مسلمو أوروبا ليسوا مجرد مهاجرين

إميلي غريبل تعيد وضع قصتهم في إطارها الصحيح

مسلمو أوروبا ليسوا مجرد مهاجرين
TT

مسلمو أوروبا ليسوا مجرد مهاجرين

مسلمو أوروبا ليسوا مجرد مهاجرين

إن إطلالة سريعة على المسوحات التي تتعلق بتواجد المسلمين في أوروبا تدفع للاعتقاد بأن ملايين المقيمين منهم عبر القارة ويحملون جوازات سفر دولها ليسوا سوى مهاجرين أو أبناء مهاجرين من الجيل الثاني والثالث، سواء أتوا من جنوب آسيا أو العالم العربي أو أفريقيا ارتباطاً بتطورات شهدتها علاقات مختلف القوى الأوروبية بشعوب الجنوب خلال العهود الاستعمارية.
وتكرس هذه المسوحات إلى حد كبير تلك النظرة التي تريح المزاج الأوروبي العام المعادي لكل من (لا يشبهنا)، أي ذوي ألوان البشرة غير البيضاء الذي يراهم دائماً ومهما تجمل، طارئين وعابرين ومؤقتين لا عبرة لأعمارهم التي أفنوها في القارة، ولا أولادهم الذي ولدوا فيها ولا يعرفون وطناً سواها.
لكن الواقع أن صورة الإسلام الأوروبي أشد تعقيداً من تلك الثنائيات المسطحة، وهناك في قلب القارة مجموعات سكانية مليونية في غير بلد يمكن وصفهم بأنهم أوروبيون مسلمون. ويأتي كتاب إميلي غريبل «المسلمون وصنع أوروبا الحديثة» الذي صدر أخيراً عن مطبعة جامعة أكسفورد كمحاولة طموحة لاستعادة هؤلاء الأوروبيين من التغييب والتجاهل عبر رحلة في التاريخ تمتد لخمسة قرون.
أتى المسلمون إلى أوروبا واختلطوا بأهلها وأصبحوا جزءاً لا يتجزأ من سكان القارة وثقافتها من بابين. باب أول من جهة الجنوب الغربي عبر مضيق جبل طارق وتجربة الأندلس بداية من القرن الثامن الميلادي، وآخر تالٍ من الجنوب الشرقي من خلال تمدد الإمبراطورية العثمانية عبر البلقان ووسط أوروبا حتى أسوار فيينا – عاصمة النمسا الحالية – بداية من القرن الخامس عشر الميلادي.
ومع أن كلتا التجربتين استمرت لقرون طويلة، فإن شبه الجزيرة الأيبيرية بعد سقوطها في أيدي الملوك الكاثوليك نفذت واحدة من أبشع حملات التطهير الديني في التاريخ ضد مواطنيها المسلمين (كما اليهود) وبأشكال مختلفة من القتل والاضطهاد والطرد، فأنهت بشكل شبه كلي وجودهم فيما يعرف بإسبانيا والبرتغال اليوم بعد ثمانية قرون من تجربة تعايش فريدة تشهد عليها بصماتهم الحضارية وآثارهم المعمارية الخالدة. فيما بقي من بوابة الجنوب الشرقي مسلمون أوروبيون كثيرون في بلادهم بعد انحسار الوجود العثماني ولاحقاً سقوط الخلافة ونشأة تركيا الدولة الحديثة مكانها مع بدايات القرن العشرين، وأصبح هؤلاء بشكل أو بآخر جزءاً من تجارب الدول الأوروبية الحديثة في المائتي سنة الأخيرة.
ويتخصص كتاب جريبل بتجربة جنوب شرقي أوروبا تلك. بداية من الأيام الأولى لتوسع العثمانيين داخل قلب القارة الأوروبية في القرن الخامس عشر ومن ثم تقلص مكاسبها الإقليمية بمرور الوقت، وصولاً إلى القرن الـ19 عندما بدأ تأسيس دول مسيحية في البلقان على حساب الوجود العثماني. وتقول السجلات التاريخية من تلك الفترة بأن معاهدة برلين لتسوية شؤون الشرق (وقعت في عام 1878) والتي حددت شكل العلاقة المستقبلية بين الدولة العثمانية - التي كانت قد خسرت للتو حربها مع روسيا - والقوى الأوروبية، اعترفت بصربيا والجبل الأسود ورومانيا كدول مستقلة، ومنحت سكانها من المسلمين حقوقاً سياسية واقتصادية ومدنية كاملة أسوة ببقية المواطنين. وهؤلاء بالفعل ورغم تعرضهم لضغوط شديدة بوصفهم بقايا معادية لإمبراطورية مهزومة كما شكوك دائمة في ولائهم واستبعاد لهم من مراكز صنع القرار ومقدرات السلطة فإنهم تمكنوا بشكل عام من التصويت، وكان لهم ممثلون في الجمعيات الوطنية، واحتفظوا غالباً باستقلالية المحاكم الشرعية والأوقاف. وبحسب جريبل، فإن ذات التوجهات في التعاطي مع السكان المسلمين سادت أيضاً في اليونان وبلغاريا وقبرص. وقد ساعد استمرار الأوقاف بيد المسلمين على تعليم فئة منهم انخرطت في العمل مع بيروقراطيات الدول الناشئة ومنهم القضاة وأمناء الأوقاف والمعلمون. ويبدو أن تلك الكوادر أسهمت بشكل أو آخر في إظهار المسلمين كأقليات معترف بها قانونياً في نظر الحكومات والمجموعات السكانية الأخرى.
وتلاحظ جريبل أنه وبحلول القرن العشرين، ظلت ولاءات سكان أوروبا من المسلمين منقسمة إلى حد بعيد بين التضامن الإسلامي ربطاً بالمفاهيم العثمانية عن الذات والآخر في مقابل الأفكار الدستورية والقومية الأوروبية حول المواطنية في الدولة الحديثة. ولذلك كانت حروب البلقان 1912 و1913 - التي هَزَمت فيها دول البلقان العثمانيين قبل أن تتحالف معهم ضد حليفتها السابقة بلغاريا - كما مرحلة الفوضى التي تسببت بها الحرب العالمية الأولى 1914 – 1918 بمثابة نقاط تحول سلبية في تاريخ العلاقة بين الدول الحديثة الاستقلال ومسلمي القارة، إذ تعرضوا للاغتيال والطرد بوحشية، وحرم اللاجئون منهم العودة إلى بلادهم، بينما جرد الباقون من ممتلكاتهم أو حقوق التصويت أو العمل.
وقد أدت هذه التحولات السلبية والردة عن المكتسبات الأساسية التي تمتع بها الأوروبيون المسلمون في القرن التاسع عشر إلى دفع المجتمعات المسلمة لمزيد من التماسك والتضامن معاً، وشجعت كثيرين منهم إلى تبني قراءات أكثر تشدداً للإسلام، فيما نظم آخرون تمردات مسلحة أو قدموا التماسات من أجل إنصافهم إلى حكومات أجنبية فاعلة، وانخرط بعضهم في العمل مع مؤسسات الدولة متعمداً إظهار ولاء مضاعف.
وبعد إنشاء مملكة الصرب والكروات والسلوفينيين عام 1918 (التي أصبحت يوغسلافيا - الأولى - في عام 1929)، اعترف نص دستورها بحق المسلمين في الرجوع إلى الشريعة الإسلامية في قضايا الأسرة والميراث، واستمرت المؤسسات الإسلامية في القيام بأدوار هامة في حياة المواطنين المسلمين. لكن حكومة بلغراد ميزت في سياساتها العملية حتى بين المسلمين الناطقين بالسلافية - في البوسنة وصربيا – عن أولئك الناطقين بالألبانية والتركية - في كوسوفو ومقدونيا - .
ويظهر تراث تلك الفترة تنوعاً واسعاً لناحية الرؤى بين مسلمي مملكة يوغسلافيا حول أفضل الاستجابات للمحاولات الشرسة التي بذلها الملك ألكسندر الأول لتذويب المسلمين في المجتمع اليوغسلافي، وتصادمت تيارات إصلاحية بينهم مع أخرى تقليدية بشأن مسائل مثل التعليم ومكانة المرأة، لكن قلة من المسلمين أسفت لاختفاء يوغسلافيا الأولى في خضم الحرب العالمية الثانية (1941).
خلال الحرب العالمية الثانية، انقسم مسلمو أوروبا كما كل الأوروبيين بين مؤيدين للمحور ومناصرين للمقاومة التي دعمها الحلفاء. ويبدو أن النهضويين الإسلاميين أملوا في أن يمكنهم المحور سياسياً، فانخرط بعضهم في وحدات عسكرية خاصة قاتلت مع الألمان – مثل وحدة الكاما (اسم الخنجر الذي يستخدمه الرعاة في البلقان) من مسلمي البوسنة - فيما انضم آخرون إلى الثوار الذين يقاتلون الألمان والإيطاليين والبلغاريين.
بعد الحرب، عندما شرع جوزيف تيتو عام 1945 في بناء دولة يوغسلافيا الاشتراكية على أسس الوحدة والأخوة بين المكونات العرقية والدينية، تفاوض المسلمون على مكانتهم، فاعتقد التقدميون منهم أن الاشتراكية قد تحررهم من قيود الإسلام المحافظ وتسمح لهم بالعيش على قدم المساواة مع بقية اليوغسلافيين، لكن آخرين قاوموا، وحوكم بعضهم وتم إعدامهم كأعداء للشعب. وفي الواقع أنهى الدستور الاشتراكي ليوغسلافيا لعام 1946 استقلالية القضاء الشرعي، وأممت ممتلكات الأوقاف وأعيد ضبط العلاقة بين المسلمين والدولة بشكل جذري كجزء من الفسيفساء اليوغسلافية.
جرت مياه كثيرة بعد تفكك يوغسلافيا، وغزو تركيا لشمال قبرص، والتحاق عدد من دول جنوب شرقي أوروبا بالاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالمواطنين المسلمين في تلك الجهة من أوروبا. ولعل قيمة كتاب جريبل أنها تعيد موضعة قصة هؤلاء في إطارها الصحيح: ثمة في النهاية، تاريخ أوروبي يشكل الإسلام جزءاً لا يتجزأ منه، وفي قراءة هذا التاريخ، فإن كثيرين ينبغي لهم إعادة النظر في تعريفهم لماهية أن يكون المرء أوروبياً.


مقالات ذات صلة

جوامع باريس لـ«الدعاء لفرنسا» بعد خطبة الجمعة

أوروبا جوامع باريس لـ«الدعاء لفرنسا» بعد خطبة الجمعة

جوامع باريس لـ«الدعاء لفرنسا» بعد خطبة الجمعة

طلب عميد «المسجد الكبير» في باريس، شمس الدين حفيز، من الأئمة التابعين للمسجد الدعاء لفرنسا في نهاية خطب الجمعة.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق جانب من بينالي الفنون الإسلامية بجدة في نسخته الأولى (واس)

بينالي الفنون الإسلامية في جدة... حوار المقدس والمعاصر

يجري العمل على قدم وساق لتقديم النسخة الثانية من بينالي الفنون الإسلامية بجدة في 25 من يناير القادم، ما الذي يتم إعداده للزائر؟

عبير مشخص (لندن)
ثقافة وفنون المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة الدكتور سالم بن محمد المالك (صورة من الموقع الرسمي للإيسيسكو)

«الإيسيسكو» تؤكد أن المخطوطات شاهدٌ حيٌّ على أصالة العالم الإسلامي

أكد المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة «إيسيسكو»، الدكتور سالم بن محمد المالك، أن المخطوطات شاهدٌ حيٌّ على أصالة العالم الإسلامي.

«الشرق الأوسط» (الرباط)
أوروبا رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتس يتحدث خلال اجتماع ترشيح الحزب في أوسنابروك ودائرة ميتيلمس في ألاندو بالهاوس (د.ب.أ)

زعيم المعارضة الألمانية يؤيد تدريب أئمة المساجد في ألمانيا

أعرب زعيم المعارضة الألمانية فريدريش ميرتس عن اعتقاده بأن تدريب الأئمة في «الكليةالإسلامية بألمانيا» أمر معقول.

«الشرق الأوسط» (أوسنابروك (ألمانيا))
المشرق العربي الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬ في خطبة الجمعة بأكبر جوامع مدينة دار السلام التنزانية

أمين رابطة العالم الإسلامي يزور تنزانيا

ألقى معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، رئيس هيئة علماء المسلمين، فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬، خطبةَ الجمعة ضمن زيارة لتنزانيا.

«الشرق الأوسط» (دار السلام)

«مشروع 25» وفيلسوف وراء الترمبيّة

روبرت نوزيك
روبرت نوزيك
TT

«مشروع 25» وفيلسوف وراء الترمبيّة

روبرت نوزيك
روبرت نوزيك

لم تعد تصريحات الرئيس الأميركيّ دونالد ترمب ومواقفه تثير القلق الشديد عند نصف مواطنيه أو الحماس الصاخب عند نصفهم الآخر فحسب، بل وتحولت إلى ما يشبه عرضاً يومياً مسرحه العالم برمته.

ولعل تسطّح التغطية الإعلاميّة وطبيعتها الضحلة والقصيرة المدى يفرض على المتابع الانتقال من تصريح للرئيس ترمب هنا أو إجراء باسمه هناك دون تروٍّ للبحث في دوافع محتملة وراء تصريحاته أو خطوط عامّة قد تنتظم تحتها توجهاته السياسيّة، والتي يمكن أن تكوّن بمجموعها نوعاً من نظام مستقر معرفيّاً يساعد على تفسير المواقف السابقة للرئيس وإدارته، وربما أيضاً التنبؤ بنسق محتمل لما قد يبدر عنهما تالياً.

أحاول في هذا المقال القبض على ثلاث مسائل قد يكون كل منها معلوماً في مجاله وفضائه، لكنها تكتسب، حين تجتمع معاً، قدرة مقنعة على وصف النظام الترمبي - إذا صح التعبير -، وتفسير نجاحه في الوصول إلى السلطة، والتحقق من منطلقات الثقافة السياسيّة التي تحكم الحركة لـ«استعادة أميركا العظيمة»، وتتخذ من شخص الرئيس ترمب محور تركيزها.

غلاف مشروع (2025: تكليف بالقيادة، الوعد المحافظ)

إن أولى تلك المسائل هي الفهم الواقعي لحقيقة أن جوهر السياسة – بغض النظر عن كل الشعارات المؤدلجة يميناً أو يساراً – هو في الصراع على السلطة، وأن كل تباينات في الإجراءات والمبادرات السياسيّة في الزّمان والمكان، لا تخرج في محصلتها عن كونها تصبّ إما في الجهود للحفاظ على هيكل وديناميكيات السلطة، أو تغييرها. ولذلك؛ فإن الرئيس ترمب ليس سوى الواجهة العلنيّة لتيار سياسي يميني متجذر في الثقافة السياسية الأميركيّة يسعى إلى تغيير هيكل وديناميكيات السلطة بهدف استعادة نموذج مجتمع يوتوبي نقيّ أخلاقيّاً (وربما عرقيّاً وطائفيّاً أيضاً) يرى أنصاره أنّه قد حان وقته لإنقاذ البلاد من التهتك الذي ما لبثت تغرق فيه منذ بعض الوقت، وأصبح يهدد بانحلالها.

وهذا يأخذنا إلى المسألة الثانية، وهي أن ثمة فلسفة مدونة ومعلنة لهذا التيار من خلال جدول أعمال منشور منذ عام 2023 (مشروع 2025: تكليف بالقيادة، الوعد المحافظ) الذي يجمل خطة عمل متكاملة تستهدف تركيز السلطات الفيدرالية في الولايات المتحدة بأيدي فئة قليلة من النافذين.

روبرت نوزيك وغلاف كتابه" الفوضى والدولة واليوتوبيا"، 1974

نشر هذا المشروع المستوحى من خطط نثرت بذورها الأولى في عقد السبعينات من القرن الماضي من قِبل مؤسسة التراث الليبرتارية التي تعبّر عن تيار يميني محافظ لا يعتذر عن قناعته بأن تحقيق «أميركا العظيمة» – بصفتها يوتوبيا عصر ذهبي – يمر بالضرورة عبر الإطاحة وبلا تردد بجميع الظروف الاجتماعية القائمة من خلال تسليم السلطة إلى نخبة من الأفراد البارزين (أمثال دونالد ترمب وإيلون ماسك وبيتر ثايل، وغيرهم) تقود عملية تفكيك للدولة القائمة واستبدالها بدولة رشيقة لديها الحد الأدنى من الصلاحيات لإنفاذ القانون، وتختص أساساً بحماية حقوق الأفراد، والملكيّة الخاصة للأثرياء.

وتستند هذه الخطة إلى تفسير مثير للجدل للنظرية التنفيذية الموحدة التي ترى أن السلطة التنفيذيّة برمتها تخضع بأكملها لسيطرة الرئيس؛ ما سيمكن ترمب من تفكيك البيروقراطية الحكومية التي يرى مناصرو الليبرتاريين أنها ذات هوى ليبرالي (أقرب إلى الحزب الديمقراطي)، في حين يحذر منتقدوها مما اعتبروه مؤامرة أصولية (قومية مسيحية) ستقود البلاد إلى الاستبداد، وتقوّض سيادة القانون والفصل بين السلطات، والفصل بين الكنيسة والدولة، والحريات المدنيّة.

ووفق الخطة، فإن الرئيس بعد تفكيك البيروقراطية سيتسنى له تنفيذ أجندة «مشروع 2025» التي تتضمن فيما تتضمنه سياسات لخفض الضرائب على الشركات وأرباح رؤوس الأموال، وخفض الرعاية الطبية العامّة، وإزالة التقييدات على استخدام الوقود الأحفوري، وشطب برامج التنوع والإنصاف والشمول، وتشديد القيود على الهجرة، واعتقال المهاجرين غير الشرعيين وترحيلهم، ونشر الجيش لتنفيذ القانون على مستوى الولايات، وفرض اللغة الإنجليزية لغةً رسمية، بالإضافة إلى تبني تعريفات وفق ثقافة اليمين المسيحي بشأن كل ما يتعلق بالجندر والعائلة والإجهاض. وقد وجد تحليل أجرته أسبوعية «تايم» الأميركيّة أن أكثر من ثلثي الأوامر التنفيذية التي أصدرها الرئيس ترمب منذ توليه مهام منصبه في الولاية الثانية تعكس كلياً أو بشكل كبير مقترحات محددة في «مشروع 2025»، كما أن عدداً كبيراً ممن كانوا وراء المشروع التحقوا بحملة ترمب الانتخابيّة، أو استدعوا للخدمة في إدارته.

لقد سمع كثيرون بـ«مشروع 2025»، لكن قلة يعرفون عن الفيلسوف الذي تمثل أعماله مصدر إلهام الحركة الليبرتارية، وهذه المسألة الثالثة التي يمكن أن تعين في فهم نظام ترمب. لقد كان الفيلسوف الأميركي اليهودي من أصول روسيّة روبرت نوزيك (1938 - 2002) مفكراً ثورياً بالمعنى الحقيقي للكلمة، فهو مثل كارل ماركس، لم يكتف بوصف العالم، بل طمح إلى تغييره، وقد أصبح كتابه في الفلسفة السياسية «الفوضى والدّولة واليوتوبيا» – 1974، بمثابة المرجع الفكري الأول للجناح اليميني في الإمبراطورية الأميركيّة الذي يسعى الآن من خلال «مشروع 2025» إلى تطبيق فلسفته حول مفهوم الحريّة وعلاقة الفرد بالدولة على أرض الواقع.

أفكار نوزيك الفلسفية لا بدّ منها لفهم الترمبيّة التي بحكم ارتباطها بمشروع سياسي فلسفي متكامل قد لا تنتهي بولاية ترمب الثانية بل تستمر بعده

لم يخترع نوزيك الآيديولوجيا اليمينية الليبرتارية، لكنّه منحها المرجعية النظريّة، على الرغم من أن فلاسفة السياسة شككوا في الأساس الفكري الذي بنيت عليه نظرياته، واعتبروا حجج صاحبها غير صحيحة، ومنفصلة عن العالم الحقيقي.

منجز نوزيك الفلسفي كان نقداً لمفهوم العدالة عند الفيلسوف الأميركيّ جون رولز الذي جادل بأن المجتمع ينبغي أن يتأسس على التنفيذ العقلاني والعادل للخير بغض النظر عن الانقسامات الهرمية، وأن الخيار المنطقي الوحيد للبشر هو مجتمع يضمن العدالة المتساوية بموجب القانون للجميع. وبينما وافق نوزيك على مبدأ العدالة، فإنه اعترض على منطق المساواة، واعتبر أنّه ليس من واجب الأثرياء الالتزام بمساعدة الآخرين من أجل تحسين المجتمع، ونادى بمبدأ الحريّة الإيجابيّة بمعنى أن من حق الأفراد أن يفعلوا ما يريدون ما داموا قادرين على دفع تعويض عن الضرر الذي قد يلحق بالآخرين، مبرراً بذلك أن يقبل الضعفاء بـ«العبوديّة» مقابل تعويض مناسب من الأثرياء.

ويطرح نوزيك نسخة معدلة أكثر صرامة من العقد الاجتماعي لجون لوك، وفي رؤيته أن الدور الوحيد للدولة هو الدفاع عن حقوق الأفراد وممتلكاتهم وأموالهم، وما قد يريدون فعله بتلك الممتلكات والأموال، ويرفض كل أفكار الرعاية الاجتماعية، ويساوي الضرائب بالسرقة، بل ويستهجن الجهود غير الحكومية لتعزيز قدر أكبر من المساواة الاجتماعية.

إن وضع هذه المسائل الثلاث في إطار واحد: فهم جوهر السياسة بصفتها صراعاً على السلطة، وخطط عمل مؤسسة التراث وفق «مشروع 2025»، وأفكار نوزيك الفلسفية يبدو ممراً لا بدّ منه لفهم الترمبيّة، التي يرجح أنّها بحكم ارتباطها بمشروع سياسي فلسفي متكامل لا تنتهي بولاية الرئيس ترمب الثانية، بل ربما ستستمر بعده، ربما من خلال نائبه الحالي جي دي فانس، الذي سيكون جاهزاً لخوض انتخابات الرئاسة خلفاً له بعدما اكتسب خبرة في استعادة يوتوبيا «أميركا العظيمة» يداً بيد مع الرئيس طوال أربع سنوات.