مسلمو أوروبا ليسوا مجرد مهاجرين

إميلي غريبل تعيد وضع قصتهم في إطارها الصحيح

مسلمو أوروبا ليسوا مجرد مهاجرين
TT

مسلمو أوروبا ليسوا مجرد مهاجرين

مسلمو أوروبا ليسوا مجرد مهاجرين

إن إطلالة سريعة على المسوحات التي تتعلق بتواجد المسلمين في أوروبا تدفع للاعتقاد بأن ملايين المقيمين منهم عبر القارة ويحملون جوازات سفر دولها ليسوا سوى مهاجرين أو أبناء مهاجرين من الجيل الثاني والثالث، سواء أتوا من جنوب آسيا أو العالم العربي أو أفريقيا ارتباطاً بتطورات شهدتها علاقات مختلف القوى الأوروبية بشعوب الجنوب خلال العهود الاستعمارية.
وتكرس هذه المسوحات إلى حد كبير تلك النظرة التي تريح المزاج الأوروبي العام المعادي لكل من (لا يشبهنا)، أي ذوي ألوان البشرة غير البيضاء الذي يراهم دائماً ومهما تجمل، طارئين وعابرين ومؤقتين لا عبرة لأعمارهم التي أفنوها في القارة، ولا أولادهم الذي ولدوا فيها ولا يعرفون وطناً سواها.
لكن الواقع أن صورة الإسلام الأوروبي أشد تعقيداً من تلك الثنائيات المسطحة، وهناك في قلب القارة مجموعات سكانية مليونية في غير بلد يمكن وصفهم بأنهم أوروبيون مسلمون. ويأتي كتاب إميلي غريبل «المسلمون وصنع أوروبا الحديثة» الذي صدر أخيراً عن مطبعة جامعة أكسفورد كمحاولة طموحة لاستعادة هؤلاء الأوروبيين من التغييب والتجاهل عبر رحلة في التاريخ تمتد لخمسة قرون.
أتى المسلمون إلى أوروبا واختلطوا بأهلها وأصبحوا جزءاً لا يتجزأ من سكان القارة وثقافتها من بابين. باب أول من جهة الجنوب الغربي عبر مضيق جبل طارق وتجربة الأندلس بداية من القرن الثامن الميلادي، وآخر تالٍ من الجنوب الشرقي من خلال تمدد الإمبراطورية العثمانية عبر البلقان ووسط أوروبا حتى أسوار فيينا – عاصمة النمسا الحالية – بداية من القرن الخامس عشر الميلادي.
ومع أن كلتا التجربتين استمرت لقرون طويلة، فإن شبه الجزيرة الأيبيرية بعد سقوطها في أيدي الملوك الكاثوليك نفذت واحدة من أبشع حملات التطهير الديني في التاريخ ضد مواطنيها المسلمين (كما اليهود) وبأشكال مختلفة من القتل والاضطهاد والطرد، فأنهت بشكل شبه كلي وجودهم فيما يعرف بإسبانيا والبرتغال اليوم بعد ثمانية قرون من تجربة تعايش فريدة تشهد عليها بصماتهم الحضارية وآثارهم المعمارية الخالدة. فيما بقي من بوابة الجنوب الشرقي مسلمون أوروبيون كثيرون في بلادهم بعد انحسار الوجود العثماني ولاحقاً سقوط الخلافة ونشأة تركيا الدولة الحديثة مكانها مع بدايات القرن العشرين، وأصبح هؤلاء بشكل أو بآخر جزءاً من تجارب الدول الأوروبية الحديثة في المائتي سنة الأخيرة.
ويتخصص كتاب جريبل بتجربة جنوب شرقي أوروبا تلك. بداية من الأيام الأولى لتوسع العثمانيين داخل قلب القارة الأوروبية في القرن الخامس عشر ومن ثم تقلص مكاسبها الإقليمية بمرور الوقت، وصولاً إلى القرن الـ19 عندما بدأ تأسيس دول مسيحية في البلقان على حساب الوجود العثماني. وتقول السجلات التاريخية من تلك الفترة بأن معاهدة برلين لتسوية شؤون الشرق (وقعت في عام 1878) والتي حددت شكل العلاقة المستقبلية بين الدولة العثمانية - التي كانت قد خسرت للتو حربها مع روسيا - والقوى الأوروبية، اعترفت بصربيا والجبل الأسود ورومانيا كدول مستقلة، ومنحت سكانها من المسلمين حقوقاً سياسية واقتصادية ومدنية كاملة أسوة ببقية المواطنين. وهؤلاء بالفعل ورغم تعرضهم لضغوط شديدة بوصفهم بقايا معادية لإمبراطورية مهزومة كما شكوك دائمة في ولائهم واستبعاد لهم من مراكز صنع القرار ومقدرات السلطة فإنهم تمكنوا بشكل عام من التصويت، وكان لهم ممثلون في الجمعيات الوطنية، واحتفظوا غالباً باستقلالية المحاكم الشرعية والأوقاف. وبحسب جريبل، فإن ذات التوجهات في التعاطي مع السكان المسلمين سادت أيضاً في اليونان وبلغاريا وقبرص. وقد ساعد استمرار الأوقاف بيد المسلمين على تعليم فئة منهم انخرطت في العمل مع بيروقراطيات الدول الناشئة ومنهم القضاة وأمناء الأوقاف والمعلمون. ويبدو أن تلك الكوادر أسهمت بشكل أو آخر في إظهار المسلمين كأقليات معترف بها قانونياً في نظر الحكومات والمجموعات السكانية الأخرى.
وتلاحظ جريبل أنه وبحلول القرن العشرين، ظلت ولاءات سكان أوروبا من المسلمين منقسمة إلى حد بعيد بين التضامن الإسلامي ربطاً بالمفاهيم العثمانية عن الذات والآخر في مقابل الأفكار الدستورية والقومية الأوروبية حول المواطنية في الدولة الحديثة. ولذلك كانت حروب البلقان 1912 و1913 - التي هَزَمت فيها دول البلقان العثمانيين قبل أن تتحالف معهم ضد حليفتها السابقة بلغاريا - كما مرحلة الفوضى التي تسببت بها الحرب العالمية الأولى 1914 – 1918 بمثابة نقاط تحول سلبية في تاريخ العلاقة بين الدول الحديثة الاستقلال ومسلمي القارة، إذ تعرضوا للاغتيال والطرد بوحشية، وحرم اللاجئون منهم العودة إلى بلادهم، بينما جرد الباقون من ممتلكاتهم أو حقوق التصويت أو العمل.
وقد أدت هذه التحولات السلبية والردة عن المكتسبات الأساسية التي تمتع بها الأوروبيون المسلمون في القرن التاسع عشر إلى دفع المجتمعات المسلمة لمزيد من التماسك والتضامن معاً، وشجعت كثيرين منهم إلى تبني قراءات أكثر تشدداً للإسلام، فيما نظم آخرون تمردات مسلحة أو قدموا التماسات من أجل إنصافهم إلى حكومات أجنبية فاعلة، وانخرط بعضهم في العمل مع مؤسسات الدولة متعمداً إظهار ولاء مضاعف.
وبعد إنشاء مملكة الصرب والكروات والسلوفينيين عام 1918 (التي أصبحت يوغسلافيا - الأولى - في عام 1929)، اعترف نص دستورها بحق المسلمين في الرجوع إلى الشريعة الإسلامية في قضايا الأسرة والميراث، واستمرت المؤسسات الإسلامية في القيام بأدوار هامة في حياة المواطنين المسلمين. لكن حكومة بلغراد ميزت في سياساتها العملية حتى بين المسلمين الناطقين بالسلافية - في البوسنة وصربيا – عن أولئك الناطقين بالألبانية والتركية - في كوسوفو ومقدونيا - .
ويظهر تراث تلك الفترة تنوعاً واسعاً لناحية الرؤى بين مسلمي مملكة يوغسلافيا حول أفضل الاستجابات للمحاولات الشرسة التي بذلها الملك ألكسندر الأول لتذويب المسلمين في المجتمع اليوغسلافي، وتصادمت تيارات إصلاحية بينهم مع أخرى تقليدية بشأن مسائل مثل التعليم ومكانة المرأة، لكن قلة من المسلمين أسفت لاختفاء يوغسلافيا الأولى في خضم الحرب العالمية الثانية (1941).
خلال الحرب العالمية الثانية، انقسم مسلمو أوروبا كما كل الأوروبيين بين مؤيدين للمحور ومناصرين للمقاومة التي دعمها الحلفاء. ويبدو أن النهضويين الإسلاميين أملوا في أن يمكنهم المحور سياسياً، فانخرط بعضهم في وحدات عسكرية خاصة قاتلت مع الألمان – مثل وحدة الكاما (اسم الخنجر الذي يستخدمه الرعاة في البلقان) من مسلمي البوسنة - فيما انضم آخرون إلى الثوار الذين يقاتلون الألمان والإيطاليين والبلغاريين.
بعد الحرب، عندما شرع جوزيف تيتو عام 1945 في بناء دولة يوغسلافيا الاشتراكية على أسس الوحدة والأخوة بين المكونات العرقية والدينية، تفاوض المسلمون على مكانتهم، فاعتقد التقدميون منهم أن الاشتراكية قد تحررهم من قيود الإسلام المحافظ وتسمح لهم بالعيش على قدم المساواة مع بقية اليوغسلافيين، لكن آخرين قاوموا، وحوكم بعضهم وتم إعدامهم كأعداء للشعب. وفي الواقع أنهى الدستور الاشتراكي ليوغسلافيا لعام 1946 استقلالية القضاء الشرعي، وأممت ممتلكات الأوقاف وأعيد ضبط العلاقة بين المسلمين والدولة بشكل جذري كجزء من الفسيفساء اليوغسلافية.
جرت مياه كثيرة بعد تفكك يوغسلافيا، وغزو تركيا لشمال قبرص، والتحاق عدد من دول جنوب شرقي أوروبا بالاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالمواطنين المسلمين في تلك الجهة من أوروبا. ولعل قيمة كتاب جريبل أنها تعيد موضعة قصة هؤلاء في إطارها الصحيح: ثمة في النهاية، تاريخ أوروبي يشكل الإسلام جزءاً لا يتجزأ منه، وفي قراءة هذا التاريخ، فإن كثيرين ينبغي لهم إعادة النظر في تعريفهم لماهية أن يكون المرء أوروبياً.


مقالات ذات صلة

بينالي الفنون الإسلامية في جدة... حوار المقدس والمعاصر

يوميات الشرق جانب من بينالي الفنون الإسلامية بجدة في نسخته الأولى (واس)

بينالي الفنون الإسلامية في جدة... حوار المقدس والمعاصر

يجري العمل على قدم وساق لتقديم النسخة الثانية من بينالي الفنون الإسلامية بجدة في 25 من يناير القادم، ما الذي يتم إعداده للزائر؟

عبير مشخص (لندن)
ثقافة وفنون المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة الدكتور سالم بن محمد المالك (صورة من الموقع الرسمي للإيسيسكو)

«الإيسيسكو» تؤكد أن المخطوطات شاهدٌ حيٌّ على أصالة العالم الإسلامي

أكد المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة «إيسيسكو»، الدكتور سالم بن محمد المالك، أن المخطوطات شاهدٌ حيٌّ على أصالة العالم الإسلامي.

«الشرق الأوسط» (الرباط)
أوروبا رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتس يتحدث خلال اجتماع ترشيح الحزب في أوسنابروك ودائرة ميتيلمس في ألاندو بالهاوس (د.ب.أ)

زعيم المعارضة الألمانية يؤيد تدريب أئمة المساجد في ألمانيا

أعرب زعيم المعارضة الألمانية فريدريش ميرتس عن اعتقاده بأن تدريب الأئمة في «الكليةالإسلامية بألمانيا» أمر معقول.

«الشرق الأوسط» (أوسنابروك (ألمانيا))
المشرق العربي الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬ في خطبة الجمعة بأكبر جوامع مدينة دار السلام التنزانية

أمين رابطة العالم الإسلامي يزور تنزانيا

ألقى معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، رئيس هيئة علماء المسلمين، فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬، خطبةَ الجمعة ضمن زيارة لتنزانيا.

«الشرق الأوسط» (دار السلام)
شمال افريقيا شيخ الأزهر خلال كلمته في الاحتفالية التي نظمتها «جامعة العلوم الإسلامية الماليزية» (مشيخة الأزهر)

شيخ الأزهر: مأساة فلسطين «جريمة إبادة جماعية» تجاوزت بشاعتها كل الحدود

لفت شيخ الأزهر إلى أن «ظاهرة جرأة البعض على التكفير والتفسيق وما تسوغه من استباحة للنفوس والأعراض والأموال، هي ظاهرة كفيلة بهدم المجتمع الإسلامي».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم