عندما تنهار أسطورة صدام الحضارات في كييف

بوتن أعلن الحرب على أوكرانيا بخطاب خال من صدام الحضارات (أ.ب) - صمويل هينتنغتون (رويترز)
بوتن أعلن الحرب على أوكرانيا بخطاب خال من صدام الحضارات (أ.ب) - صمويل هينتنغتون (رويترز)
TT

عندما تنهار أسطورة صدام الحضارات في كييف

بوتن أعلن الحرب على أوكرانيا بخطاب خال من صدام الحضارات (أ.ب) - صمويل هينتنغتون (رويترز)
بوتن أعلن الحرب على أوكرانيا بخطاب خال من صدام الحضارات (أ.ب) - صمويل هينتنغتون (رويترز)

يقال الكثير، يومياً، عن الحرب الدائرة بين أوكرانيا وروسيا: أحداثها ودوافعها ومآلاتها، وما ستغيره من أوضاع في العالم كله. ليس هذا المقال خوضاً في هذه المواضيع، ولا استشرافاً للنتائج، بل يودّ أن يطرح سؤالاً بعيداً عن صخب الحرب، وإن لم يكن منفصلاً عنها: ما الأثر الأكثر عمقاً الذي ستتركه في الثقافة البشرية، بصرف النظر عن نهاياتها الممكنة، عسكرياً وسياسياً؟
يبدو الجواب كالتالي: هذا الأثر هو انهيار أسطورة صدام الحضارات. هذه الأسطورة ظلت توجه الثقافة العالمية منذ أكثر من ربع قرن، لا سيما منذ 1996، تاريخ صدور كتاب عالم السياسة الأميركي صمويل هنتنغتون الذي حمل هذه العبارة عنواناً له. استُبطنت هذه الأسطورة في كل الثقافات. العالم المهيمن رأى فيها تبريراً أخلاقياً لهيمنته على الآخرين عندما افترض أنّ الآخرين أشرار يتربصون به الدوائر ويسعون لإسقاطه (هذه كانت إحدى أطروحات هنتنغتون في كتابه المذكور). والعالم المهيمَن عليه رأى فيها تبريراً لرفض الإصلاح والتغيير، بحجة أنه مطلب يأتي من الخارج بقصد بسط الهيمنة، حتى إنّ الفيلسوف العربي الكبير محمد عابد الجابري ردّ على نظرية صدام الحضارات بكتاب عنوانه «في نقد الحاجة إلى الإصلاح» (صادر سنة 2005)، ومن أطروحاته الأساسية التخلي عن مقولة الإصلاح لأنها أصبحت مطلباً صادراً من الغرب. بقينا في هذا الجدل العقيم أكثر من ربع قرن، لا نحن نصلح حالنا ولا نحن نرفع الهيمنة عنا، ولا الآخر يصلحنا ولا هو راغب في أن يرفع هيمنته عنّا.
والواقع أن أطروحة صدام الحضارات لم ترسخ لقوة استدلالاتها ووضوح مفاهيمها وعمق مضامينها، بل رسخت بسبب أحداث كبرى بدت كأنها تنبأت بها قبل وقوعها، أو أنها قدّمت التفسير الأفضل لها، وكان من أهم تلك الأحداث ما دعي بحربي الخليج الثانية والثالثة، أي التدخل العسكري الغربي في العراق من 1990 إلى 2003، وعلى وقعها كتب فيلسوف عربي آخر، مهدي المنجرة، كتاباً عنوانه «الحرب الحضارية الأولى»، وفيه قرأ غزو صدام حسين للكويت، بالضبط مثلما يقرأ البعض اليوم حرب فلاديمير بوتين على أوكرانيا، على أنه عمل دفاعي، وأرخ بذلك الغزو ورد الفعل الغربي عليه بداية مرحلة جديدة رآها مرحلة «العصيان» على الغرب، مستبطناً أسطورة صدام الحضارات مع توجيهها ضدّ الطرف المهيمن.
لكن صدام الحضارات مجرد أسطورة، يستوي أن تستعمل لفائدة الطرف المهيمن أو الطرف المهيمن عليه. وما كان ضرورياً للفكر العربي أن يشغل نفسه بالتفكير على أساسها، ولا أن يخصّ كتاب هنتنغتون بأكثر من ترجمة إلى العربية، مع أن كتباً أخرى أهم في الفكر الحديث لم تجد سبيلها إلى الترجمة إلى حدّ الآن. وما كان للفكر العربي أن يرى نفسه مضطراً للاختيار بين أطروحة صدام الحضارات والأطروحة الأخرى المنافسة لها، أطروحة «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» التي سبق بها قبل سنوات فرنسيس فوكوياما، فهي أيضاً أسطورة.
وعلى كلّ، فإن الحرب الدائرة في أوكرانيا اليوم، قد أسقطت أمام أعين الناس مقولة صدام الحضارات، لأنها حرب بين جارتين تنتميان إلى دين واحد (المسيحية)، بل إلى مذهب واحد داخل الدين (الأرثوذكسية) وثقافتهما واحدة (الروسية) وتاريخهما واحد (كييف، عاصمة أوكرانيا حالياً هي العاصمة التاريخية للأمة الروسية ولإمبراطوريتها الأولى)، والحدود بينهما كانت مفتوحة وملايين الروس قضوا عطلهم في أوكرانيا. ومع ذلك فقد حصلت الحرب، مثلما أن حرب الخليج الثانية لم تكن حرباً حضارية، لأنها بدأت بغزو الكويت التي تنتمي مع العراق إلى الحضارة ذاتها.
ليس هنا مجال السؤال: لماذا اندلعت الحرب في أوكرانيا؟ فهذا السؤال يحيلنا إلى التحليل السياسي، غير أن كل الذين تابعوا الخطاب المطوّل الذي ألقاه الرئيس الروسي قبل ساعات من الحرب، مقدماً تبريراته لها، يتفقون على أنه خطاب آتٍ من ماضٍ بعيد، لا أثر فيه لصدام الحضارات، ولا حتى لأصداء الحرب الباردة، بما أنه وجّه نقداً عنيفاً للفترة السوفياتية. إنه خطاب آتٍ من ماضي الصراعات القومية في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، حيث كان طبيعياً أن تبرَّر الحروب بمقولة العمق الاستراتيجي والأمن القومي. وهذه المقولة هي التي بررت الحروب آنذاك، بما فيها الحربان العالميتان الأولى والثانية، وبلغت مدى لم يتخيل البشر فظاعته مع النازية، ثم بدا أنها سقطت مع سقوطها بسبب الهول الذي أحدثته في الضمائر البشرية.
في النهاية، لماذا تقوم الحروب؟ للمصلحة أولاً. الحرب الباردة لم تكن مواجهة بين الإمبريالية والاشتراكية، كما أراد لها لينين أن تكون، بل بين إمبريالية بقيادة الولايات المتحدة وأخرى بقيادة الاتحاد السوفياتي. والنظام العالمي الجديد، الناشئ بعد الحرب الباردة، فتح المواجهة بين أقطاب جيو - اقتصادية جديدة، حيث روسيا هي القطب الأضعف لأنّ اقتصادها ظل تقليدياً يعتمد على تصدير المواد الخام، لذلك كانت الطرف المبادر باستعمال الحرب، لأنها لم تعد قادرة على المواجهة الاقتصادية. أما الغرب الذي يتشدّق بالديمقراطية والتعددية والاختلاف، فإنه يؤكد مجدداً، أنه لا يقبل أن توجد قوة غير منخرطة في اقتصاده المعولم ورؤيته في التوزيع العالمي للمصالح.
ثم بعد المصلحة، يمكن أن تقوم الحرب من أجل العقيدة، ويمكن لتمثلات ثقافية معينة أن تكون دافعاً للحرب، أو تُتخذ ذريعة لتواصلها حتى بعد انتهاء المصلحة. وضمن هذا الصنف يمكن أن نصنف الحروب الدينية قديماً، أو المواجهة المعاصرة بين العرب وإسرائيل، حيث يستمر الصدام حتى بعد انتفاء المصلحة منه.
وعلى هذا الأساس، لا فائدة من نظرية صدام الحضارات، فهي لم تفسر شيئاً في النظام العالمي الجديد الذي هو أصلاً نظام لا جديد فيه، ومن باب أولى أنها لم تعد قادرة بعد حرب أوكرانيا على أن تفسر شيئاً. أما العلاقة بين الحرب والمصلحة فهي قابلة للتأثير والتأثر المتبادلين، علاقة «ديالكتيكية»، كما كان يقول ماركس الأصلي.
لا المصلحة مجرد تفعيل لصدام الحضارات، كما يقول هنتنغتون، ولا الثقافة غطاء للمصلحة، كما تقول الماركسية. يمكن أن تلتقي أطروحة ثقافية معينة مع مصلحة معينة، ويمكن أن تلتقي الأطروحة ذاتها مع مصلحة مختلفة أو نقيضة. لذلك لا يمكن تصنيف أي ثقافة بأنها مرتبطة بمصلحة طبقية أو قومية، ولا أي طبقة أو قومية على أنها تنتج ثقافة خاصة بها.
في النهاية، ما من أطروحة قابلة لتفسير شمولي، لا أطروحة الحرب المقدسة ولا أطروحة الإمبريالية ولا أطروحة صدام الحضارات. كل حالة تاريخية لها خصوصيتها. أما أنثروبولوجيا الحرب فهي أنثروبولوجيا الإنسان مع العنف أو العنف لدى الإنسان. فالإنسان مدني بالطبع، وهو عنيف بالطبع أيضاً. والصراع بين العنف والمدنية بدأ منذ إنسان العصر الحجري، إذ لا يمكن لأحد أن يدرك على وجه اليقين هل صقل الإنسان الأول الحجارة ليبني بها مسكناً أم ليستمتع بجمال شكلها أم ليقتل بها خصمه. لكنه بالتأكيد أعلن، بهذا الغموض الذي يحيط بنواياه، نشأة الحضارة التي هي مزيج من كل ذلك.
- كاتب وأكاديمي تونسي


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


المرتزقة في ليبيا... عصف الحرب المأكول

TT

المرتزقة في ليبيا... عصف الحرب المأكول

بعد 9 أشهر من الحرب التي شنها قائد «الجيش الوطني الليبي»، المشير خليفة حفتر، على العاصمة الليبية طرابلس، في 4 أبريل (نيسان) 2019، مدعوماً بمقاتلين من مجموعة «فاغنر» الروسية، دفعت أنقرة بمرتزقة ينتمون لمجموعات سورية معارضة، أبرزها فصيل «السلطان مراد»، الذي غالبية عناصره من تركمان سوريا، إلى ليبيا. وبعد اقتتال دام 14 شهراً، نجحت القوات التابعة لحكومة فايز السراج، في إجبار قوات «الجيش الوطني» على التراجع خارج الحدود الإدارية لطرابلس.

وفي تحقيق لـ«الشرق الأوسط» تجري أحداثه بين ليبيا وسوريا والسودان وتشاد ومصر، تكشف شهادات موثقة، كيف انخرط مقاتلون من تلك البلدان في حرب ليست حربهم، لأسباب تتراوح بين «آيديولوجية قتالية»، أو «ترغيب مالي»، وكيف انتهى بعضهم محتجزين في قواعد عسكرية بليبيا، وأضحوا الحلقة الأضعف بعدما كان دورهم محورياً في بداية الصراع.

وفي يناير (كانون الثاني) 2024، قال المرصد السوري لحقوق الإنسان، إن عدد عناصر «المرتزقة السوريين» في طرابلس تجاوز 7 آلاف سابقاً، لكن فرّ منهم نحو 3 آلاف وتحولوا إلى لاجئين في شمال أفريقيا وأوروبا.

مرتزقة الحرب الليبية.. وقود المعارك وعبء الانتصارات والهزائم