الزوايا ودورها في استمرارية التدين الشعبي بالمغرب الحديث

الزوايا ودورها في استمرارية التدين الشعبي بالمغرب الحديث
TT

الزوايا ودورها في استمرارية التدين الشعبي بالمغرب الحديث

الزوايا ودورها في استمرارية التدين الشعبي بالمغرب الحديث

يضم المغرب عدداً كبيراً من الزوايا والأضرحة، بحيث تكاد لا تخلو مدينة ولا قرية من وليٍّ أو مزار شريف. فالأولياء، في المخيال الشعبي للأفراد، يعدون بمثابة الورثة للأنبياء، هم الذين عرفوا ببعض الكرامات في حياتهم، مما استمر تأثيره حتى بعد مماتهم، ما يجعل التبرك بهم وطلب قضاء الحوائج منهم والوساطة بينهم وبين خالقهم حاضراً عند قاصديهم.
ولطالما لعبت الزوايا دوراً مهماً في تاريخ المغرب الديني والسياسي والمجتمعي، وهي تدخل في إطار التصوف المؤسساتي الذي يعد أكثر تنظيماً وتأثيراً من التصوف الفردي. أما الأساس في وجودها فهو النسب الشريف لآل البيت خصوصاً، إضافة إلى الكرامات وعلاقاتها بالسلطة والأدوار التي قامت وتقوم بها تجاه الأفراد.
تاريخياً، تراوحت علاقة الزوايا بالسلطة بين معارضتها ولعب دور الملجأ للاحتماء من بطشها، أو التحالف معها، كما كان لها دور قوي في مواجهة الاستعمار الفرنسي والإسباني. واليوم يقدم التصوف واجهة أمام التطرف الديني وحركات الإسلام السياسي.
وقديماً لعبت الزوايا أدواراً اجتماعية مهمة، فبالإضافة إلى دورها الديني واستقطاب المريدين، اهتمت بالصدقات وإطعام الفقراء والمعوزين وعابري السبيل، وأيضاً تيسير رحلات الحجاج إلى الحجاز. ولم يقتصر دورها على ذلك، بل توسعت مهامها إلى «الجهاد في سبيل الله»، ومواجهة المستعمر، وتوحيد القبائل، وتجييش المجاهدين. واستغلت بعض الزوايا ضعف السلطة السياسية، كما حدث عند تراجع الدولة المرينية والوطاسية، لتتوسع داخل الدولة ثم لتلعب دوراً مهماً في الاستقرار السياسي لبعض السلالات الحاكمة بعد ذلك، كالسعديين، حيث كانت الزاوية الجزولية تحديداً الإطار الآيديولوجي الذي نشأت على أساسه الدولة الشريفة السعدية.
وبالإضافة إلى النسب الشريف والجهاد، استندت الزوايا إلى الفكر الصوفي القائم على إنشاء الرباطات الدعوية والجهادية، حيث كان الشيوخ يعتمدون على المصداقية الروحية والزهدية في جذب المريدين، خصوصاً في مرحلة الموحدين. بعد ذاك ستتقوى الزوايا بتحالف الصوفية مع النسب الشريف، الذي يستمر حتى الفترة الحالية مع السلالة العلوية.
ولا يزال تأثير الزوايا قائماً بقوة، حيث تحمل رمزية دينية وسياسية بارزة، هي التي لطالما دعمت الدولة العلوية التي تستند هي أيضاً في حكمها على شرعية دينية وعلى الأصول الشريفة والانتساب إلى آل البيت. لكن وظائف الزوايا اختلفت اليوم ولم تعد لها أدوار سياسية ولا جهادية، كما تم تنظيمها وتأطير أدوراها من خلال قوانين وأعراف، وأصبحت خدماتها مقتصرة على استقبال المريدين وطالبي البركة والشفاء وقضاء الحوائج، فضلاً عن الاعتكاف والذكر والصلاة.
وللزوايا اليوم دور مهم في تحقيق التوازن الديني والسياسي، خصوصاً أن التدين الصوفي لا يزعج السلطة ولا يشكل أي قلق لها، وهو ما فطنت إليه فاهتمت بمركزة الحقل الديني، واهتمت أساساً بدعم التدين المحلي التقليدي المبني على الصوفية والمذهب المالكي، داعمة الزوايا بالهبات والهدايا والحرص على تأمين أنشطتها الدينية، خصوصاً ما يعرف بالمواسم أو الموالد السنوية، بل العمل على إحياء طرق صوفية اندثرت عبر الزمن، خصوصاً مع انتشار المد السلفي وحركات الإسلام السياسي في التسعينات. وهذا ما جعل الدولة تتبنى استراتيجية الاستعانة بقوى دينية مقابل أخرى، وهو ما نجحت فيه إلى حد كبير، فأصبحت الزوايا بمثابة حليف تقليدي للمخزن.
كذلك تم تعيين وجه ينتمي إلى إحدى الطرق الصوفية على رأس وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وهي الوزارة الموكول إليها تأهيل وتنظيم الحقل الديني في المغرب. ويبدو اهتمام الدولة بالتصوف والزوايا حاضراً على المستوى الإعلامي، حيث تقدم قنواتها التلفزيونية والإذاعية برامج تعريفية بالصوفية والزوايا والمقامات وشرح التصوف السني وعرض تاريخه.
وعليه يمكن القول إن التصوف والزوايا جزء مهم اليوم من المنظومة الدينية للمغرب، ومن أبرز محددات الهوية الدينية، وهو يلعب دوراً مهماً في توازن الحقل الديني والحد من امتداد الحركات المتطرفة والمغالية في الدين بما يعزز الأمن الروحي للمغاربة. وإذا كانت الدولة تعترف بالزوايا كمؤسسات دينية تعمل على إنتاج قيم دينية وإعادة إنتاجها، وتخصص لها ميزانيات وهبات وتعين شيوخها وتقدم لها امتيازات، إلا أنها تضبط نفوذها وتحركاتها وعلاقاتها بشكل يضمن عدم استفحال قوتها. فالدولة تعمل على تحييد المؤسسات الدينية التقليدية، خصوصاً أنها من يتحكم بالحقل الديني في المغرب، الذي ينحو باتجاه الإسلام المعتدل البعيد عن التطرف والعنف. وهذا ما تستوعبه الزوايا جيداً فتبقي على علاقاتها بالدولة في إطار الحفاظ على المصالح والامتيازات والتبادل الرمزي فيما يشبه التبادل في الشرعية أو شرعنة الوجود والاستمرارية. وهذا ما يجعل تركيزها على التكوين الديني والروحي للأفراد بعيداً عن الاهتمامات السياسية.
ولا يقتصر التدين الشعبي والانتساب للزوايا على الفئات الفقيرة أو ذات المستوى التعليمي المحدود، ولو أنها كانت تلعب سابقاً دور الحاضن الاجتماعي للفئات الفقيرة والمهمشة في المغرب. فمريدو الزوايا اليوم والمنتسبون إليها ينتمون إلى كل الطبقات والفئات المجتمعية، بمن فيهم الأثرياء والمثقفون والكوادر والنخب السياسية وغيرهم. وهم موجودون بقوة، خصوصاً مع انتعاش موجات التصوف في العالم العربي، التي بدأت تبرز بشكل لافت.
وكانت لزوايا المغرب أدوار مهمة في نشر التصوف في شمال أفريقيا، مما يعتمد عليه النظام اليوم فيما يعرف بالدبلوماسية الروحية الموازية، التي تلعب دوراً مهماً في توطيد علاقات دبلوماسية مع بعض دول أفريقيا. فهناك وظفت الدولة هذا الإرث الروحي لبناء شراكات استراتيجية حيوية مع عدد من البلدان، وكانت الطريقة القادرية من أبرز الطرق التي وصلت إلى حوض النيجر وإثيوبيا وزامبيا، كما توطدت الزاوية التيجانية في دول أفريقية أخرى غير الجزائر والمغرب، كالسنغال، حيث تحظى بحضور قوي ومؤثر داخل الدولة يتجاوز ما هو روحي إلى ما هو اجتماعي واقتصادي وأيضاً سياسي.
ولا يقتصر تأثير الزوايا على دول أفريقيا، إذ يمتد إلى مختلف دول العالم، حيث تستقطب بطابعها الروحي مريدين غربيين، ويعد مريدو الزاوية البودشيشية في شرق المغرب بالآلاف من داخل المغرب وخارجه، وقد أصبح وجود الأجانب داخل الزاوية من الأمور المعتادة اليوم.
وأخيراً تجدر الإشارة إلى أن التحولات التي عاشها المغرب، مع دخول تيارات دينية مختلفة، لم تؤد إلى تراجع مكانة الزوايا بشكل كبير، إذ لا يزال حضورها قوياً، وكذلك وقوفها على مسافة من السياسة. فهي بمثابة صمام أمان لحماية الحقل الديني وضبط علاقة الدين بالسياسة والدولة بالارتكاز على العقيدة الأشعرية ومذهب الإمام مالك والتصوف السني، مما يتماشى مع تكريس الأولويات المذهبية للدولة.
- باحثة مغربِية


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.