عندما تنهار أسطورة صدام الحضارات في كييف

بوتن أعلن الحرب على أوكرانيا بخطاب خال من صدام الحضارات (أ.ب) - صمويل هينتنغتون (رويترز)
بوتن أعلن الحرب على أوكرانيا بخطاب خال من صدام الحضارات (أ.ب) - صمويل هينتنغتون (رويترز)
TT

عندما تنهار أسطورة صدام الحضارات في كييف

بوتن أعلن الحرب على أوكرانيا بخطاب خال من صدام الحضارات (أ.ب) - صمويل هينتنغتون (رويترز)
بوتن أعلن الحرب على أوكرانيا بخطاب خال من صدام الحضارات (أ.ب) - صمويل هينتنغتون (رويترز)

يقال الكثير، يومياً، عن الحرب الدائرة بين أوكرانيا وروسيا: أحداثها ودوافعها ومآلاتها، وما ستغيره من أوضاع في العالم كله. ليس هذا المقال خوضاً في هذه المواضيع، ولا استشرافاً للنتائج، بل يودّ أن يطرح سؤالاً بعيداً عن صخب الحرب، وإن لم يكن منفصلاً عنها: ما الأثر الأكثر عمقاً الذي ستتركه في الثقافة البشرية، بصرف النظر عن نهاياتها الممكنة، عسكرياً وسياسياً؟
يبدو الجواب كالتالي: هذا الأثر هو انهيار أسطورة صدام الحضارات. هذه الأسطورة ظلت توجه الثقافة العالمية منذ أكثر من ربع قرن، لا سيما منذ 1996، تاريخ صدور كتاب عالم السياسة الأميركي صمويل هنتنغتون الذي حمل هذه العبارة عنواناً له. استُبطنت هذه الأسطورة في كل الثقافات. العالم المهيمن رأى فيها تبريراً أخلاقياً لهيمنته على الآخرين عندما افترض أنّ الآخرين أشرار يتربصون به الدوائر ويسعون لإسقاطه (هذه كانت إحدى أطروحات هنتنغتون في كتابه المذكور). والعالم المهيمَن عليه رأى فيها تبريراً لرفض الإصلاح والتغيير، بحجة أنه مطلب يأتي من الخارج بقصد بسط الهيمنة، حتى إنّ الفيلسوف العربي الكبير محمد عابد الجابري ردّ على نظرية صدام الحضارات بكتاب عنوانه «في نقد الحاجة إلى الإصلاح» (صادر سنة 2005)، ومن أطروحاته الأساسية التخلي عن مقولة الإصلاح لأنها أصبحت مطلباً صادراً من الغرب. بقينا في هذا الجدل العقيم أكثر من ربع قرن، لا نحن نصلح حالنا ولا نحن نرفع الهيمنة عنا، ولا الآخر يصلحنا ولا هو راغب في أن يرفع هيمنته عنّا.
والواقع أن أطروحة صدام الحضارات لم ترسخ لقوة استدلالاتها ووضوح مفاهيمها وعمق مضامينها، بل رسخت بسبب أحداث كبرى بدت كأنها تنبأت بها قبل وقوعها، أو أنها قدّمت التفسير الأفضل لها، وكان من أهم تلك الأحداث ما دعي بحربي الخليج الثانية والثالثة، أي التدخل العسكري الغربي في العراق من 1990 إلى 2003، وعلى وقعها كتب فيلسوف عربي آخر، مهدي المنجرة، كتاباً عنوانه «الحرب الحضارية الأولى»، وفيه قرأ غزو صدام حسين للكويت، بالضبط مثلما يقرأ البعض اليوم حرب فلاديمير بوتين على أوكرانيا، على أنه عمل دفاعي، وأرخ بذلك الغزو ورد الفعل الغربي عليه بداية مرحلة جديدة رآها مرحلة «العصيان» على الغرب، مستبطناً أسطورة صدام الحضارات مع توجيهها ضدّ الطرف المهيمن.
لكن صدام الحضارات مجرد أسطورة، يستوي أن تستعمل لفائدة الطرف المهيمن أو الطرف المهيمن عليه. وما كان ضرورياً للفكر العربي أن يشغل نفسه بالتفكير على أساسها، ولا أن يخصّ كتاب هنتنغتون بأكثر من ترجمة إلى العربية، مع أن كتباً أخرى أهم في الفكر الحديث لم تجد سبيلها إلى الترجمة إلى حدّ الآن. وما كان للفكر العربي أن يرى نفسه مضطراً للاختيار بين أطروحة صدام الحضارات والأطروحة الأخرى المنافسة لها، أطروحة «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» التي سبق بها قبل سنوات فرنسيس فوكوياما، فهي أيضاً أسطورة.
وعلى كلّ، فإن الحرب الدائرة في أوكرانيا اليوم، قد أسقطت أمام أعين الناس مقولة صدام الحضارات، لأنها حرب بين جارتين تنتميان إلى دين واحد (المسيحية)، بل إلى مذهب واحد داخل الدين (الأرثوذكسية) وثقافتهما واحدة (الروسية) وتاريخهما واحد (كييف، عاصمة أوكرانيا حالياً هي العاصمة التاريخية للأمة الروسية ولإمبراطوريتها الأولى)، والحدود بينهما كانت مفتوحة وملايين الروس قضوا عطلهم في أوكرانيا. ومع ذلك فقد حصلت الحرب، مثلما أن حرب الخليج الثانية لم تكن حرباً حضارية، لأنها بدأت بغزو الكويت التي تنتمي مع العراق إلى الحضارة ذاتها.
ليس هنا مجال السؤال: لماذا اندلعت الحرب في أوكرانيا؟ فهذا السؤال يحيلنا إلى التحليل السياسي، غير أن كل الذين تابعوا الخطاب المطوّل الذي ألقاه الرئيس الروسي قبل ساعات من الحرب، مقدماً تبريراته لها، يتفقون على أنه خطاب آتٍ من ماضٍ بعيد، لا أثر فيه لصدام الحضارات، ولا حتى لأصداء الحرب الباردة، بما أنه وجّه نقداً عنيفاً للفترة السوفياتية. إنه خطاب آتٍ من ماضي الصراعات القومية في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، حيث كان طبيعياً أن تبرَّر الحروب بمقولة العمق الاستراتيجي والأمن القومي. وهذه المقولة هي التي بررت الحروب آنذاك، بما فيها الحربان العالميتان الأولى والثانية، وبلغت مدى لم يتخيل البشر فظاعته مع النازية، ثم بدا أنها سقطت مع سقوطها بسبب الهول الذي أحدثته في الضمائر البشرية.
في النهاية، لماذا تقوم الحروب؟ للمصلحة أولاً. الحرب الباردة لم تكن مواجهة بين الإمبريالية والاشتراكية، كما أراد لها لينين أن تكون، بل بين إمبريالية بقيادة الولايات المتحدة وأخرى بقيادة الاتحاد السوفياتي. والنظام العالمي الجديد، الناشئ بعد الحرب الباردة، فتح المواجهة بين أقطاب جيو - اقتصادية جديدة، حيث روسيا هي القطب الأضعف لأنّ اقتصادها ظل تقليدياً يعتمد على تصدير المواد الخام، لذلك كانت الطرف المبادر باستعمال الحرب، لأنها لم تعد قادرة على المواجهة الاقتصادية. أما الغرب الذي يتشدّق بالديمقراطية والتعددية والاختلاف، فإنه يؤكد مجدداً، أنه لا يقبل أن توجد قوة غير منخرطة في اقتصاده المعولم ورؤيته في التوزيع العالمي للمصالح.
ثم بعد المصلحة، يمكن أن تقوم الحرب من أجل العقيدة، ويمكن لتمثلات ثقافية معينة أن تكون دافعاً للحرب، أو تُتخذ ذريعة لتواصلها حتى بعد انتهاء المصلحة. وضمن هذا الصنف يمكن أن نصنف الحروب الدينية قديماً، أو المواجهة المعاصرة بين العرب وإسرائيل، حيث يستمر الصدام حتى بعد انتفاء المصلحة منه.
وعلى هذا الأساس، لا فائدة من نظرية صدام الحضارات، فهي لم تفسر شيئاً في النظام العالمي الجديد الذي هو أصلاً نظام لا جديد فيه، ومن باب أولى أنها لم تعد قادرة بعد حرب أوكرانيا على أن تفسر شيئاً. أما العلاقة بين الحرب والمصلحة فهي قابلة للتأثير والتأثر المتبادلين، علاقة «ديالكتيكية»، كما كان يقول ماركس الأصلي.
لا المصلحة مجرد تفعيل لصدام الحضارات، كما يقول هنتنغتون، ولا الثقافة غطاء للمصلحة، كما تقول الماركسية. يمكن أن تلتقي أطروحة ثقافية معينة مع مصلحة معينة، ويمكن أن تلتقي الأطروحة ذاتها مع مصلحة مختلفة أو نقيضة. لذلك لا يمكن تصنيف أي ثقافة بأنها مرتبطة بمصلحة طبقية أو قومية، ولا أي طبقة أو قومية على أنها تنتج ثقافة خاصة بها.
في النهاية، ما من أطروحة قابلة لتفسير شمولي، لا أطروحة الحرب المقدسة ولا أطروحة الإمبريالية ولا أطروحة صدام الحضارات. كل حالة تاريخية لها خصوصيتها. أما أنثروبولوجيا الحرب فهي أنثروبولوجيا الإنسان مع العنف أو العنف لدى الإنسان. فالإنسان مدني بالطبع، وهو عنيف بالطبع أيضاً. والصراع بين العنف والمدنية بدأ منذ إنسان العصر الحجري، إذ لا يمكن لأحد أن يدرك على وجه اليقين هل صقل الإنسان الأول الحجارة ليبني بها مسكناً أم ليستمتع بجمال شكلها أم ليقتل بها خصمه. لكنه بالتأكيد أعلن، بهذا الغموض الذي يحيط بنواياه، نشأة الحضارة التي هي مزيج من كل ذلك.
- كاتب وأكاديمي تونسي


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.