّاتهم الثقافيّة، اعترافاً يتيح لكلّ جماعة أن تحيا وتنمو في المدينة الإنسانيّة المعاصرة المبنيّة على شرعة حقوق الإنسان الكونيّة، والمزيّنة بالتراثات الروحيّة الجليلة التي لا تناقض مبادئ هذه الشرعة.
- مفكر لبناني


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
TT

طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري

يشكّل قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الركيزة الأساسية لأي حلّ دبلوماسي للحرب الإسرائيلية على لبنان، رغم التصدعات التي أصابته جراء الخروق المتكررة لمضامينه منذ إقراره في شهر أغسطس (آب) 2006. وعلى رغم أن الأحداث المتسارعة تجاوزته وسياسة التدمير التي تنفذها إسرائيل على كامل الأراضي اللبنانية جعلت من الصعب البناء عليه، فإن وزير الخارجية الأسبق طارق متري، تحدث عن «استحالة الاتفاق على قرار بديل عنه بفعل الانقسام الحاد داخل مجلس الأمن الدولي وامتلاك الولايات المتحدة الأميركية وروسيا حق النقض (الفيتو) لتعطيل أي قرار بديل». وشدد متري على أنه «لا بديل لهذا القرار وإن كان يحتاج إلى مقدمة جديدة وإعادة صياغة».

ثغرات تسهل الخرق

ثمة بنود ملتبسة في هذا القرار الدولي، تسببت بخرقه مراراً من إسرائيل و«حزب الله» على السواء؛ لكون كلّ منهما يفسّر هذه البنود بحسب رؤيته ومصلحته. ومتري هو أحد مهندسي الـ1701 عندما مثَّل لبنان وزيراً للخارجية بالوكالة في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وأشار إلى أن «كل قرارات مجلس الأمن يشوبها بعض الغموض، ومن يقرأ 1701 بتأنٍ يتبيّن أنه ينطوي على لهجة قوية، لكن منطوقه يحمل بعض التأويل». وقال متري في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مشكلة القرار 1701 الأساسية والتي كانت سبباً وراء تفسيره من نواحٍٍ مختلفة، أنه يدعو إلى وقف الأعمال العدائية وليس وقف إطلاق النار، وكذلك شابه الغموض أو عدم الوضوح، خصوصاً في الفقرة (8) التي تتحدث عن ترتيبات أمنية في المنطقة الفاصلة ما بين مجرى نهر الليطاني والخطّ الأزرق وجعلها خالية من المسلحين»، مشيراً إلى أن «هذا القرار صدر تحت الفصل السادس، لكن الالتباس الأكبر الذي شابه عندما تطرق إلى مهمة القوات الدولية (يونيفيل)؛ إذ أطلق يدها باتخاذ الإجراءات الضرورية كافة لمنع أي تواجد عسكري أو ظهور مسلّح غير شرعي كما لو أنه جاء تحت الفصل السابع». ويتابع متري قوله: «لكن للأسف هذه القوات لم تقم بدورها، وبدلاً عن أن تكون قوّة مراقبة وتدخل، باتت هي نفسها تحت المراقبة» (في إشارة إلى تعقبها من قِبل مناصري «حزب الله» واعتراضها).

ظروف صدور القرار

فرضت تطورات حرب يوليو (تموز) 2006 إصدار هذا القرار تحت النار والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل، ولم يخفِ الوزير متري أن «القرار 1701 لم يشبع درساً، وكان همّ كلّ الأطراف الاتفاق على ما يوقف الأعمال العدائية ولو كان ملتبساً». ويقول متري إن القرار «لم يكن ليصدر لو لم تتخذ حكومة لبنان برئاسة فؤاد السنيورة قراراً بإرسال 15 ألف جندي إلى الجنوب. لكن لأسباب متعددة لم يستطع لبنان أن يفي بوعده بإرسال هذا العدد من الجنود، أولاً لعدم توفر الإمكانات وانشغال الجيش بكثير من المهمات بينها حفظ الأمن الداخلي».

صحيح أن القرار الدولي كان عرضة للخرق الدائم وهذا كان موضع تقييم دائم من مجلس الأمن الدولي الذي لطالما حذّر من تجاوزه، لكنه بقي إطاراً ضابطاً للوضع الأمني على طول الخطّ الأزرق الفاصل ما بين لبنان وفلسطين المحتلّة.

جسر دمَّرته حرب 2006 شمال بيروت (غيتي)

وذكّر متري بأن «الفترة التي فصلت إقرار القانون ووقف الأعمال العدائية في عام 2006، وبين 7 أكتوبر (2023) لم يبادر (حزب الله) إلى الاصطدام بأحد، ولم يكن سلاحه ظاهراً كما غابت نشاطاته العسكرية، واعتبر نفسه مطبّقاً للقرار 1701 على النحو المطلوب، في حين أن إسرائيل خرقت السيادة اللبنانية جوّاً آلاف المرات، حتى أنها امتنعت عن إعطاء لبنان خرائط الألغام؛ وهو ما تسبب بسقوط عشرات الضحايا من المدنيين اللبنانيين». كذلك أشار متري إلى أن «دبلوماسيين غربيين تحدثوا عما يشبه الاتفاق الضمني بأن كلّ ما هو غير ظاهر من السلاح جنوبي الليطاني ينسجم القرار مع 1701، وأن (حزب الله) لم يقم بعمليات تخرق الخطّ الأزرق، بل كانت هناك عمليات في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا».

هل ما زال القرار قابلاً للحياة؟

يتردد طارق متري في الإجابة عن مستقبل هذا القرار؛ لأن «النوايا الفعلية لحكومة بنيامين نتنياهو غير واضحة». وسرعان ما يلفت إلى وجود تناقضات كبيرة في السياسة الدولية اليوم، ويقول: «الأميركيون يحذّرون نتنياهو من الغزو البرّي، لكنّ الأخير يزعم أنه يريد القيام بعمليات محدودة لضرب أهداف لـ(حزب الله)، وهذا غير مضمون»، مذكراً بأن «جناح اليمين المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية يدعو لاحتلال جزء من جنوب لبنان، لكنّ هؤلاء قلّة غير مؤثرة؛ لأن القرار في جنوب لبنان ونوعيّة الغزو البرّي تتخذه المؤسسة العسكرية»، متحدثاً عن «وجود إشارات متضاربة، إذ أنه عندما قدّم الأميركيون والفرنسيون ورقتهم لوقف النار، جاء التصعيد الإسرائيلي سريعاً في لبنان». وأضاف: «قبل الانتخابات الرئاسية يفضل الأميركيون ألا تندلع الحرب، وفي الوقت نفسه يغضون النظر عمّا تلحقه إسرائيل من أذى بحق المدنيين اللبنانيين».

سيناريو 2006

وتنطلق مخاوف وزير الخارجية السابق التجارب الإسرائيلية السابقة، قائلاً: «في عام 2006 زعمت إسرائيل أن الغاية من عملياتها في لبنان ضرب (حزب الله)، لكنها دمرت لبنان، واليوم تطبّق السيناريو نفسه، إن كانت لا تزال تحيّد مطار بيروت الدولي عن الاستهداف وتتجنّب تدمير الجسور، والفرنسيون متفهمون لذلك».

آثار القصف الإسرائيلي على بيروت خلال الحرب مع «حزب الله» عام 2006 (رويترز)

وشدد في الوقت نفسه على «مسؤولية لبنان بفتح نافذة دبلوماسية؛ إذ ليس لديه خيار سوى تطبيق القرار 1701 والاستعداد لإرسال الجيش إلى الجنوب». وتابع: «إسرائيل تعرف أن الحكومة اللبنانية ضعيفة وإذا حصلت على التزام لبناني بتطبيق القرار ستطالب بالأكثر».

وفي حين يسود اعتقاد بأن القرار 1701 لم يعد الوثيقة الدولية الصالحة لإنهاء الحرب القائمة على لبنان اليوم، استبعد طارق متري إصدار مجلس الأمن الدولي قراراً بديلاً عنه. ورأى أنه «يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يجدد المطالبة بتنفيذه مع إعادة صياغته ووضع مقدّمة جديدة له». وتحدث عن «استحالة صدور قرار جديد لأن مجلس الأمن الدولي مشلول ولا يمكن إصدار الاتفاق على بديل، لأن الفيتو الأميركي والروسي موجودون ولا إمكانية لقرار آخر». وأكد أن «التقدم الإسرائيلي ميدانياً سيقفل الباب أمام الحلّ الدبلوماسي، أما إذا تمكن (حزب الله) من الصمود أمام التدخل الإسرائيلي فهذا قد يفتح باباً أمام الحلول السياسية».