مثلما كان مقرراً ومتوقعاً واستجابةً لدعوة ست نقابات عاملة، شهد الجسم الدبلوماسي الفرنسي أمس، إضراباً في مقر الوزارة في باريس وفي عدد من السفارات والقنصليات عبر العالم، حيث تتمتع فرنسا بثالث أكبر شبكة دبلوماسية بعد الولايات المتحدة والصين يربو كثير أفرادها على 13 ألف موظف بين سفراء ومستشارين وقناصلة ومحررين ومتعاقدين.
وعلى الرغم من التحذيرات المتكررة التي صدرت عن الكثير من الدبلوماسيين والسياسيين الذين نبّهوا إلى خطورة اندثار الجسم الدبلوماسي على الحضور الفرنسي في العالم وعلى مصالح البلاد، فإن الرئيس إيمانويل ماكرون بقي متمسكاً بما سمي «إصلاح الإدارة العليا»، بحيث تختفي مهنة الدبلوماسي ويذوب الدبلوماسيون في الجسم العام لكبار إداريي الدولة. وهذا يعني عملياً أنه لم تعد هناك خصوصية للعمل الدبلوماسي بحيث سيتاح للحكومة ولرئيس الجمهورية غداً تسمية سفراء وقناصل وكبار المستشارين من غير الدبلوماسيين. من هنا التخوف من أن يكون الهدف من الإصلاح إطلاق يد السياسيين في التسميات والمناقلات وتسلل عامل المحسوبيات والمكافآت بعيداً عن الكفاءة المهنية.
ورأى أوليفيه دا سيلفا، الأمين العام للاتحاد الفرنسي للعمال، إحدى النقابات الداعية للإضراب، أن «الإجراءات الحكومية الهادفة إلى تفكيك أداتنا الدبلوماسية غير منطقية، في وقت عادت فيه الحرب لتوّها إلى أوروبا»، مضيفاً أن «حالة الغضب وصلت إلى مستوى مرتفع للغاية».
بدايةً، كان غرض الإصلاح الحكومي تسهيل الحركة بين الإدارات وضخ دماء جديدة في جسم منغلق على ذاته منذ قرون، وتمكين وزارة الخارجية من الاستعانة بكبار الموظفين الذين يمكن أن يأتوا إليها من الإدارات المختلفة وأصحاب مؤهلات متنوعة للاستجابة للتحديات الجديدة. وجاءت الرغبة الإصلاحية استكمالاً لإلغاء المعهد الوطني للإدارة الانتقائي جداً الذي كان يخرّج كبار الكادرات الحكومية في وزارات رئيسية مثل الاقتصاد والمال والخارجية.
وفي نهاية العام الماضي، أُعلن عن خطة ستدخل حيز التنفيذ بداية الشهر القادم وصدر مرسومها في الجريدة الفرنسية في 18 أبريل (نيسان) الماضي، أي بين جولتي الانتخابات الرئاسية التي أفضت إلى إعادة انتخاب الرئيس ماكرون لولاية جديدة من خمس سنوات. وسبق لماكرون أن اتهم الجسم الدبلوماسي بأنه «محافظ» ويشكّل ما سماها «الدولة العميقة»، أي تلك التي تفرمل الاندفاع الإصلاحي وتوجهات الإليزيه في السياسة الخارجية.
وقال سفير فرنسي سابق أمس لـ«الشرق الأوسط» إن ماكرون استشعر، منذ عام 2019، وجود تردد وحذر في وزارة الخارجية إزاء رغبته في التقارب مع روسيا ونظيره فلاديمير بوتين. ورؤية ماكرون ترى أن روسيا تنتمي إلى أوروبا ويتعين بالتالي، لأسباب جيو ــ استراتيجية، ربطها بالعربة الأوروبية بدل أن تستدير باتجاه الصين، كما أنها لاعبٌ رئيسي في ملف الأمن الأوروبي، الأمر الذي أبرزته بشدة الحرب الروسية على أوكرانيا.
وأضاف السفير السابق أن مصدر الخلاف وجود رؤيتين متضاربتين للعمل الدبلوماسي: الأولى ترى أن للدبلوماسية خصوصياتها، وهي بالتالي مهنة وليست في متناول الجميع. ثم إنها تُكتسب بفعل التمرس والاحتكاك بالأزمات، حيث همُّ الدبلوماسي الأول التعامل مع المستجدات والدفاع عن المصالح الفرنسية في عالم أصبح بالغ التعقيد. أما الرؤية الثانية التي تتبناها الحكومة فتركز على أن التغيرات التي يشهدها العالم ليس فقط سياسياً واستراتيجياً وإنما أيضاً اقتصادياً وتجارياً ورقمياً وغيرها، تستوجب توافر مواصفات جديدة. فضلاً عن ذلك، يشدد أصحاب الرؤية الثانية على أنه «لم يعد جائزاً» في الزمن الحالي أن يبقى موظف كبير من قنصل أو دبلوماسي أو مستشار للشؤون الخارجية طيلة حياته المهنية في إطار واحد و«جسم» واحد.
وإزاء التضارب في الرؤى، استغل السياسيون الإضراب «الدبلوماسي»، حيث اتهمت مارين لو بان، زعيمة اليمين المتطرف التي خسرت المنافسة الانتخابية بوجه ماكرون، الحكومة برغبتها بـ«إحلال الأصدقاء محل الموظفين الحياديين». فيما عبّر جان لوك ميلونشون، رئيس حزب «فرنسا المتمردة» وزعيم تحالف اليسار للانتخابات التشريعية القادمة يومي 12 و19 الجاري، عن حزنه لتدمير الشبكة الدبلوماسية الفرنسية التي يعود تأسيسها لعدة قرون.
تعد السفارة الفرنسية في بكين الأكبر في العالم، إذ إنها تضم 380 شخصاً يعملون في قطاعاتها كافة. وأفادت إذاعة فرنسا الدولية بأن ربع موظفيها توقفوا عن ممارسة أعمالهم استجابة للدعوة إلى الإضراب. أما موظفو الوزارة المضربون في مقر الوزارة في باريس، فقد عبّر الكثيرون منهم ليس فقط عن خوفهم من المستقبل بل أيضاً عن حزنهم إزاء تناقص موارد الوزارة مالياً وإنسانياً.
وكان لافتاً أن عدة سفراء عبر العالم كانوا أمس في حالة إضراب فيما عمد دبلوماسيون كبار إلى تناقل تغريدات داعمة للإضراب.
وفي الأسابيع الأخيرة، ظهرت في الصحف والمجلات الفرنسية مساهمات عدة مندِّدة بالرغبة الحكومية ومركّزة على «الخسارة» التي ستلحق بفرنسا المعروفة بدبلوماسيتها الناشطة عبر العالم.
ونقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن دا سيلفا قوله إن الإضراب يعد حدثاً بذاته وأنه «استغاثة» توجَّه للحكومة أن وزارة الخارجية «في حالة متدهورة ويتعين إصلاحها». وكان مقرراً أن يتجمع المضربون أمام مقر الوزارة في باريس وأيضاً في مدينة نانت (غرب فرنسا) التي تحتضن الأرشيف الدبلوماسي.
ويبقى السؤال: هل سيدفع الإضراب الحكومة والرئاسة إلى العدول عن الإصلاح؟ يبدو أنّ أمراً كهذا مستبعد بعد صدور المرسوم في الجريدة الرسمية. إلا أن المضربين يأملون تعديل بعض فقراته، وينتظرون ما قد يصدر عن وزيرة الخارجية الجديدة كاترين كولونا التي بقيت صامتة حتى اليوم إزاء هذه المسألة، فيما عارضها وزير الخارجية السابق جان إيف لو دريان. إلا أن القرار كان في الإليزيه وليس في الكي دورسيه.
دبلوماسيون فرنسيون يطلقون صرخة استغاثة عبر إضرابهم
مسؤول نقابي: الإجراءات الإصلاحية الحكومية غير منطقية
دبلوماسيون فرنسيون يطلقون صرخة استغاثة عبر إضرابهم
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة