عندما تنهار أسطورة صدام الحضارات في كييفhttps://aawsat.com/home/article/3686046/%D8%B9%D9%86%D8%AF%D9%85%D8%A7-%D8%AA%D9%86%D9%87%D8%A7%D8%B1-%D8%A3%D8%B3%D8%B7%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%B5%D8%AF%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D9%83%D9%8A%D9%8A%D9%81
بوتن أعلن الحرب على أوكرانيا بخطاب خال من صدام الحضارات (أ.ب) - صمويل هينتنغتون (رويترز)
محمد الحدّاد
TT
TT
عندما تنهار أسطورة صدام الحضارات في كييف
بوتن أعلن الحرب على أوكرانيا بخطاب خال من صدام الحضارات (أ.ب) - صمويل هينتنغتون (رويترز)
يقال الكثير، يومياً، عن الحرب الدائرة بين أوكرانيا وروسيا: أحداثها ودوافعها ومآلاتها، وما ستغيره من أوضاع في العالم كله. ليس هذا المقال خوضاً في هذه المواضيع، ولا استشرافاً للنتائج، بل يودّ أن يطرح سؤالاً بعيداً عن صخب الحرب، وإن لم يكن منفصلاً عنها: ما الأثر الأكثر عمقاً الذي ستتركه في الثقافة البشرية، بصرف النظر عن نهاياتها الممكنة، عسكرياً وسياسياً؟
يبدو الجواب كالتالي: هذا الأثر هو انهيار أسطورة صدام الحضارات. هذه الأسطورة ظلت توجه الثقافة العالمية منذ أكثر من ربع قرن، لا سيما منذ 1996، تاريخ صدور كتاب عالم السياسة الأميركي صمويل هنتنغتون الذي حمل هذه العبارة عنواناً له. استُبطنت هذه الأسطورة في كل الثقافات. العالم المهيمن رأى فيها تبريراً أخلاقياً لهيمنته على الآخرين عندما افترض أنّ الآخرين أشرار يتربصون به الدوائر ويسعون لإسقاطه (هذه كانت إحدى أطروحات هنتنغتون في كتابه المذكور). والعالم المهيمَن عليه رأى فيها تبريراً لرفض الإصلاح والتغيير، بحجة أنه مطلب يأتي من الخارج بقصد بسط الهيمنة، حتى إنّ الفيلسوف العربي الكبير محمد عابد الجابري ردّ على نظرية صدام الحضارات بكتاب عنوانه «في نقد الحاجة إلى الإصلاح» (صادر سنة 2005)، ومن أطروحاته الأساسية التخلي عن مقولة الإصلاح لأنها أصبحت مطلباً صادراً من الغرب. بقينا في هذا الجدل العقيم أكثر من ربع قرن، لا نحن نصلح حالنا ولا نحن نرفع الهيمنة عنا، ولا الآخر يصلحنا ولا هو راغب في أن يرفع هيمنته عنّا.
والواقع أن أطروحة صدام الحضارات لم ترسخ لقوة استدلالاتها ووضوح مفاهيمها وعمق مضامينها، بل رسخت بسبب أحداث كبرى بدت كأنها تنبأت بها قبل وقوعها، أو أنها قدّمت التفسير الأفضل لها، وكان من أهم تلك الأحداث ما دعي بحربي الخليج الثانية والثالثة، أي التدخل العسكري الغربي في العراق من 1990 إلى 2003، وعلى وقعها كتب فيلسوف عربي آخر، مهدي المنجرة، كتاباً عنوانه «الحرب الحضارية الأولى»، وفيه قرأ غزو صدام حسين للكويت، بالضبط مثلما يقرأ البعض اليوم حرب فلاديمير بوتين على أوكرانيا، على أنه عمل دفاعي، وأرخ بذلك الغزو ورد الفعل الغربي عليه بداية مرحلة جديدة رآها مرحلة «العصيان» على الغرب، مستبطناً أسطورة صدام الحضارات مع توجيهها ضدّ الطرف المهيمن.
لكن صدام الحضارات مجرد أسطورة، يستوي أن تستعمل لفائدة الطرف المهيمن أو الطرف المهيمن عليه. وما كان ضرورياً للفكر العربي أن يشغل نفسه بالتفكير على أساسها، ولا أن يخصّ كتاب هنتنغتون بأكثر من ترجمة إلى العربية، مع أن كتباً أخرى أهم في الفكر الحديث لم تجد سبيلها إلى الترجمة إلى حدّ الآن. وما كان للفكر العربي أن يرى نفسه مضطراً للاختيار بين أطروحة صدام الحضارات والأطروحة الأخرى المنافسة لها، أطروحة «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» التي سبق بها قبل سنوات فرنسيس فوكوياما، فهي أيضاً أسطورة.
وعلى كلّ، فإن الحرب الدائرة في أوكرانيا اليوم، قد أسقطت أمام أعين الناس مقولة صدام الحضارات، لأنها حرب بين جارتين تنتميان إلى دين واحد (المسيحية)، بل إلى مذهب واحد داخل الدين (الأرثوذكسية) وثقافتهما واحدة (الروسية) وتاريخهما واحد (كييف، عاصمة أوكرانيا حالياً هي العاصمة التاريخية للأمة الروسية ولإمبراطوريتها الأولى)، والحدود بينهما كانت مفتوحة وملايين الروس قضوا عطلهم في أوكرانيا. ومع ذلك فقد حصلت الحرب، مثلما أن حرب الخليج الثانية لم تكن حرباً حضارية، لأنها بدأت بغزو الكويت التي تنتمي مع العراق إلى الحضارة ذاتها.
ليس هنا مجال السؤال: لماذا اندلعت الحرب في أوكرانيا؟ فهذا السؤال يحيلنا إلى التحليل السياسي، غير أن كل الذين تابعوا الخطاب المطوّل الذي ألقاه الرئيس الروسي قبل ساعات من الحرب، مقدماً تبريراته لها، يتفقون على أنه خطاب آتٍ من ماضٍ بعيد، لا أثر فيه لصدام الحضارات، ولا حتى لأصداء الحرب الباردة، بما أنه وجّه نقداً عنيفاً للفترة السوفياتية. إنه خطاب آتٍ من ماضي الصراعات القومية في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، حيث كان طبيعياً أن تبرَّر الحروب بمقولة العمق الاستراتيجي والأمن القومي. وهذه المقولة هي التي بررت الحروب آنذاك، بما فيها الحربان العالميتان الأولى والثانية، وبلغت مدى لم يتخيل البشر فظاعته مع النازية، ثم بدا أنها سقطت مع سقوطها بسبب الهول الذي أحدثته في الضمائر البشرية.
في النهاية، لماذا تقوم الحروب؟ للمصلحة أولاً. الحرب الباردة لم تكن مواجهة بين الإمبريالية والاشتراكية، كما أراد لها لينين أن تكون، بل بين إمبريالية بقيادة الولايات المتحدة وأخرى بقيادة الاتحاد السوفياتي. والنظام العالمي الجديد، الناشئ بعد الحرب الباردة، فتح المواجهة بين أقطاب جيو - اقتصادية جديدة، حيث روسيا هي القطب الأضعف لأنّ اقتصادها ظل تقليدياً يعتمد على تصدير المواد الخام، لذلك كانت الطرف المبادر باستعمال الحرب، لأنها لم تعد قادرة على المواجهة الاقتصادية. أما الغرب الذي يتشدّق بالديمقراطية والتعددية والاختلاف، فإنه يؤكد مجدداً، أنه لا يقبل أن توجد قوة غير منخرطة في اقتصاده المعولم ورؤيته في التوزيع العالمي للمصالح.
ثم بعد المصلحة، يمكن أن تقوم الحرب من أجل العقيدة، ويمكن لتمثلات ثقافية معينة أن تكون دافعاً للحرب، أو تُتخذ ذريعة لتواصلها حتى بعد انتهاء المصلحة. وضمن هذا الصنف يمكن أن نصنف الحروب الدينية قديماً، أو المواجهة المعاصرة بين العرب وإسرائيل، حيث يستمر الصدام حتى بعد انتفاء المصلحة منه.
وعلى هذا الأساس، لا فائدة من نظرية صدام الحضارات، فهي لم تفسر شيئاً في النظام العالمي الجديد الذي هو أصلاً نظام لا جديد فيه، ومن باب أولى أنها لم تعد قادرة بعد حرب أوكرانيا على أن تفسر شيئاً. أما العلاقة بين الحرب والمصلحة فهي قابلة للتأثير والتأثر المتبادلين، علاقة «ديالكتيكية»، كما كان يقول ماركس الأصلي.
لا المصلحة مجرد تفعيل لصدام الحضارات، كما يقول هنتنغتون، ولا الثقافة غطاء للمصلحة، كما تقول الماركسية. يمكن أن تلتقي أطروحة ثقافية معينة مع مصلحة معينة، ويمكن أن تلتقي الأطروحة ذاتها مع مصلحة مختلفة أو نقيضة. لذلك لا يمكن تصنيف أي ثقافة بأنها مرتبطة بمصلحة طبقية أو قومية، ولا أي طبقة أو قومية على أنها تنتج ثقافة خاصة بها.
في النهاية، ما من أطروحة قابلة لتفسير شمولي، لا أطروحة الحرب المقدسة ولا أطروحة الإمبريالية ولا أطروحة صدام الحضارات. كل حالة تاريخية لها خصوصيتها. أما أنثروبولوجيا الحرب فهي أنثروبولوجيا الإنسان مع العنف أو العنف لدى الإنسان. فالإنسان مدني بالطبع، وهو عنيف بالطبع أيضاً. والصراع بين العنف والمدنية بدأ منذ إنسان العصر الحجري، إذ لا يمكن لأحد أن يدرك على وجه اليقين هل صقل الإنسان الأول الحجارة ليبني بها مسكناً أم ليستمتع بجمال شكلها أم ليقتل بها خصمه. لكنه بالتأكيد أعلن، بهذا الغموض الذي يحيط بنواياه، نشأة الحضارة التي هي مزيج من كل ذلك.
- كاتب وأكاديمي تونسي
بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.
يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.
لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.
غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.
من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.
كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهمhttps://aawsat.com/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%82/%D8%AA%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7/5084057-%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%A3%D8%B1%D8%B6%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D9%88%D9%86-%D8%B0%D8%A7%D8%A6%D9%82%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%B1%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D9%88%D8%A3%D8%AB%D8%A7%D8%B1%D9%88%D8%A7-%D9%82%D9%84%D9%82%D9%87%D9%85
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».
كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.
صبغة شامية
خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».
محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».
بين «العشق» و«القلق»
رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.
حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.
ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.
تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.
جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».
ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.
لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.
دعوات مقاطعة
تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».
حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.
وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.
وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».
في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».
عزيزي المواطن المصري الطيب الساذج البرئ .. تذكر دائماً ان كل مطعم سوري تتعامل معه وتدفع له فلوسك كان في يوم ما مطعم مصري .. السوريين ماجابوش المطاعم بتاعتهم معاهم من سوريا .. هذه المطاعم كان أصحابها مصريين وكان العاملين بها مصريين .. مئات الآلاف من العائلات المصرية كانت تعتمد...
الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».
ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».
كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».
ترحيب مشروط
كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».
ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.
أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».
وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.
على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».
استثمارات متنوعة
يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».
ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».
ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.
وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».
وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.
و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».
«حملات موجهة»
انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».
رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».
وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».
وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».
ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».
لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».
«استثمارات متنامية»
ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».
وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.
ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.
لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».
حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».
فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».
بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».
وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.