زيارة لمذكرات رئيس الوزراء اللبناني الراحل صائب سلام (2): الأميركيون أمنوا حماية أبو عمّار يوم خروجه من بيروت

رئيس الحكومة الراحل يروي تفاصيل «القصف المجنون» على العاصمة اللبنانية في صيف 1982 ومساعي إنهاء الحرب

صائب سلام مع ياسر عرفات
صائب سلام مع ياسر عرفات
TT

زيارة لمذكرات رئيس الوزراء اللبناني الراحل صائب سلام (2): الأميركيون أمنوا حماية أبو عمّار يوم خروجه من بيروت

صائب سلام مع ياسر عرفات
صائب سلام مع ياسر عرفات

في هذه الحلقة الثانية من مذكرات رئيس الحكومة اللبناني الراحل، صائب سلام، يتناول تفاصيل الفترة الصعبة التي عاشتها بيروت ومعظم مناطق لبنان، خلال الغزو الإسرائيلي في صيف 1982. ويقول إنه كان يشعر وهو تحت قصف المدافع وغارات الطائرات، وكأن «أبواب جهنم قد فُتحت على بيروت».
ويتحدث سلام عن المحاولات والاتصالات التي أجراها مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وقادة المقاومة الذين كانوا يعيشون في بيروت، وأبرزهم: أبو إياد، وأبو جهاد، وهاني الحسن، إلى جانب القادة اللبنانيين الذين لعبوا دوراً في تلك المرحلة، وخصوصاً رئيس الجمهورية إلياس سركيس، وبشير الجميل الذي كان يقود «القوات اللبنانية»، وانتخب فيما بعد رئيساً للجمهورية، واغتيل قبل أن يتولى منصبه، إضافة إلى اتصالات سلام مع المبعوث الأميركي إلى لبنان في تلك الفترة، السفير فيليب حبيب، الذي كان يتولى ترتيب محاولات وقف إطلاق النار تمهيداً لخروج المقاومة الفلسطينية من لبنان.
وتصدر المذكرات في ثلاثة أجزاء عن دار نشر «هاشيت أنطوان»، وستكون متوفرة في مكتبات لبنان بدءاً من 28 يونيو (حزيران)، وعلى موقع «أنطوان أونلاين».
- قصف الإسرائيليين لبيروت
كان ذلك ليلة الثلاثاء، في 22 يونيو 1982. في هذه الليلة لم ننم، وكلّ أهل بيروت لم يذوقوا طعم النوم من القصف المتواصل. منذ الصباح، حاولت معالجة ذلك. اتّصلت بالرئيس الوزّان فحضر إليّ، ثمّ حضر هاني الحسن، وكانت النتيجة... «هيئة الإنقاذ الوطنية» المؤلفة من الرئيس الوزّان وبرّي وجنبلاط. ثمّ قرّرت الاجتماع بـ«المقاومة الفلسطينية» اليوم للبحث معهم في ترتيب الأمور.
كلّمتُ السفير فيليب حبيب، فوجدته عند رئيس الجمهورية إلياس سركيس، فكلمت رئيس الجمهورية أيضاً، ووعد حبيب بأن يبذل جهده لوقف إطلاق النار. كلّمني السفير حبيب من دارة السفارة الأميركية في اليرزة مرّة أخرى، وطلب أن يقابلني، فذهبت إليه وقابلته، وحال ما أبلغته ما يحصل، قال لي إنّه هو أيضاً لم ينم الليل، وإنّه ليس بحاجة لشاهد، فقد رأى القذائف والقصف يتّصل من قبل الفلسطينيين ومن لفّ لفّهم، وقد بلغت حوالي أربعين قذيفة قبل أن يردّ عليهم الإسرائيليون من البحر والبرّ. وكان السفير موريس درايبر يكتب ملاحظات فيما نبحث فيه. ثمّ اتّصل بواشنطن ليوقف إطلاق النار، ويوقف أيضاً الزحف الإسرائيلي من خلدة إلى بيروت؛ لأن الفلسطينيين كانوا قد أبلغوني صباحاً أنّ القصف الفلسطيني كان سببه التقدّم الإسرائيلي نحو بيروت، ومع هذا فقد أبرق لواشنطن بإيقاف الزحف وأنا عنده.

دبابة إسرائيلية في جنوب لبنان خلال الغزو (غيتي)

ثمّ كلمني أبو عمّار الذي كان قد حضر إلى منزلي، حين كان «التجمّع الإسلامي» منعقداً، وكان يتكلم بصورة غير معقولة، جنونية: «إنني محاصَر، سأضرب يميناً شمالاً جنوباً، شيوخاً أطفالاً نساءً، على جونية، على البلد، على الجميع، على الإسرائيليين... لن نموت هكذا، لن نموت». حاولت كثيراً أن أكلمه، أن أهدّئ من روعه؛ لكنه لم يسمع منّي كلمة، ثمّ حاولت ثانية قائلاً له: «إن السفير حبيب يسعى جادّاً لإيقاف التقدّم الإسرائيلي»، فأجاب: «سيأخذون المطار، سيُنزلون الدبابات بالهليكوبتر، سيزحفون علينا ونحن لن نموت، سنقاتل!».
مضت عليّ أيّام وأنا أعلن وأردّد، حتى للصحف الأجنبية وللمراسلين الأجانب الذي يتوافدون عليّ بالعشرات، لأعطي الصورة للخارج بأنّ الفلسطينيين قد قاتلوا قتالاً مجيداً من الحدود إلى بيروت، ومن حقهم ألا يموتوا إلا مقاتلين، وأنّهم في بيروت سوف يقاتلون من حي إلى حي ومن شارع إلى شارع، من بيت إلى بيت، وهذا ما كنت أفهمته لحبيب أيضاً، بأنّنا لا نريد أن نوصلهم إلى هذا المأزق. حبيب يلحّ وأنا ألحّ معه منذ مدّة على أنْ ينزل الجيش اللبناني إلى بيروت بالاتفاق مع الفلسطينيين، فمن دون الاتفاق مع الفلسطينيين، لا يمكن أن ينزل الجيش ويضمن ألا يحصل تصادم بينه وبين المسلحين، وخصوصاً الفلسطينيين. وكان أبو عمّار يرفض هذا، ويطلب أن ينسحب الجيش الإسرائيلي إلى أبعد من 7 كيلومترات، وهو يصرّ ويقول إنّه كان قد أبلغ هذا لجوني عبده، وإنّه ليس في مقدور حبيب تحقيق ما قاله لي بأن يعيد الإسرائيليين إلى الوراء، ولكن بإمكانه أن يوقفهم حيث هم، إذا توقف إطلاق النار، وهو يريد ذلك فعلاً حتى يكون الجيش اللبناني هو متسلّم الأمن في بيروت، ولا تكون هناك حجّة للأميركان تجاه الإسرائيليين، فهم إذا ضربوا بيروت أو اقتحموها، فإنّهم يقتحمون الشرعية من خلال جيشها؛ لكن أبو عمّار كان يقبل مبدئياً نزول هذا الجيش ولا يسهّل ذلك عملياً، وهذا ما سيكون موضع بحث بينه وبين اللجنة الأمنيّة.
مع الأسف، بعض المسلّحين اللبنانيين ومن وراءهم الذين عاشوا على التخريب منذ سنوات، لا يفيدهم أن نأتي اليوم بأي حلول، وها هي البلاد كلها ترى ما أسعى إليه جاهداً منذ أسابيع، في الأيّام والليالي، مع هذا وذلك، مع رئيس الجمهورية، مع حبيب، مع أبو عمّار الذي يزورني مرّتين في اليوم تقريباً، وهم جميعاً يقدّرون ذلك، إلا أنّ هذا التقدير يصبح عكسه عند بعض الفصائل المسلحة من أمثال «المرابطون» وأمثال فلول «الحركة الوطنية» الذين يحرّضون، وقد صرّحوا -كما أفادتني رسالة من سركيس نعوم، المحرّر في «النهار»- بـ«أنّنا لن نسامح بعد سبع سنوات تسميتهم جهادنا تخريباً، وبأن يأتي صائب سلام ليأخذ وجاهة حلّال المسائل». بناءً على ذلك، سيعملون على «خردقة الداخل»، أي صفوف «التجمّع الإسلامي» الذي بقي فيه فلول ممن اعتمد عليهم، مثل تقي الدين الصلح، وهو من أصحاب التعقّل والرويّة، وها هم اليوم يلتفّون حوله كثيراً ويثيرون عنده حساسيات محاولين أن يفرطوا التجمّع.
أنا أعرف كلّ ذلك، ولكنّي أحاول كثيراً أن أتجاهل، محاولاً أن أبقي هذا التجمّع قائماً. وحين اتّصل سماحة المفتي حسن خالد، طلبت منه أن يداري الموضوع، وهو يشعر بما يقع على بيروت من ضير ومن خشية على تهديمها على رؤوسنا جميعاً، أطفالاً وشيوخاً ونساءً. وبعد البحث معه، اقترح أن يدعو البعض مع أبو عمّار والوزّان وجنبلاط. قلت له إنّني أفضّل ألا يُضمّ جنبلاط لأسباب، منها أنّه أتاني مَن يخبرني أنّه قال إن اليوم يوم التشفّي من الفلسطينيين؛ لأنهم ضربوا والده من قبل سنة 1977، يوم دخل السوريون، وهم اليوم يضربونه أيضاً فيما يقومون به في الشوف، وهو نفسه لم يأتِ من المختارة للانضمام إلى «هيئة الإنقاذ» إلا بعد مساعٍ جبارة، وقد اجتمع بها مرّتين، وفي كلّ مرّة كان يخرج من عندي ويتظاهر بأنّه تعقّل وأنّه فهم ما أردّده له بأنّنا جميعاً وراءك نؤيّدك... إلا أنّ جوابه يكون: «أنا لا أتحمّل مسؤولية»، وهو جواب مراوغ لأنّه يريد أن يوقع بهم.
وقد أخبرني أحد المراسلين الأجانب في «الكومودور»، وقد بلغوا في تجمّعهم هناك ما يفوق المائتين عدّاً، أنّ جنبلاط جاءهم فجأة إلى فندقهم بحجّة أنّه يريد أن يعيش هناك. هم يعتبرون ذلك حجّة، فهو جاء فقط ليقول لهم إنّه لا يوافق على ما يحصل، وإنّ أميركا متضامنة مع إسرائيل، وإنّ الإسرائيليين يريدون أن يضربوا. وهو يريد بذلك أن يزايد على المساعي الخيّرة، حتى يثير القوى الشريرة، وحتى يبعث القلق، وكان يردّد دائماً: «أنا عائد إلى المختارة!».

جنود إسرائيليون في بيروت في صيف 1982 (غيتي)

وأذكر أنّه أتاني في المساء اتّصال من السفير حبيب من اليرزة، يقول إنّه أتاه تأكيد من أميركا بأنّ شارون وافق على عدم دخول المطار، وهذا كان طلب الفلسطينيين منّي، وثانياً أنّ عليّ إيقاف القصف، قصف الفلسطينيين، ومن لفّ لفيفهم، كاملاً.
لم أتمكّن في هذا الوقت من الاتّصال بأبو عمّار؛ لأنه كان في اجتماع مع الوزّان وجماعته فاتّصلت بأبو جهاد، وهو رجل عاقل، فأفهمته هذين الأمرين، وقلت له أن يتعقّلوا وأن يعمل هو على إيقاف إطلاق النار بكلّ ما لديه من قوّة، وطلبت منه أن يأتي لمقابلتي هو وأبو عمّار، حال عودة أبو عمّار من الاجتماع.
من جهتي، أنا أبذل هذه المساعي الخيّرة حرصاً منّي على القضيّة الفلسطينية وعلى أصحابها، وقد أخذت من حبيب ضمانات تقول بأنّهم لن يسمحوا بضرب الفلسطينيين إن كان الجيش اللبناني في بيروت، ولن يسمحوا بإذلالهم أو بذبحهم كما قال، وأنا بدوري أوصلتُ هذه التطمينات التي طلبوها بواسطتي من أميركا.
أما جنبلاط فبدل أن يعطيهم تطمينات بعد مقابلته لحبيب، أتى إلى اجتماع فيه الكبير والصغير، المتطرّف وغير المتطرّف، فأخافهم بقوله إنّ حبيب هدّده بأنّ الفلسطينيين سيُضرَبون، وبأنّ الفلسطينيين سيُزالون، لذلك يجب أن ينسحبوا من البلد فوراً... إلخ... إلخ... وأعتقد أنّه أثار ذلك عن قصد، ليثير فيهم التحرّك فيقاوموا، مردّداً أمام البعض أنّه يريد من ذلك أن ينتقم منهم.
- تهديد أبو عمّار
أما أبو عمّار فبعد أن أفرغ كلّ ما في جعبته من كلام جنوني لا معنى له، بأنّه سيخرّب وسيضرب شرقاً وجنوباً وشمالاً... وقد جاراه تقي الدين الصلح الذي بعد مكالمة أبو عمّار لي طلبني، وكان أشدّ وأقسى. طبعاً أنا أخذت هذا من ناحية أخرى، فاستعملته مع حبيب حين قلت له إنّ هذا موقف أبو عمّار، وأمامي أيضاً، وبعد عشر دقائق من الرسالة الأولى، أرسل رسالة ثانية إلى واشنطن يطلب منهم إيقاف الإسرائيليين عن التقدّم.
وأبو عمّار تعوّدنا عليه وعلى تمثيله وعلى شطحاته، قلت له حين كنت سأذهب من عند السفير الأميركي في اليرزة إلى مقابلة الرئيس: «انتظرني في المصيطبة»، وحين حضرت كان قد ترك قبلي بدقائق لأنّه لم يرد أن يقابلني، بعد أن هوّل على المجتمعين وأرعبهم، وخشي إذا حضرت أن أجعله يتعقل؛ لكنني سأحاول أن ألتقي به بعد انتهاء الاجتماع.
ثمّ وصلني خبر أنّ «المرابطون» يحاولون «خردقة» مَن حولي، فيتّصلون بـ«تقي الدين» ويدلّلونه، ويتّصلون بمالك سلام ورشيد الصلح وغيرهم محاولين الالتفاف حول المفتي؛ لكني أعتقد أنّ المفتي سيفهم منّي بالعقل والحكمة، أما الباقون فأنا أداريهم، من تقي الدين إلى الذين يمكنني أن أطالهم، وهم كثيرون من الحركة الوطنية. وكان يأتيني في هذه الأثناء منهم من كانوا أشدّ مواجهة لي، أمثال محمد قبّاني، وعصام نعمان، وعصام العرب وجماعته، كذلك زارني رئيس «الحزب القومي» إنعام رعد الذي بعد خروجه من عندي أعطى بلاغاً للجرائد يقول فيه إنّه زارني وإنّه أيّدني في كلّ مواقفي، فأنا أسعى جاهداً وبكلّ إخلاص للحفاظ على الفلسطينيين وقضيّتهم، وللحفاظ على مدينتي بيروت وعلى لبنان أجمع من خلال ذلك، وهذا يسيء لمن يريد أن يخرّب أكثر فأكثر.
ثمّ جاء جماعة التلفزيون قائلين إنّ الاتّصالات تتوالى راجية إطلالة صائب سلام على التلفزيون ليطمئن الناس. وهذا له منافعه إذا قمتُ به، ولكنّ له مضارّه أيضاً لأنّه يثير الآخرين، هؤلاء الذين يريدون أن يخرّبوا ليجعلوا لأنفسهم مكاناً، حتى إنّه نُشر حديث طويل لرشيد كرامي يحرّض فيه على الحكم وعلى المتعقّلين، ويقول إنّه يجب ألا نبيع القضيّة بالمحافظة على بيروت، وهناك حديث آخر لريمون إدّه الذي خرج أيضاً عن حدوده وعن كلّ أطواره في المدّة الأخيرة، وهو يكلّمني كلاماً غير معقول، ففي حديثه الصحافي ذاك قال: إنّه يجب ألا يكون هنالك «لافال»؛ مشيراً إلى الوزّان الذي أدعمه وأؤيّده؛ لأنّه أفضل من في الساحة اليوم. وحين تلقّف إبراهيم قليلات و«المرابطون» منه كلمة «لافال» أخذوا يعلنون من إذاعتهم محذّرين «لافال» من المضي بعمل «لافال»، أي القيامة، وأخذوا يصنّفون: الوزّان خائن، نبيه برّي خائن، وطبعاً سركيس خائن، وبطرس خائن، وبشير الجميّل خائن، ولم يبقَ إلا جنبلاط المعرقل والمزايد في نظرهم؛ لأنّهم يستفيدون من مراوغته، وهو من دون أي شك يقصد الضرر والهلكة لبيروت وللفلسطينيين بالذات، وقد قال للبعض صراحة إنّه يريد أن ينتقم منهم. والله يقدّم ما فيه خير.
- تحت رحمة قنابل شارون
أتذكّر أنّ ما ذاقته بيروت هو أشدّ ما يكون فظاعة تحت قنابل هذا «الهولاكو» الجديد الذي يريد هدمها. عدوان وحشي أصاب بيروت كما أصاب لبنان كلّه من جنوبه إلى عاصمته، تهديماً وخراباً وهدماً وفتكاً.
سكّان بيروت نزحوا بالألوف المؤلفة، باتّجاه الشمال والشرق، وبقي فيها أيضاً ألوف، وهم كلّهم تحت رحمة قنابل شارون.
ابتدأ شهر رمضان ونحن في هذه الحال، وأنا في كلّ وقت أستصرخ العالم، وكالات الأنباء والصحف... أسعى كلّ ساعة مع الوزراء، مع السفراء، مع «التجمّع الإسلامي».
أصرخ أنّ الإسرائيليين يريدون القضاء على «المقاومة الفلسطينية» نهائياً، وها هم قد احتلّوا جوانب بيروت من جنوبها إلى شرقها إلى شمالها عند الكتائب.
أصرخ مخاطباً السفير حبيب، فيوقف القتال، ثمّ نراه يستمرّ، ويرسل شارون منشورات فيها التهديد والوعيد وضرورة خروج أهل المدينة منها، تلقي هذه المنشورات طائرات كلّ يوم، وكان لها فعلها ودويّها العظيم.
وقد اضطررت للاتّصال برئيس الجمهورية مرّتين، وكلمته بلهجة قاسية قائلاً: «أنت قاعد في بعبدا، ولكن عاصمتك تحت رحمة الإسرائيليين في كلّ ساعة، وقد يدمّرونها، فاستنجد برؤساء العالم ومن خلالهم بشعوب العالم كله!».
كذلك كلّمت مفتي الجمهورية وطلبت منه أن يذيع بياناً من التلفزيون يوجّهه إلى شعوب العالم، ورؤساء أقطار العالم الصديقة والشقيقة.
- مع بشير الجميل
في الوقت ذاته، لم أهدأ وأنا أستقبل المراسلين الأجانب الموجودين في فندق «الكومودور»: من ألمان وطليان وإنجليز وأميركان وفرنسيين، من «BBC» و«AP» و«UP» و«نيويورك تايمز» و«اللوموند» و«ديرشبيغل»... كنت أشرح لهم الوضع والتطوّرات خطوة خطوة،... وأنا مؤمن بأنّني أقوم بواجب وطني وقومي يدعوني لذلك، فالمقاومة الفلسطينية لا يمكن أن تداس تحت أقدام المجتاح الإسرائيلي.
وهذا ما كنت أكرّره لإخواننا الموارنة، ولبشير الجميّل خاصّة، وقد كنتُ على علاقة مع بشير منذ مدّة كما هو معلوم، وكان يكلمني بصيغة: «أنت والدي وأنت مرشدي، إنّ كلّ ما تقوله لي أنفّذه»، وكان هذا حقيقة، ولكن بعد دخول الإسرائيليين شعرت بأنّه تغيّر، فتغيّرتُ معه أيضاً. أرسل لي مرّة محمد صفي الدين بعد أن قال له إنّه يشعر بأنّني تغيّرت عليه، فقال له محمد صفي الدين: «بلى، أنا أيضاً شعرت من صائب بأنّه تغيّر عليك، والسبب هو كذا وكذا وكذا»،
فكلّمته وقلت له: «لقد نقل إليّ محمد صفي الدين وأنت تعرف أنّني صريح، نعم لقد تغيّرت لأنّني شعرت بأنّك أنت تغيّرت. فيا بشير، وأيّها الإخوان الموارنة، أنتم تعلمون أنّ قلبي مفتوح لكم ويدي ممدودة، وكلّنا من أجل لبنان يجب أن نتعاون، ولكن أشعر اليوم بأنّكم قصيرو النظر، فما يناله الإسرائيليون منا ومن إذلال المقاومة إذا تمكنوا من ذلك سيصيبكم الضرر الكبير من بعده، وإنّهم إذا نالوا كلّ ذلك وهدموا بيروت والمسلمين، فلن يقوم لبنان بعد اليوم، وستكونون أنتم تحت رحمة الإسرائيليين، وستكونون أنتم أكثر الخاسرين، فالمسلمون ليس لديهم الكثير مما يأخذه منهم الإسرائيلي المحتلّ، ولكن أنتم سيأخذ من قلوبكم ويمسك برقابكم؛ لأنكم أنتم الذين يكمن عندكم ما تعطونه».
وهذا الحديث كنت أقوله لإخواني المسيحيين كلّهم.
أما أبو عمّار، فكان يأتيني دوماً بعد الإفطار بدقائق، ليجلس ساعات أتجادل معه، جدالاً قاسياً ومريراً، ونفترق لنلتقي ثانية، وهو لا يزال عند موقفه الذي كان عليه من عشر سنوات، يحلم بأمور، ويشتهي، ويقيّم... في ضوء ما يتصوّره خياله، وأنا أحاول أن أضعه عند مسؤولياته.
كذلك أقام أبو عمّار الدنيا حين أتى إليّ يقول إنّ هذه خيانة، أي عودة الوزّان، أي إنّنا نحن خائنون، فثرت عليه بعنف، رجع واعتذر، فقلت له: أنا أدري ماذا أفعل، لم يبقَ لكم إلا الوزّان، عملنا وسعينا من أجل تكوين «هيئة الإنقاذ»، وضحّينا مع جنبلاط ومع بشير الجميّل من أجل ذلك فتكوّنت، واعتقدنا أنّنا خطونا خطوة أولى، ثمّ اجتمعتَ معنا، فاعتقدنا أنّنا خطونا خطوة ثانية، ثمّ في أول اجتماع صدر عنها ما ينبئ بأنّ أعضاءها متّفقون جميعاً، وكانت قدرة عجيبة ألهمنا الله بها وأعاننا فيها، فتمكّنا من أن نجمع جنبلاط وبشير الجميّل على طاولة واحدة، وهذا لم يكن ليحصل لو لم أكن أنا الساعي إليها. ثمّ فرطت هذه الهيئة أو كادت، جمدت، فما بقي إلا رئيس الحكومة الوزّان، ولو لم نبقه غير مستقيل بعد أن قدّم استقالته لسركيس، ولو لم أشدّ وأدفعه دفعاً لبقي على استقالته، وهكذا استمرّت لنا شرعية قائمة، ولو لم يكن كذلك لما بقيت لنا أي شرعية.
وانطفأت «الحركة الوطنية»؛ خصوصاً بعد أن قصد جنبلاط تجمّع الصحافيين في فندقهم، وشتمنا هناك، فقال إن الحكّام خونة، بمن فيهم الوزّان وصائب، وأعلن انسحابه رسمياً منها.
نعم، لم تبقَ «حركة وطنية»، وجنبلاط ترك الساحة وهو منزوٍ في بيته، أما أنا، فأستمرّ منفرداً أحارب بإيماني، بعقلي، بما أعطاني الله من سعة الحيلة، حيلة الرجال في وسع التفكير.
وأذكر أنّه كان يجتمع عندي، أسبوعياً، ثمّ يومياً: «التجمّع الإسلامي»، و«جبهة المحافظة على الجنوب»، وذات مرّة زارنا خلال الاجتماع: الوزراء الخمسة، وأبو عمّار، وأبو جهاد، وأبو الوليد.
كانت جلسة طويلة، وبعد أن ذهبوا، جاءني الرئيس الوزّان منهكاً، وقال لي إنّ الأمور لم تتيسّر بعد، فرغم الأسس التي وُضعت مع أبو عمّار، بقيت التفاصيل العسكرية، وهي شأن لا نتعاطاه، بينما جوني عبده يفهم بها.
وأنا كنت قد قابلت جوني عبده مرّة واحدة في القصر الجمهوري. تحدّثنا يومها، وقلت له إنّنا اليوم في موقف حرج، ويجب أن تدركوا أنتم الموارنة ذلك، مع المسيحيين كلهم، وأرجو أن تنقل هذا إلى الرئيس سركيس وإلى بشير الجميّل، بأنّ عليكم أن تعاونونا على ما نقوم به، فوعدني بأنّه سيضع تصوّراً لما يجب أن يكون من انسحاب المقاومة، ومن تنظيم المسلحين، وهو سيعطيني إيّاه.
ثمّ أتاني هاني الحسن فقال إن جوني عبده اجتمع بحبيب، وأنا أعلم أنّه يجتمع به دائماً، وإنّ حبيب قال له إنّ الوحيد «الكونسيستينت» (Consistent المتماسك والثابت، وهاني ردّد الكلمة الأجنبية من دون أن يفهم معناها) هو صائب سلام، هو الذي آخذ منه الكلام الصريح والواضح. وكان حبيب فعلاً يتّصل بي أو أتّصل به مرّة أو اثنتين أو ثلاث مرّات أحياناً في اليوم، وهو يعتمد على ما أقول. وبناءً على ذلك، سأنتظر من جوني عبده ما سيعطيني لأكلّم حبيب على أساسه.
ثمّ كلّمني الرئيس الوزّان فقال لي إنّهم طلبوه إلى القصر، فالرئيس مريض، وكان هناك فؤاد بطرس وحبيب الذي أبلغهم أنّ إسرائيل رفضت الشروط التي وصلت إليها. حين قال لي الرئيس الوزّان ذلك، كان تقي الدين الصلح عنده، فطلبت منه أن يكتب لي هذه الشروط المرفوضة وأنا سأنظر فيها، مع ما سيصلني من جوني عبده، لأرى ما سأفعل مع حبيب وبشير وغيرهما. وحين قال لي إنّ الوزّان سيستقيل لأنّه لا يستطيع الاستمرار، قلت له أن يبلغه أنّه بذلك سيرتكب أكبر جرم في الدنيا، فليداوم ونحن معه، أقاموا الدنيا علينا في السابق واتّهمونا بالخيانة، لا بأس، واليوم يعرف الجميع أنّ أحسن ما فعلناه أنّنا أبقينا الوزّان صلة الوصل والشرعية به قائمة.
أما بشير فقد أصبح -كما قلت- تحت تأثير الإسرائيليين، وبالطبع قلت له هذا على الهاتف: «إنك ربما لا تكون مع الإسرائيليين يا بشير، ولكنّ هؤلاء الأعوان الذين حولك والذين ناموا معهم وأكلوا وشربوا في تل أبيب، والذين تمرّنوا عندهم في تلّ أبيب، والإسرائيليون هؤلاء الذين ناموا معهم وأكلوا وشربوا في تل أبيب، هم عندكم اليوم يأكلون ويشربون معكم، ويتعاطفون ويتعاملون، وما صدر عنهم من قساوة يجب أن ندرك أنّه يضرّ بنا وبكم في النهاية».
على كلٍّ، سأبقى صامداً وباقياً على إيماني. والغريب أنّ آخر سؤال يسألني إيّاه معظم الصحافيين الذين يخرجون من عندي زرافات ووحدانا، هو: «وكم عمرك؟» وكأنّهم يجدون أنّني أقوم بما يقوم به ابن ثلاثين، فأنا أفعل هذا بنشاط وبهمّة، ولإيماني الذي بقي في صدري، ولما أشعره من واجب عليّ أن أقوم به.
من جهة أخرى، كانت تأتيني أصوات صغيرة من الشمال، من كرامي، تعلن أنّه في إنقاذ بيروت علينا ألا نهدر القضيّة، نعم هذا كلام مغرض يشكّل طعنة، كما أنّ هناك طعنات أخرى، من الحركة الوطنية أيضاً، وقد جاء منهم من يقول لي إنّهم يريدون إلقاء السلاح بين يديّ، فأجبتهم بأنّني رغم يدي الممدودة سأتلقفكم بكلّ ما فيكم، وبكلّ ما أسأتم إليّ في السابق، ولكنّني لن أحمل السلاح، فأنا أرفض أن يكون سلاحي البارود والحديد والنار، سلاحي هو ثقة الناس، سلاحي هو الموقف المستمرّ، وهذا ما أخبرته لحبيب، وقلته لجوني عبده.
إذن، أنا مستمرّ في خطّي الواضح والصريح والوطني الذي لا لبس فيه ولا إبهام، رغم أنّ البعض يسمّوننا «مشبوهين» أو خونة؛ لكن أبداً، لقد ضربنا هؤلاء في أول خطوة في قضيّة المجالس المحلية، وسنتابع العراك المرير معهم.
نبيه برّي لم يتّصل بي منذ سنوات، وقد فاجأني حين طلب أن يزورني مع جنبلاط، فأهّلت به على أن يأتي من دون جنبلاط هذا الذي هم مغرورون به، وقد شرحت له الواقع، وقلت له أين يقف. وسُئلت: لماذا لا نعقد اجتماعاً إسلامياً ضخماً، لنقف جميعاً وقفة واحدة؛ لكنني أعرف أنّ هذا الطرح هو للالتفاف حولي، لمخادعتي، من هنا ومن هناك، إما بالمزايدة عليّ مع الفلسطينيين أو ضدّهم. ولأنّني أعرف ذلك وقفت ضدّه أيضاً، بقوّة أعطاني الله إيّاها، لمتابعة النضال المرير الذي يُرهق الجبال، فكيف وأنا في هذه السن، وعائلتي تشفق عليّ، زوجتي وأولادي، والبعيدون منهم يبكون، إلا أنّ تمّام يساعدني حقاً.
وأذكر أنّه في الرابع والعشرين من يونيو 1982، اجتمعت مع أبو عمّار وأبو الوليد وهاني الحسن، بعد أن عدت من زيارة الرئيس الوزّان الذي شرح لي ما تداوله مع حبيب وجوني عبده.
وكان الوزّان غير متأكّد من أنّ المقاومة على استعداد لترك لبنان، وهذه النقطة لا يستطيع أن يناقشها مع حبيب، فهو لا يتحمّل مسؤوليتها، لا تجاه نفسه ولا تجاه التاريخ، أو تجاه من سيحاسبه فيما بعد. وكان خائفاً من الاغتيال ومن موقفه من الفلسطينيين، لذلك قلت للمجتمعين عندي: «يا أبو عمّار، اجمع رؤساء فصائل المقاومة كلهم، بمن فيهم حبش وحواتمة وجبريل وغيرهم، واكتبوا محضراً بأنّكم على استعداد لترك لبنان، ووقّعوا المحضر ثمّ ضعه في جيبك لتسلّمه للوزان، والوزّان أمين وصادق ووطني، وسيحفظ ذلك، فعندما يمكنه أن يذهب إلى حبيب وغيره، يكون مركزه قويّاً، من دون أن يعطيهم هذا المحضر، هو لن يكشفه؛ لكن كي يستطيع بحث الشروط الأخرى، سيكون موقفه أقوى. نعم الوزّان يريد أن يضمن ذلك، ومن ناحية أخرى لا يريد أن يؤخذ عليه أنّ الفلسطينيين إذا انسحبوا من لبنان فسيتركون السوريين وراءهم ليعلنوا أنّهم خُذلوا، فيصيرون وحدهم الأبطال». ثمّ نقلت الأمر كله في اتّصال مع حبيب، وهم يستمعون، قائلاً له: «هناك نقطة للبحث، هي الانسحاب، أي انسحاب السوريين والفلسطينيين والإسرائيليين، فلنترك الإسرائيليين ولنبحث عن انسحاب الآخرين، وأنت يا مستر حبيب دبّر الأمر مع السوريين، وقد يكون ذلك بواسطة أميركا».
فوافق حبيب معي؛ لأن هذا الأمر ليس من شأني أو من شأن الفلسطينيين، أنا أريد أن يكون ظهر الفلسطينيين محميّاً، فلا نكشفهم وطنياً.
وقد عرفت من أبو عمّار، فيما بعد، أنّه علم أنّ الأميركان لا يريدون أن يكون الفرنسيون هم الواسطة بينهم وبين «المقاومة الفلسطينية»، وهم يفضّلون أن يكون صائب سلام هو الوسيط، فأجبته بأنّني لست الوسيط، أنا أساعدكم، وأنصحكم ألا تقطعوا علاقتكم بالفرنسيين.
- في تفاصيل الاتفاق مع الفلسطينيين
أذكر أنّ ميشال أبو جودة، حين علّق في «النهار» تحت عنوان: «رئيس جمهورية بيروت»، شرح طويلاً الوضع الدولي في مقال قال في نهايته: «إن صائب سلام هو رئيس جمهورية بيروت، وإنّ أي حلّ لقضيّة بيروت ينطلق لحلّ قضيّة لبنان ثمّ قضيّة الشرق الأوسط بأسره. وأما إذا هُدمت بيروت أو حوصرت، فسيذهب لبنان بأسره، ولن يكون هناك سلام في المنطقة». وقد توافقت نظرة أبو جودة مع نظرتي.
وفي هذا الإطار، كانت اتّصالاتي بحبيب وبالمقاومة مستمرّة؛ خصوصاً بعد أن كتب ووقّع القياديون في المقاومة محضراً بأنّهم سيخرجون من بيروت، وكان هاني الحسن يزورني، وأنا أجده أعقل الفلسطينيين؛ لأنه يحلّل تحليلاً صحيحاً، فأستعين به على أبو عمّار.
طلب منّي حبيب أن أسألهم إلى أين يريدون أن يذهبوا، فسألت هاني، فلمّح إلى أنّهم حتّى اليوم يدرسون الذهاب إلى سوريا، ولكنّهم لا يريدون أن يعلنوا ذلك، فأجبت حبيب بأنّه أصبح الآن من الضروري وضع تصوّر شامل للموضوع وبرمجته، حينئذ أجد ما هو الحدّ الأقصى وما هو الحدّ الأدنى بين الفريقين فنتدخّل لتسوية الأمور. وقد رأيت من الضروري أن أوجّه برقية إلى السعوديين بواسطة علي الشاعر، وإلى الأمير سعود الفيصل فأطلعهما على كلّ ما جرى، وأعطيهما نصّ الوثيقة التي سلّمنا إيّاها أبو عمّار، مع رأيي في النقطتين المثارتين، واحدة من قبل حبيب بأنّه يريد أن يعرف إلى أين سيذهب الفلسطينيون، والثانية أنّ الفلسطينيين يريدون أن يعرفوا شيئاً عن القوّة الدولية؛ لأن الوزير الفرنسي سبق أن قال لي إنّ ذلك يمكن أن يتمّ خلال 48 ساعة، فهنالك «القوات الدولية» الموجودة في الجنوب التي يمكنها أن تحضر سريعاً، ودول أخرى مثل فرنسا وأميركا تريد أن تبعث بجيوشها، ولكنْ هنالك تضارب بين النظرة الفرنسية والنظرة الأميركية، فالأميركيون لا يريدون أن يتركوا دوراً للفرنسيين ليقوموا به في إنقاذ بيروت ولبنان.
وقد تابعت الحديث مع حبيب، ووجدت من الضروري أن أعطيه بصورة خاصّة مكتومة بيني وبينه نصّ المذكّرة التي وقّعها أبو عمّار، ليكون على بصيرة فيما يقوم به. وبعد أن درسها سألني ماذا يقصد الفلسطينيون بقوّة عربية دولية، أو دولية، قلت له هم يتمنّون قوّة عربية دولية، ولكنّهم يقبلون بقوّة دولية.
كذلك حين كلّمني، في هذا الإطار، جوني عبده، بعد غياب طويل، وكلّمني رئيس الجمهورية، أصررت على أنّ الأمر صار متوقفاً عليهم ليضعوا التصوّر المطلوب، بالسرعة الممكنة، وفيه برمجة لكلّ الأمور...
في هذه الأثناء، كما أذكر، طرأ شيء جديد، وهو ما سُمّي «المبادرة الفرنسية الجديدة»، إذ إنّ سفير فرنسا أتى فأبلغ رئيس الجمهورية ورئيس الوزارة، بأنّ الحكومة الفرنسية قبلت من حيث المبدأ أن ترسل جيشاً من ضمن جيش دولي، ليساعد على إخراج الفلسطينيين من البلاد.
حبيب والأميركان ما زالوا واقفين وقفة غير معقولة بتاتاً. هم يقولون إنهم لبَّوا طلب «المقاومة الفلسطينية» الذي أتاهم بواسطة حكومة لبنان، فقرّر ريغان إرسال قوّة من «المارينز» لبيروت لهذا الغرض، ثمّ حبيب يقول إنّ هذه القوّة لن تدخل بيروت أو لبنان إلا بعد ذهاب الفلسطينيين كاملاً، إذن فلماذا تأتي؟
وفي اتّصالاتي بحبيب، بعد طرح هذه المبادرة، وجدت سبيلاً للأخذ والردّ بيننا، وخصوصاً أنّه يكلّمني دائماً ويعتبرني «أخاً كبيراً» ويقول لي: «أنا اعتمد على نصائحك وآرائك»، وشعرت بعد استعماله كلمة «كونسلتيشن» (consultation) أنّ هناك مجالاً للتداول، فنويت أن ألقاه ونتحدّث.
في هذا الوقت اتّصل بي الشيخان الأميركيان دود ورفيقه الذي إلى جانبه ولم أكلّمه، وكانا في مكتب جان رياشي السفير في الخارجية، فقلت لهما إنّني لا أذهب إلى الشرقية ولا إلى المجلس، فتحدّثنا حوالي ثلث ساعة، وكان الحديث حامياً. طبعاً، مع شيخ أميركي أكلّمه لأول مرّة، وقد اضطُررت إلى أن أنبش تاريخنا مع أميركا من أوله إلى آخره، وحدّثته عن التناقض فيما يقولونه اليوم: «أنتم تقولون إنكم بناءً على طلب المقاومة تأتون بالجيش الأميركي لمساعدتها على الخروج، ثمّ تقولون: لن يأتي هذا الجيش إلا بعد خروجها، فما هذا التناقض الذي لا نقبله. كلّ مصالح أميركا ستذهب إلى الخراب المطلق، ما دمتم تحت تأثير الصهيونية»، وقلت له: «إنكم إذا قضيتم –وهذا ما أردّده دائماً للتلفزيون الأميركي على أنواعه يومياً وللتلفزيون الألماني والفرنسي وغيره– إذا قضيتم على هذه القيادة العاقلة والواعية والمعتدلة من المقاومة فستكونون قد قمتم بشرّ الأعمال، إذ ستنشأ هنا وهناك، وفي كلّ الأقطار العربية، جماهير من (المقاومة الفلسطينية) في غاية التطرّف، وستكون إرهابية في جوهرها وعملها، وستُطعنون في صميم مصالحكم، ولن يكون هناك سلام في المنطقة، حتى ولا لقوّة إسرائيل التي لم تعد قادرة على أن تسيطر على العالم العربي بأسره. إسرائيل أنتم تؤيّدونها بالمال، مالكم مال دافع الضرائب، وأنتم تؤيّدونها بسلاحكم، حتى بالقنابل الفوسفورية، وحتى بالقنابل العنقودية، وتؤيّدونها سياسياً، وهي بهذا التأييد الأعمى يكون دورها فقط أن تهاجم وتعتدي وتتوسّع وتسيطر، وهذا ليس في مصلحة أميركا بالنتيجة».
- أغسطس (آب) 1982: القصف المجنون
ابتداءً من أول أغسطس، فُتحت أبواب جهنّم على بيروت، وشاهدنا وعشنا أضعاف ما شاهدناه في السابق، فمن الصباح إلى المساء كان القصف الإسرائيلي جواً وبحراً وبرّاً متواصلاً بشكل غريب. في الواقع يمكن أن أسمّيه جهنّم وأبوابها مفتوحة. كنا في بيت أختي فاطمة، فنزلنا إلى الطابق التحتاني؛ حيث اعتقدنا أنّ العقد يحمينا أكثر من البقاء في الطابق الأول، ولم يكن هناك إنسان يتحرّك على الطريق خلال تلك الساعات، كنا نسمع القنابل تتساقط حولنا وتأتينا بعض شظاياها، إلى أن وقعت اثنتان منها عندنا في البيت الملاصق لبيتي، وهو المكتب الذي أضع فيه كلّ أوراقي وملفّاتي، وواحدة انفجرت فخرقت السقف الذي تحت أرض الغرفة على مسافة 60 سنتيمتراً من العقد، إذن، لو أتى شيء من فوقنا لا سمح الله لهُدم البيت على رؤوسنا.
خرجنا من هذه المحنة، وصعدنا إلى الطابق الأول والثاني، وفي اعتقادنا أنّنا لن نرى شيئاً منه سالماً، ولكن الحمد لله أنّ للبيت ربّاً يحميه، وهذا ما كان يردّده هاني الحسن عندما كانت الأوضاع تتأزم وتتساقط القنابل من حولنا، فيقول: «سبحان الله، وكأنّ لهذا البيت شيئاً يحرسه وهو قائم بشموخه بين البيوت الملاصقة».
كنت خلال هذه الأزمة، قد مددت خطوطاً هاتفية إلى الطابق السفلي، مباشرة وغير مباشرة، لأبقى على اتّصال دائم برئيس الجمهورية، فأضغط عليه كثيراً ليطلب جميع سفراء الدول ويطلعهم على ما يجري، وكان يتردّد ويقول إنّه ليس بإمكانه أن يتواصل مع أحد؛ لكنه بعدها قابل تقريباً جميع سفراء الدول الممثّلين في هيئة الأمم، وفي مجلس الأمن.
وكذلك كنت على اتّصال بالوزّان، واتّصالي الأكثر كان مع غسّان تويني في الأمم المتّحدة، للتشاور معه في كيفية تقديم الشكوى إلى مجلس الأمن، وماذا يكتب فيها؛ لأنه في الواقع كان قد أعلن أنّه طلب المراقبين، وهو ليس مطلب الحكومة، وبعد حوار طويل قال لي: «إن الجميع يتشاورون في الغرفة المقفلة»، فقلت له: «وهذه العجوز الشمطاء مندوبة أميركا؟»، قال: «ربما تسايرنا»، وإذا وهو يتحدّث يقول: «اسمع اسمع لقد خرجتْ»، ثمّ قال لي: «لقد وافقت على القرار»، وهذه أول مرّة توافق فيها أميركا على مثل هذا القرار في طلب وقف إطلاق النار، وتوافق على إرسال المراقبين الدوليين، وهو موقف يُعتبر من جانبها موقفاً عدائياً، أو غير ودّي، تجاه إسرائيل.
وأذكر أنّه بعد خروجنا من هذه المحنة أتتني وفود كثيرة تهنّئني بالسلامة بعد أن سمعوا بإصابة مكتبي، وكان منهم أبو عمّار وهاني الحسن.
وأذكر بعد هذا اليوم المجنون، أنّني ذهبت في جولة لأتفقّد الأماكن المصابة أكثر من غيرها في البلد، فذهبت إلى كورنيش المزرعة وجنوبه، وبقيت ساعتين أجول في تلك المنطقة التي سمّيتها حقاً مدينة أشباح، فهي تكاد تكون خالية من السكّان، خالية من كلّ روح، فيها التهديم والحرائق، ومع الأسف، كلّ ما يدمي الفؤاد. وكان يرافقني فريق من التلفزيون الأميركي وغيره، ومن التلفزيون اللبناني أيضاً، وقد صوّروا كثيراً وسجّلوا تعليقي، ثمّ عقدت مؤتمراً صحافياً حين أنهيت الجولة في مكان إقامة فريق «المقاصد» للدفاع المدني، أولئك الشباب الذين يُدخلون العزة والطمأنينة ويعزّزون الإيمان إلى نفسي، أولئك الشباب المتطوّعون الذين يرمون بأنفسهم منذ شهرين وأكثر أمام الجميع، ليطفئوا الحريق هنا أو هناك، ولإنقاذ الأشخاص من تحت الركام، وانتشال الجثث والإتيان بها إلى مستشفى «المقاصد»، وهو ما يشجّع الإنسان على إبقاء الحياة في هذا البلد، رغم كلّ ما يصيبنا من بلايا ورزايا.
وأذكر أنّ ما قلته باللغة العربية في المؤتمر الصحافي هذا، بثّه التلفزيون اللبناني، وما قلته بالإنجليزية تلقفه المراسلون الأجانب وأرسلوه لوكالاتهم وتلفزيوناتهم. وقد أكّد لي كلوفيس مقصود، فيما بعد، أنّ حديثي كان ممتازاً، وهو ضروري جداً لأميركا والأميركيين، فارتحت لسماع ذلك. أما المراسلون هؤلاء فقد أخبروني أنّهم كانوا قد شاهدوا الإسرائيليين يحشدون دباباتهم عند المتحف، وهي أكثر من 80 دبابة، وأنّهم استولوا على المرفأ، وهم يتجمّعون هناك بقوى كبيرة، كما يحاولون الدخول من منطقة الأوزاعي والمطار وبرج البراجنة، إذن هم يطوّقون بيروت ويشدّدون الخناق عليها، ليصلوا إلى قلب العاصمة ويدمّروها.
تبادلت الحديث مع حبيب في هذا الأمر، فطلب أن أتّصل بالمقاومة ليوقفوا إطلاق النار من جهتهم، وكنت مقتنعاً بأنّ الإسرائيليين هم الذين يخرقون وقف إطلاق النار؛ لكنني اتّصلت بأبو جهاد، وحبيب نقل الأمر إلى واشنطن، وقال لي مؤكّداً إنّ أميركا لن تقبل باجتياح بيروت، وأنا لم أعد أثق بأميركا، وأعتقد أنّ ريغان ومواقفه لا تؤثّر، أو لا يريد لها هو أن تؤثّر، على إسرائيل، لوقف عملها العسكري في بيروت.
اتّصلت برئيس الجمهورية، كما أذكر، وكنت عنيفاً معه، قلت له: «أنت رئيس البلاد ومفروض أن تعيش مع أبناء عاصمتك، وتقاسي ما يقاسون من إرهاق تحت القصف العشوائي الوحشي المتواصل، وهم من دون ماء ومن دون كهرباء، والأمراض بدأت تتفشّى... وهم من دون أدوية والكلّ يصرخون، حتى إنّ الإسرائيليين منعوا (الصليب الأحمر) بالذات من إدخال الدواء»، وطالبته بأن يرسل جيشاً من مائتي نفر أو أكثر إلى محطّة المياه وإلى محطّة توليد الكهرباء، فيفرض تسلّمهما، وليقابله الإسرائيلي بالعنف، فيفهم العالم أنّك تحافظ على أرواح أبناء بلدك، فكان أول الأمر مستفهماً، ثمّ قال أخيراً: «خيراً، سنجري اللازم»، فقلت له: «يجب أن تجري اللازم»، وأعتقد أنّ عنفي معه كان إلى أبعد الحدود.
وللأسف، لم تمضِ ساعات على هذا الاتّصال، حتى أتت طائرتان فجّرتا بناية بأكملها، طبعاً عرفت فيما بعد أنّها كانت مكاناً للقيادة الفلسطينية، فطبّقت سبعة طوابق على من فيها، ويقولون إن هنالك مئات الضحايا، فاتّصلت بحبيب لأنّه أصبح لدي هاتف جيد الآن، مددت شريطه من مكتب «المقاصد» إلى بيتي على بعد 1200 متر، وقد عانينا كثيراً في إيجاد الشريط اللازم، فأخذ علماً وخابر واشنطن فوراً.
ولم أعد أحصي الساعات التي أمضيتها في الملجأ، تحت العقد، ونحن نسمع القذائف تنهمر على بيروت، وفي كلّ مرّة أتّصل بحبيب، وهو يقول لي: «فتّش عن القيادة الفلسطينية وأخبرهم بضرورة وقف النار»، وأنا أجيبه بأنّ الإسرائيليين هم الذين يقصفون البلد في كلّ أرجائه، الجنوبية، وقلب بيروت... من كورنيش المزرعة إلى الحمّام العسكري، والله يمنّ علينا بأنّنا لم نُصب بسوء، ولكن هناك ضحايا كثيرة غير الدمار والخراب.
وذات مرّة، بعد سقوط قنابل كثيرة، أخبرني حبيب أنّ وقف إطلاق النار سيكون سريعاً، ذلك أنّه اتّصل بواشنطن، وعرف أنّ الرئيس الأميركي ريغان اتّصل ببيغن، وطلب منه إيقاف إطلاق النار، فاجتمع بيغن بالوزارة الإسرائيلية، ثمّ أبلغ ريغان بأنّهم أمروا بوقف النار، فبثّت إذاعات العالم أنّ ما أبلغه ريغان لرئيس الوزارة الإسرائيلية كان إنذاراً، فأعدت الاتّصال بحبيب وشكرته.
- وداع أبو عمّار
طبعاً كانت علاقتي بالإعلام مستمرّة، زيارات ومقابلات، وقضيّة الانتخاب وقضيّة المقاومة حاضرتان دائماً. وكان عندي تقي الدين الصلح ووليد جنبلاط ونبيه برّي، حين حضر إليّ الوفد الاشتراكي الأوروبي، فدعوت الجميع للغداء، وكان الكلام صريحاً مستفيضاً عن أوضاع لبنان وأوضاع العالم العربي والقضيّة الفلسطينية، وقد طلبوا الاستماع إلى رأيي بعد أن قابلوا شخصيات كثيرة ورسميين. كان الاجتماع ناجحاً، وأكثر الكلام كان لي، إذ كنت أفسّر لهم كلّ الأمور، وهم يستوضحون كلّ شيء. وقد طلبنا منهم أن يسعوا جهدهم كقوة اشتراكية دولية؛ خصوصاً وهم اليوم في مراكز الحكم في بلدان أوروبية كثيرة، ليدركوا أنّ «لبنان أصبح قضيّة كالقضيّة الفلسطينية، لا يمكن إهمالها».
وأعتقد أنّ هذا الاجتماع سيكون له تأثير فاعل، آمل أن نستفيد منه في تحرّكنا المقبل.
وتحضيراً لانسحاب الفلسطينيين جاءني هاني الحسن، وخرج وهو ينوي أن يعود ثانية لوداعي. كذلك جاءني أبو عمّار، ومعه أبو جهاد، وكان قد طلب منّي أن أعمل لتأخير انسحابهم، فاتّصلت بحبيب الذي قال إن ذلك لا يمكن إطلاقاً، ولكنّه سيرتّب الموضوع ليكون ذهاباً مأموناً خلال 24 ساعة أو يومين.
تحدّثت مع أبو عمّار كثيراً في سياسته المستقبلية، ونصحته بأن يترك الأمور الصغيرة وينتقل لحمل مسؤوليات كبيرة، فالفلسطينيون صار لهم شأن كبير في العالم، ولهم مندوبون في حوالي 65-70 دولة، بما يشبه السفراء، وهم يمكنهم أن يمثّلوا قوة دعائية كبيرة، وفي أميركا هناك قوّة فلسطينية من أغنياء ومثقفين، كانوا قد اجتمعوا في لندن، ووضعوا مبلغاً كبيراً مبدئياً، ربما مائة مليون دولار، للقيام بالدعاية فيها. وقد تأثّرت كثيراً بالمقابلة، وصرت أشعر بأنّ أهل بيروت رغم ما قاسوه يعطفون عليهم عند انسحابهم، وأنّ ما نطلبه هو تعزيز قضيّتهم، فنحن نؤيّدها، ونجدها مفيدة لهم ولنا نحن المسلمين في لبنان، وأنّ الضرر سيقع علينا إذا خرجوا مذلولين لا سمح الله.
وبعد يومين، أذكر أنّه أتى إليّ أبو عمّار، وقد جاءني مودّعاً، كان مساءً مؤثراً، قلبي معه، أعدت البحث؛ بل النصيحة المستمرّة، أولاً ليخرج مشجّعاً، وثانياً ليعتبر أنّه لم ينكسر كاملاً، وهذا ما كنت أردّده على الصحافة العالمية من أوروبية وأميركية كلّ يوم، وأنّ عليه أن يغيّر خطّته كاملة، فهو لم يعد في حرب عصابات ولم يعد مقاومة عسكرية؛ بل أصبحت قضيّته قضيّة نضال سياسي، إذن عليه أن يكون رجل دولة بكلّ معنى الكلمة، ينفض عنه غبار كلّ الماضي، وكلّ الممارسات الماضية، ويتّخذ صفة رجل الدولة بهيئة جديدة، ليتصرّف بالقضيّة التي أصبح لها مجال عالمي واسع، وشعبية مؤيّدة من أكثر شعوب العالم.
وقد اعتصر قلبي في ساعة الوداع هذه، حتى زوجتي تميمة دخلت علينا المكتب، وهي لم تفعل هذا من قبل مع أحد، وأحبّت أن تودّعه، فقبّل يدها تقبيلاً حارّاً والدمعة في عينيه، وقال لها: «أقبّل هذه اليد عن جميع نساء بيروت البطلات اللواتي صمدن معنا!». وكانت التلفزيونات العالمية كثيرة عند الباب ونحن خارجان، وبعد أن نزل السلّم، لحقته إلى الأسفل، مُغيّراً عادتي بأن أودّعه على باب المصعد، فأوصلته إلى سيّارته، وقد دمعت عيناه، وأنا تأثّرت تأثّراً عميقاً. كان الله في عونه.
- وجاء يوم مغادرة الفلسطينيين
أذكر أنّه كان يوم الاثنين في 30 أغسطس 1982، حين زار أبو عمّار رئيس الوزراء، ومن هناك توجّه معه إلى المرفأ؛ حيث كان مرافقوه وسط حشد كبير.
وقد نزلت أنا وتمّام وتقي الدين إلى المرفأ، وكان هناك عدد كبير من المودّعين، ومنهم المفتي، والرئيس الحصّ، ورشيد الصلح، ومالك سلام، والبربير، والحركة الوطنية بكاملها، مع وليد جنبلاط، وهناك اختلط الحابل بالنابل عند مدخل الباخرة اليونانية، وقد أتى من «الحركة الوطنية» محسن إبراهيم وجورج حاوي، وأنا لم أكن على علاقة طيّبة معهما، فتقصّدا من بعيد أن يأتيا لمصافحتي، فلم أر بُدّاً أمام الناس من مصافحتهما، ثمّ صعدنا إلى الباخرة، وكان هناك اجتماع في قاعة الاستقبال؛ حيث الرئيس الوزّان يمثّل فخامة رئيس الجمهورية، ومعه رينيه معوّض، وقد ألقى أبو عمّار كلمة مؤثّرة، ثمّ قدّم رسالة للوزّان، ووساماً لبيروت باسم القائد العامّ للمنظّمة... «منظّمة التحرير الفلسطينية»، سمّاه «وسام صمود بيروت» وقد أجابه الوزّان بكلمة طيّبة أيضاً ومؤثّرة، وقال له: «لأول مرّة نزيد على التقاليد في لبنان، فأنا أمثّل رئيس الجمهورية، وكذلك يمثّله معي الزميل وزير التربية رينيه معوّض، أي أنّ لبنان المسيحي والمسلم يودّعك اليوم».
كنت راضياً تماماً عن هذا الوداع؛ لأنه في الواقع أتاح للأخ أبو عمّار، ومن خلال شخصه للمقاومة الفلسطينية، مغادرة مشرّفة كريمة، وما لفت نظر الجميع أنّ الأميركيين، مع أنّهم يرفضون الاعتراف بالمنظمة الفلسطينية، كانوا يحرسون الطرق من المركز التجاري إلى المرفأ، على الجانبين، كما حرسوا أبو عمّار ببوارجهم في البحر. إذن، هذا اعتراف غير مباشر، فقد كانت الباخرة اليونانية بحماية الأسطول الأميركي والأسطول الفرنسي.
زيارة لمذكرات رئيس الوزراء اللبناني الراحل صائب سلام (1): صارحت حافظ الأسد بمآخذي على دور سوريا السياسي والعسكري في لبنان
زيارة لمذكرات رئيس الوزراء اللبناني الراحل صائب سلام (الأخيرة): موقف القاهرة السلبي من عودة فؤاد شهاب للرئاسة دفعه إلى العزوف عن الترشح


مقالات ذات صلة

بومبيو في مذكراته: بوتين «فظ»... وشي «غشاش»

تحقيقات وقضايا الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال لقائهما في القصر الرئاسي في هلسنكي في 16 يوليو 2018 (أ.ب)

بومبيو في مذكراته: بوتين «فظ»... وشي «غشاش»

كشف وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو، جوانب لم تكن معروفة من المقاربة التي اعتمدتها إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب، لتطبيع العلاقات بين عدد من الدول العربية وإسرائيل. ووصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنَّه «فظ»، واعتبر أنَّ الرئيس الصيني «غشَّاش». وأوضح في مذكراته «لا تعطِ أي بوصة..

علي بردى (واشنطن)
شؤون إقليمية السيارة التي كان يستقلها سليماني مشتعلة بعد استهدافها بصواريخ أميركية قبل عامين (أ.ف.ب)

بومبيو: طهران معقل «القاعدة»... وهكذا قتلنا سليماني

اعتبر وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو في مذكراته «لا تعطِ أي بوصة، القتال من أجل أميركا التي أحب»، أنَّ النظام الإيراني الذي أسسه الخميني عام 1979 ما هو إلا «تنظيم إرهابي» يتَّخذ «هيئة دولة» لديها «حدود دولية» و«عملة إلزامية»، متهماً إياه برعاية جماعات مثل «حزب الله»، و«الجهاد الإسلامي»، و«حماس»، و«جماعة الحوثي»، سعياً إلى إقامة «هلال شيعي» يشمل العراق وسوريا ولبنان واليمن. وذهب بومبيو إلى أنَّه لا فرق بين إيران وتنظيمات مثل «القاعدة» التي يوجد «معقلها الرئيسي في طهران وليس في تورا بورا بأفغانستان». وكشف تفاصيلَ مثيرة عن عملية صنع القرار الذي أدَّى إلى استهداف قائد «فيلق القدس» لدى «

علي بردى (واشنطن)
تحقيقات وقضايا صدام وأفراد عائلته (إلى يساره عدنان خيرالله أخو زوجته ساجدة)، وفي الصف الثاني (يمين) حسين كامل زوج ابنته رغد (أ.ف.ب./غيتي)

الحلقة الثانية... أكد صدام أن بغداد مطوقة بأسوار دفاعية... لكن الدبابات الأميركية كانت على أبوابها

تنشر «الشرق الأوسط» اليوم الحلقة الثانية من كتاب الدكتور محمد مهدي صالح الراوي، وزير التجارة العراقي السابق، «درء المجاعة عن العراق - مذكراتي عن سنين الحصار 1990 - 2003» (الذي يصدر قريباً عن دار «منتدى المعارف»). ويتناول الراوي مرحلة الانتفاضة ضد حكم الرئيس السابق صدام حسين، إثر خروجه مهزوماً من حرب تحرير الكويت، متهماً الإيرانيين بـ«الغدر» بالعراقيين بعدما وعدوهم بالوقوف إلى جانبهم إذا هاجمتهم أميركا، فإذا بهم يدعمون الثورة ضد حكم الرئيس العراقي.

كميل الطويل (لندن)
المشرق العربي صدّام لحسين كامل: صواريخك لا قيمة لها إذا جاع الشعب

صدّام لحسين كامل: صواريخك لا قيمة لها إذا جاع الشعب

يكشف محمد مهدي صالح الراوي، وزير التجارة العراقي السابق، في كتاب جديد عنوانه «درء المجاعة عن العراق - مذكراتي عن سنين الحصار 1990 - 2003»، تنشر «الشرق الأوسط» اليوم وغداً مقتطفات منه، تفاصيل الجهود التي قام بها على رأس وزارته للتصدي للعقوبات التي فُرضت على العراق في أعقاب غزوه الكويت عام 1990 واستمرت حتى الغزو الأميركي للعراق عام 2003. ويتحدث الراوي بصراحة لافتة عن الخلافات التي كانت تعصف بنظام حكم صدام، وجزء منها مرتبط بالفريق حسين كامل، زوج ابنة الرئيس، قبل انشقاقه عام 1995.

كميل الطويل (لندن)
تحقيقات وقضايا جنود عراقيون يحتفلون بـ«الانتصار» في الحرب ضد إيران يوم 20 أبريل 1988 (أ.ف.ب)

الحلقة الأولى... علي صالح لصدام: الحرب واقعة... والهدف تدمير الجيش العراقي

يقدّم الدكتور محمد مهدي صالح الراوي، وزير التجارة العراقي السابق، في كتابه الجديد «درء المجاعة عن العراق – مذكراتي عن سنين الحصار 1990 – 2003» (الذي يصدر قريباً عن دار «منتدى المعارف»)، رواية مفصلة عن الجهود التي قام بها على رأس وزارته للتصدي للعقوبات التي فُرضت على العراق في أعقاب غزوه الكويت عام 1990 واستمرت حتى الغزو الأميركي للعراق عام 2003.

كميل الطويل (لندن)

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.