لماذا أصبحنا نعيش عالماً يكاد يخلو من المعنى؟

لماذا أصبحنا نعيش عالماً يكاد يخلو من المعنى؟
TT

لماذا أصبحنا نعيش عالماً يكاد يخلو من المعنى؟

لماذا أصبحنا نعيش عالماً يكاد يخلو من المعنى؟

يسعى كتاب «تأملات في الوضع البشري»، الصادر حديثاً عن دار «العين» بالقاهرة للكاتب والباحث صلاح سالم، إلى الإجابة عن عدد من التساؤلات ذات الطابع الفلسفي الوجودي، لعل أبرزها: لماذا أصبحنا نعيش عالماً يفتقد إلى السحر ويتراجع فيه الشغف ويكاد يخلو من المعنى؟
في البداية يشير المؤلف إلى أن مسيرة التقدم البشري تكاد تتوازى مع صيرورة نزع السحر عن العالم، ونفي العنصر الغيبي في تفسير الطبيعة والمجتمع والتاريخ. لقد جرى التخلص أولاً من سحر الخرافة الذي أفضى لأشكال من الوصاية كانت عبئاً على الوضع البشري.
غير أن صيرورة التقدم لم تتوقف عند ذلك الحد، بل استمرت في نزع أشكال السحر الأخرى، وضمنها سحر الروحانيات، وأيضاً سحر الميتافيزيقيا ذات الفلسفات التأملية، وكلاهما تقدم رؤية شاملة و«غائية» للوجود، تعالج شتى جوانبه وترسم له إما أفقاً روحياً ينشد خلاصاً أخروياً، وإما أفقاً مثالياً ينشد سمواً أخلاقياً نحو غايات كالحق والعدل والخير والجمال. باختفاء سحر الغيب تحت وطأة الضغط القادم من النزعات العلمية القائلة بالحتمية، والفلسفات المادية، خصوصاً الجدلية، ولد شعور جامد وبليد بالحياة.
ويوضح المؤلف أن الروحانية لم تتوار دفعة واحدة بل تدريجياً، ولم يهيمن «البرود» على العالم فجأة بل عبر تحولات عدة. يتمثل أولها في الثورة العلمية، حيث أدت نزعة الشك المصاحبة للمنهج التجريبي إلى صياغة صورة للعالم تبعد عن اليقين، أخذت تؤكد على الصراع كأساس للعلاقة بين الإنسان والطبيعة، فيما تراجع اهتمامها بالتيار الشعوري الباطني لدى الإنسان ومدى قدرته على الصعود رأسياً نحو الله، أو الجريان المتدفق أفقياً نحو البشر الآخرين. وأما التحول الثاني فيتمثل في الثورات الصناعية المتلاحقة. فالأولى، نهاية القرن الثامن عشر، أنتجت الآلة البخارية التي سرعان ما اقتحمت حياة البشر إنتاجاً واستهلاكاً، ودشنت نمط الإنتاج الرأسمالي. أما الثورة الثانية، في النصف الأول للقرن العشرين، فأحالت نمط الإنتاج الرأسمالي إلى سوق عالمية واسعة، هيمنت على المجتمعات المحلية والأنساق الثقافية الفرعية، صانعاً «مجتمع الاستهلاك» المنبث في هياكل مادية ومدن شاهقة وأسواق مزدحمة صارت تضغط على أجساد البشر حتى تطحن عظامهم، حيث لا قدسية إلا لقيم السوق: العمل، الملكية، الثروة، والسلطة. ولا وجود فعال لروابط التضامن الإنساني والتجاذب الروحي والتعاطف النفسي التي توارت جميعها أمام السطوة المتزايدة لنمط الحياة التعاقدي/المادي/البارد. وأتى التحول الثالث في ركاب الثورة التكنولوجية الرقمية (الديجيتال) ليُضيف إلى مجتمع الاستهلاك الواقعي «مجتمع الفرجة الافتراضي»، ويثير شهوة التطلعات وأوهام الحياة في عوالم خيالية، تتطلب إنفاقاً غير محدود.
ويلفت المؤلف إلى حقيقة مفادها بأنه في مثل هذا العالم يفقد الإنسان إحساسه بمعنى «الرزق»، ذلك الشعور التلقائي الجميل بفرحة الكسب المالي ولو كان قليلاً، بعد أن هيمن مفهوم «الدخل» الذي لا يثير في النفس مرحاً مهما كانت قيمته. ففي ظل مجتمع الاستهلاك صار الإنسان مجرد حلقة في سلسلة مالية، يعلم مصادر دخله ويدرك حجم عوائده منها. فإذا جاءته كاملة لن يسعد بها لأنه إما قام بإنفاقها مسبقاً، أو على الأقل خطط لذلك، ربما عبر بطاقة الفيزا، ودون أن يلمس الأوراق المالية نفسها أو يطمئن إليها، فالعائد هنا مجرد رقم يملأ خانة فارغة. أما إذا أتته ناقصة فسيبدو حانقاً ولو كانت بالملايين، لأنه لا يتفاعل مع القيمة الاسمية لتلك العوائد بل مع حجم التغير فيها صعوداً وهبوطاً، فهذا التغير وحده هو الذي يثير مشاعر إنسان هذا الزمان، الذي لم يعد يفرح بسهولة ولا بالقليل، وفي المقابل بات أكثر عرضة للقلق والاكتئاب لأبسط الأسباب والتفاصيل، بعد هيمنة المعادلات الحسابية على مشاعره البكر وتلقائيته الحية، حتى أصبح مجرد نقطة صغيرة على لوحة حرارية حساسة معرضة لتغيرات معقدة.
ويشدد صلاح سالم على أنه اليوم ومع بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، يتقدم علما «البيوتكنولوجي» و«الذكاء الصناعي» إلى أفق جديد لم يكن متصوراً، وتزداد قدرتهما ليس فقط على أصعدة السيطرة والتدجين والمراقبة والقسر والإغواء، بل أيضاً على صعيد التحكم التجريبي في الجسد الإنساني، الأمر الذي يهدد بتغيير الطبيعة البشرية، وينال من مفهوم الإنسان بحدوده المعروفة، إذ يحيله من كائن متفرد بذاته، متسام على الطبيعة والمادة، له سحره الخاص الذي يستعصي على التحليل، إلى كائن عادي تنتفي عنه الأبعاد المركبة التي صاغت إنسانيته. يدعي علم «البيوتكنولوجي» أنه يعمل لأجل الإنسان، لإطالة عمره وتحسين صحته أو لزيادة جماله وذكائه، فيما يفضي جوهرياً، حال اكتمال الفتوحات والتوجهات التي يجري الحديث عنها الآن، إلى اغتيال جوهره المتفرد، سر نوعه الضعيف بيولوجياً لكن القادر على التسامي روحياً، المدرك لمحدودية عمره وحقيقة موته، ولكن المتعايش معهما حتى إنه يبدع على حافتهما جل فلسفاته، محاولاً تفسير مغزى وجوده ومعنى غيابه. إنه السر الذي يمنحه القدرة على أن يفكر ويتألم، يبحث عن إلهه فيؤمن به طلباً لعنايته أو يلحد فيه متحدياً مشيئته. السر الذي يتيح له أن يخطئ ويندم، أن يحلم ويسعى لتحقيق مآربه، أن ينجح ويخفق، ففي تلك النزعات المتفردة للروح يكمن سر تساميه على المخلوقات الأخرى، وفي غيابها يفقد جل ملكاته الخلاقة كالعقل الحر والروح المتمردة، وليستحيل صاحب الضمير المتوثب إلى كائن مسطح كالجماد، أو كائن غريزي كالحيوان جسده الظاهر أهم شيء لديه، ولا معنى خلفه، ولا شيء يلبي حاجته إلى مصدر للطاقة النفسية، والشعور بالانتماء المشترك والتضامن الفعال مع المجتمع.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

اهتمام «سوشيالي» واسع بنبيل الحلفاوي إثر مرضه

الفنان نبيل الحلفاوي (إكس)
الفنان نبيل الحلفاوي (إكس)
TT

اهتمام «سوشيالي» واسع بنبيل الحلفاوي إثر مرضه

الفنان نبيل الحلفاوي (إكس)
الفنان نبيل الحلفاوي (إكس)

حظي الفنان المصري نبيل الحلفاوي باهتمام واسع على «السوشيال ميديا» إثر مرضه، وانتقاله للعلاج بأحد مستشفيات القاهرة، وتصدر اسم الفنان «الترند» على «إكس» في مصر، الجمعة، بعد تعليقات كثيرة من أصدقائه ومتابعيه على منصة «إكس»، داعين له بالسلامة، ومتمنين له سرعة الشفاء والعودة لكتابة «التغريدات».

صورة للفنان نبيل الحلفاوي (متداولة على إكس)

واشتهر الحلفاوي بنشاط تفاعلي على منصة «إكس»، معلقاً على العديد من القضايا؛ سواء العامة أو السياسية أو الفنية، أو الرياضية بالتحديد، بوصفه واحداً من أبرز مشجعي النادي الأهلي المصري.

وكتب عدد من الفنانين داعين للحلفاوي بالسلامة والتعافي من الوعكة الصحية التي أصابته والعودة لـ«التغريد»؛ من بينهم الفنان صلاح عبد الله الذي كتب على صفحته على «إكس»: «تويتر X ما لوش طعم من غيرك يا بلبل»، داعياً الله أن يشفيه.

وكتب العديد من المتابعين دعوات بالشفاء للفنان المصري.

وكان بعض المتابعين قد كتبوا أن أسرة الفنان نبيل الحلفاوي تطلب من محبيه ومتابعيه الدعاء له، بعد إصابته بأزمة صحية ونقله إلى أحد مستشفيات القاهرة.

ويعد نبيل الحلفاوي، المولود في القاهرة عام 1947، من الفنانين المصريين أصحاب الأعمال المميزة؛ إذ قدم أدواراً تركت بصمتها في السينما والتلفزيون والمسرح، ومن أعماله السينمائية الشهيرة: «الطريق إلى إيلات»، و«العميل رقم 13»، ومن أعماله التلفزيونية: «رأفت الهجان»، و«لا إله إلا الله»، و«الزيني بركات»، و«غوايش»، وفق موقع «السينما دوت كوم». كما قدم في المسرح: «الزير سالم»، و«عفريت لكل مواطن»، و«أنطونيو وكليوباترا».

نبيل الحلفاوي وعبد الله غيث في لقطة من مسلسل «لا إله إلا الله» (يوتيوب)

ويرى الناقد الفني المصري أحمد سعد الدين أن «نبيل الحلفاوي نجم كبير، وله بطولات مميزة، وهو ممثل مهم لكن معظم بطولاته كانت في قطاع الإنتاج»، مستدركاً لـ«الشرق الأوسط»: «لكنه في الفترة الأخيرة لم يكن يعمل كثيراً، شارك فقط مع يحيى الفخراني الذي قدّر موهبته وقيمته، كما شارك مع نيللي كريم في أحد المسلسلات، فهو ممثل من طراز فريد إلا أنه للأسف ليس اجتماعياً، وليس متاحاً كثيراً على (السوشيال ميديا). هو يحب أن يشارك بالتغريد فقط، ولكن لا يتفاعل كثيراً مع المغردين أو مع الصحافيين. وفي الوقت نفسه، حين مر بأزمة صحية، وطلب المخرج عمرو عرفة من الناس أن تدعو له بالشفاء، ظهرت مدى محبة الناس له من أصدقائه ومن الجمهور العام، وهذا يمكن أن يكون فرصة لمعرفة قدر محبة الناس للفنان نبيل الحلفاوي».