عندما تنهار أسطورة صدام الحضارات في كييف

بوتن أعلن الحرب على أوكرانيا بخطاب خال من صدام الحضارات (أ.ب) - صمويل هينتنغتون (رويترز)
بوتن أعلن الحرب على أوكرانيا بخطاب خال من صدام الحضارات (أ.ب) - صمويل هينتنغتون (رويترز)
TT

عندما تنهار أسطورة صدام الحضارات في كييف

بوتن أعلن الحرب على أوكرانيا بخطاب خال من صدام الحضارات (أ.ب) - صمويل هينتنغتون (رويترز)
بوتن أعلن الحرب على أوكرانيا بخطاب خال من صدام الحضارات (أ.ب) - صمويل هينتنغتون (رويترز)

يقال الكثير، يومياً، عن الحرب الدائرة بين أوكرانيا وروسيا: أحداثها ودوافعها ومآلاتها، وما ستغيره من أوضاع في العالم كله. ليس هذا المقال خوضاً في هذه المواضيع، ولا استشرافاً للنتائج، بل يودّ أن يطرح سؤالاً بعيداً عن صخب الحرب، وإن لم يكن منفصلاً عنها: ما الأثر الأكثر عمقاً الذي ستتركه في الثقافة البشرية، بصرف النظر عن نهاياتها الممكنة، عسكرياً وسياسياً؟
يبدو الجواب كالتالي: هذا الأثر هو انهيار أسطورة صدام الحضارات. هذه الأسطورة ظلت توجه الثقافة العالمية منذ أكثر من ربع قرن، لا سيما منذ 1996، تاريخ صدور كتاب عالم السياسة الأميركي صمويل هنتنغتون الذي حمل هذه العبارة عنواناً له. استُبطنت هذه الأسطورة في كل الثقافات. العالم المهيمن رأى فيها تبريراً أخلاقياً لهيمنته على الآخرين عندما افترض أنّ الآخرين أشرار يتربصون به الدوائر ويسعون لإسقاطه (هذه كانت إحدى أطروحات هنتنغتون في كتابه المذكور). والعالم المهيمَن عليه رأى فيها تبريراً لرفض الإصلاح والتغيير، بحجة أنه مطلب يأتي من الخارج بقصد بسط الهيمنة، حتى إنّ الفيلسوف العربي الكبير محمد عابد الجابري ردّ على نظرية صدام الحضارات بكتاب عنوانه «في نقد الحاجة إلى الإصلاح» (صادر سنة 2005)، ومن أطروحاته الأساسية التخلي عن مقولة الإصلاح لأنها أصبحت مطلباً صادراً من الغرب. بقينا في هذا الجدل العقيم أكثر من ربع قرن، لا نحن نصلح حالنا ولا نحن نرفع الهيمنة عنا، ولا الآخر يصلحنا ولا هو راغب في أن يرفع هيمنته عنّا.
والواقع أن أطروحة صدام الحضارات لم ترسخ لقوة استدلالاتها ووضوح مفاهيمها وعمق مضامينها، بل رسخت بسبب أحداث كبرى بدت كأنها تنبأت بها قبل وقوعها، أو أنها قدّمت التفسير الأفضل لها، وكان من أهم تلك الأحداث ما دعي بحربي الخليج الثانية والثالثة، أي التدخل العسكري الغربي في العراق من 1990 إلى 2003، وعلى وقعها كتب فيلسوف عربي آخر، مهدي المنجرة، كتاباً عنوانه «الحرب الحضارية الأولى»، وفيه قرأ غزو صدام حسين للكويت، بالضبط مثلما يقرأ البعض اليوم حرب فلاديمير بوتين على أوكرانيا، على أنه عمل دفاعي، وأرخ بذلك الغزو ورد الفعل الغربي عليه بداية مرحلة جديدة رآها مرحلة «العصيان» على الغرب، مستبطناً أسطورة صدام الحضارات مع توجيهها ضدّ الطرف المهيمن.
لكن صدام الحضارات مجرد أسطورة، يستوي أن تستعمل لفائدة الطرف المهيمن أو الطرف المهيمن عليه. وما كان ضرورياً للفكر العربي أن يشغل نفسه بالتفكير على أساسها، ولا أن يخصّ كتاب هنتنغتون بأكثر من ترجمة إلى العربية، مع أن كتباً أخرى أهم في الفكر الحديث لم تجد سبيلها إلى الترجمة إلى حدّ الآن. وما كان للفكر العربي أن يرى نفسه مضطراً للاختيار بين أطروحة صدام الحضارات والأطروحة الأخرى المنافسة لها، أطروحة «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» التي سبق بها قبل سنوات فرنسيس فوكوياما، فهي أيضاً أسطورة.
وعلى كلّ، فإن الحرب الدائرة في أوكرانيا اليوم، قد أسقطت أمام أعين الناس مقولة صدام الحضارات، لأنها حرب بين جارتين تنتميان إلى دين واحد (المسيحية)، بل إلى مذهب واحد داخل الدين (الأرثوذكسية) وثقافتهما واحدة (الروسية) وتاريخهما واحد (كييف، عاصمة أوكرانيا حالياً هي العاصمة التاريخية للأمة الروسية ولإمبراطوريتها الأولى)، والحدود بينهما كانت مفتوحة وملايين الروس قضوا عطلهم في أوكرانيا. ومع ذلك فقد حصلت الحرب، مثلما أن حرب الخليج الثانية لم تكن حرباً حضارية، لأنها بدأت بغزو الكويت التي تنتمي مع العراق إلى الحضارة ذاتها.
ليس هنا مجال السؤال: لماذا اندلعت الحرب في أوكرانيا؟ فهذا السؤال يحيلنا إلى التحليل السياسي، غير أن كل الذين تابعوا الخطاب المطوّل الذي ألقاه الرئيس الروسي قبل ساعات من الحرب، مقدماً تبريراته لها، يتفقون على أنه خطاب آتٍ من ماضٍ بعيد، لا أثر فيه لصدام الحضارات، ولا حتى لأصداء الحرب الباردة، بما أنه وجّه نقداً عنيفاً للفترة السوفياتية. إنه خطاب آتٍ من ماضي الصراعات القومية في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، حيث كان طبيعياً أن تبرَّر الحروب بمقولة العمق الاستراتيجي والأمن القومي. وهذه المقولة هي التي بررت الحروب آنذاك، بما فيها الحربان العالميتان الأولى والثانية، وبلغت مدى لم يتخيل البشر فظاعته مع النازية، ثم بدا أنها سقطت مع سقوطها بسبب الهول الذي أحدثته في الضمائر البشرية.
في النهاية، لماذا تقوم الحروب؟ للمصلحة أولاً. الحرب الباردة لم تكن مواجهة بين الإمبريالية والاشتراكية، كما أراد لها لينين أن تكون، بل بين إمبريالية بقيادة الولايات المتحدة وأخرى بقيادة الاتحاد السوفياتي. والنظام العالمي الجديد، الناشئ بعد الحرب الباردة، فتح المواجهة بين أقطاب جيو - اقتصادية جديدة، حيث روسيا هي القطب الأضعف لأنّ اقتصادها ظل تقليدياً يعتمد على تصدير المواد الخام، لذلك كانت الطرف المبادر باستعمال الحرب، لأنها لم تعد قادرة على المواجهة الاقتصادية. أما الغرب الذي يتشدّق بالديمقراطية والتعددية والاختلاف، فإنه يؤكد مجدداً، أنه لا يقبل أن توجد قوة غير منخرطة في اقتصاده المعولم ورؤيته في التوزيع العالمي للمصالح.
ثم بعد المصلحة، يمكن أن تقوم الحرب من أجل العقيدة، ويمكن لتمثلات ثقافية معينة أن تكون دافعاً للحرب، أو تُتخذ ذريعة لتواصلها حتى بعد انتهاء المصلحة. وضمن هذا الصنف يمكن أن نصنف الحروب الدينية قديماً، أو المواجهة المعاصرة بين العرب وإسرائيل، حيث يستمر الصدام حتى بعد انتفاء المصلحة منه.
وعلى هذا الأساس، لا فائدة من نظرية صدام الحضارات، فهي لم تفسر شيئاً في النظام العالمي الجديد الذي هو أصلاً نظام لا جديد فيه، ومن باب أولى أنها لم تعد قادرة بعد حرب أوكرانيا على أن تفسر شيئاً. أما العلاقة بين الحرب والمصلحة فهي قابلة للتأثير والتأثر المتبادلين، علاقة «ديالكتيكية»، كما كان يقول ماركس الأصلي.
لا المصلحة مجرد تفعيل لصدام الحضارات، كما يقول هنتنغتون، ولا الثقافة غطاء للمصلحة، كما تقول الماركسية. يمكن أن تلتقي أطروحة ثقافية معينة مع مصلحة معينة، ويمكن أن تلتقي الأطروحة ذاتها مع مصلحة مختلفة أو نقيضة. لذلك لا يمكن تصنيف أي ثقافة بأنها مرتبطة بمصلحة طبقية أو قومية، ولا أي طبقة أو قومية على أنها تنتج ثقافة خاصة بها.
في النهاية، ما من أطروحة قابلة لتفسير شمولي، لا أطروحة الحرب المقدسة ولا أطروحة الإمبريالية ولا أطروحة صدام الحضارات. كل حالة تاريخية لها خصوصيتها. أما أنثروبولوجيا الحرب فهي أنثروبولوجيا الإنسان مع العنف أو العنف لدى الإنسان. فالإنسان مدني بالطبع، وهو عنيف بالطبع أيضاً. والصراع بين العنف والمدنية بدأ منذ إنسان العصر الحجري، إذ لا يمكن لأحد أن يدرك على وجه اليقين هل صقل الإنسان الأول الحجارة ليبني بها مسكناً أم ليستمتع بجمال شكلها أم ليقتل بها خصمه. لكنه بالتأكيد أعلن، بهذا الغموض الذي يحيط بنواياه، نشأة الحضارة التي هي مزيج من كل ذلك.
- كاتب وأكاديمي تونسي


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
TT

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)

بعد عام على هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول)، تتخبط منطقة الشرق الأوسط في موجة تصعيد مستمر، من دون أي بوادر حلحلة في الأفق. فمن الواضح أن إسرائيل مصرة على الخيارات العسكرية التصعيدية، ضاربة بعرض الحائط كل المبادرات الدولية للتهدئة، ومن الواضح أيضاً أن الولايات المتحدة وإدارة الرئيس جو بايدن، إما عاجزتان عن التأثير على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وإما غير مستعدتين لممارسة ضغوطات كافية عليه للتجاوب مع دعواتها لوقف التصعيد. هذا في وقت تعيش فيه الولايات المتحدة موسماً انتخاباً ساخناً تتمحور فيه القرارات حول كيفية تأثيرها على السباق الرئاسي.

السؤال الأبرز المطروح حالياً هو عما إذا كان هناك استراتيجية أميركية ما حيال ملف الشرق الأوسط، انطلاقاً من الحرب الدائرة منذ عام. فقد واجهت الإدارة الحالية انتقادات حادة بسبب غياب منطقة الشرق الأوسط عن لائحة أولوياتها منذ تسلم بايدن السلطة. ولكن الأمور منذ 7 أكتوبر 2023 تغيرت جذرياً.

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى غيث العمري، المستشار السابق لفريق المفاوضات الفلسطيني خلال محادثات الوضع الدائم وكبير الباحثين في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي رأى أن الإدارة الأميركية سعت فعلياً إلى عدم إعطاء الأولوية لمنطقة الشرق الأوسط، وحوّلت تركيزها ومواردها إلى أولويات أخرى. ويقول العمري: «جاءت هجمات 7 أكتوبر لتفاجئ الولايات المتحدة التي لم تكن مستعدة لها، والتي افتقرت لما يلزم لمواجهة أزمة بهذا الحجم». ويرى العمري أن الولايات المتحدة اعتمدت منذ السابع من أكتوبر وحتى تاريخنا هذا على سياسة «مجزأة مبنية على رد الفعل»، مضيفاً: «إنها لم تتمكن من رسم المشهد الاستراتيجي أو ممارسة النفوذ على حلفائها الإقليميين».

امرأة تعرض صورة لجنود إسرائيليين بعد استعادتهم لموقع كفرعزّة إثر هجمات 7 أكتوبر 2023 (د.ب.أ)

تحدثت «الشرق الأوسط» أيضاً إلى جون الترمان، المسؤول السابق في وزارة الخارجية ومدير برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية، فقال: «فشلت إدارة بايدن بالتأكيد في تحقيق العديد من أهدافها في العام الماضي، ولكن في الوقت نفسه لم تندلع حرب إقليمية كبيرة بعد». ويعرب الترمان عن «دهشته» من أنه ورغم «الإخفاقات»، فإن الولايات المتحدة «لا تزال هي النقطة المحورية للدبلوماسية الإقليمية».

وفيما تدافع إدارة بايدن عن أدائها بالقول إنها أظهرت الردع من خلال إرسال تعزيزات أميركية إلى المنطقة، إلا أن العمري يختلف مع هذه المقاربة، لافتاً إلى أن نشر هذه الأصول العسكرية ربما ساهم في المراحل المبكرة من الحرب «في ردع إيران و(حزب الله) من الانخراط في تصعيد كبير، إلا أنه فشل في ردعهما إلى جانب وكلائهما كالحوثيين من الانخراط في أنشطة خبيثة على مستوى منخفض». وأضاف: «لقد تسبب ذلك في زيادة الضغط، وأدى في النهاية إلى انتقال الحرب إلى لبنان وربما مناطق أخرى».

الدبلوماسية «هي الحل»

في خضم التصعيد، تبقى إدارة بايدن مصرة على تكرار التصريحات نفسها من أن الحل الدبلوماسي هو الحل الوحيد، محذرة من توسع رقعة الصراع في المنطقة. وعن ذلك يقول الترمان إن بايدن يريد حلولاً دبلوماسية؛ «لأن الحلول العسكرية تتطلب هزيمة شاملة لأحد الأطراف. ونظراً للرّهانات العالية لكلا الجانبين، فإن الحل العسكري بعيد المنال، وسينجم عنه المزيد من الموت والدمار أكثر بكثير مما شهدناه حتى الآن».

أما العمري فيرى أن التركيز على الدبلوماسية هو أمر مناسب؛ لأنه «في نهاية المطاف، تنتهي الحروب وستكون هناك حاجة إلى حل دبلوماسي»، مضيفاً: «عندما يأتي (اليوم التالي)، يجب أن تكون الأسس لترتيبات دبلوماسية جاهزة».

إلا أن العمري يحذر في الوقت نفسه من أن الدبلوماسية وحدها غير كافية إذا لم تكن مدعومة بقوة واضحة، بما في ذلك القوة العسكرية، ويفسر ذلك قائلاً: «إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من إقناع خصومها بأنها مستعدة لاستخدام قوتها لإيذائهم، وحلفائها بأنها مستعدة لفعل ما يلزم لمساعدتهم، فإن نفوذها تجاه الطرفين سيكون محدوداً».

تجميد الأسلحة لإسرائيل

سقوط أعداد هائلة من المدنيين في حربي غزة ولبنان منذ بدء العمليات الإسرائيلية للرد على هجمات 7 أكتوبر 2023، دفع الكثيرين إلى دعوة بايدن لوضع قيود على الأسلحة الأميركية لإسرائيل، بهدف ممارسة نوع من الضغوط على نتنياهو لوقف التصعيد، لكن الترمان يرفض النظرة القائلة بأن تجميد الأسلحة سيمهد للحل، ويفسر قائلاً: «إذا اعتمدت إدارة بايدن هذه المقاربة، أتوقع أن يعترض الكونغرس بشدة، وقد تكون النتيجة عرضاً للضعف والهشاشة في سياسة البيت الأبيض، بدلاً من صورة تقديم حلول». ويحذّر الترمان من أن خطوة من هذا النوع من شأنها كذلك أن تدفع إسرائيل إلى «الشعور بمزيد من العزلة التي قد تولّد بالتالي شعوراً أكبر بعدم الالتزام بأي قيود».

الرئيس الأميركي جو بايدن خارجاً من البيت الأبيض ليستقل الطائرة إلى نيويورك (أ.ب)

ويوافق العمري مع هذه المقاربة، مشيراً إلى أنه «من غير الواضح أن أي وسيلة ضغط ستنجح»، فيقول: «إسرائيل تشعر بأنها مهددة وجودياً، مما يجعلها أقل استعداداً لتقبل أي تأثير خارجي». ويوفر العمري نظرة شاملة عن مقاربة الإدارة الأميركية في غزة ولبنان التي تحد من الضغوط التي ترغب في ممارستها على إسرائيل، فيفسر قائلاً: «رغم أن الولايات المتحدة غير راضية عن بعض جوانب سير الحرب، خصوصاً فيما يتعلق بالخسائر البشرية بين المدنيين، فإنها تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بعد السابع من أكتوبر». لهذا السبب يشير العمري إلى أن الولايات المتحدة تحتاج إلى تحقيق توازن في الضغط بطرق يمكن أن تغير سلوك إسرائيل «دون تقييد قدرتها على تحقيق الهدف المشروع المتمثل في هزيمة (حماس)»، مضيفاً: «هذا التوازن ليس سهلاً».

بالإضافة إلى ذلك، يذكّر العمري بطبيعة العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي «تتجاوز القضية الإسرائيلية - الفلسطينية»، فيقول: «الولايات المتحدة تستفيد استراتيجياً من هذه العلاقة، بما في ذلك الفوائد المتعلقة بالتهديدات الإقليمية الأخرى مثل الأنشطة الإيرانية. وبذلك، فإن الولايات المتحدة لديها مصالحها الاستراتيجية الخاصة التي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار».

أي حل في نهاية النفق

رغم التصعيد المستمر، تعمل الولايات المتحدة على بناء استراتيجية تضمن عدم خروج الأمور عن السيطرة، ودخول إيران على خط المواجهة، ويشدد العمري على أن «الأولوية الآن هي ضمان بقاء إيران خارج هذه الحرب»، مشيراً إلى أن هذا الأمر ضروري للحد من انتشار الصراع، و«لإضعاف مصداقية إيران الإقليمية ونفوذها مع وكلائها»، لكنه يرى في الوقت نفسه أنه «لا يمكن تحقيق مثل هذه النتيجة إلا إذا كانت إيران مقتنعة بأن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام العمل العسكري».

عنصران من الدفاع المدني الفلسطيني في دير البلح في غزة (أ.ف.ب)

أما الترمان الذي يؤكد ضرورة استمرار الولايات المتحدة «في تقديم مسار للمضي قدماً لجميع الأطراف»، فيحذّر من أن هذا لا يعني أنها يجب أن «تحمي الأطراف من العواقب الناجمة عن أفعالهم»، ويختم قائلاً: «هناك مفهوم يسمى (الخطر الأخلاقي)، يعني أن الناس يميلون إلى اتخاذ سلوكيات أكثر خطورة إذا اعتقدوا أن الآخرين سيحمونهم من الخسارة».