أسرار ولادة «يونيب» كما يرويها مؤسس مفهوم «دبلوماسية البيئة»

50 عاماً على مؤتمر استوكهولم حول البيئة البشرية (1)

مؤتمر استوكهولم يونيو (حزيران) 1972
مؤتمر استوكهولم يونيو (حزيران) 1972
TT

أسرار ولادة «يونيب» كما يرويها مؤسس مفهوم «دبلوماسية البيئة»

مؤتمر استوكهولم يونيو (حزيران) 1972
مؤتمر استوكهولم يونيو (حزيران) 1972

يُفتتح اليوم في العاصمة السويدية مؤتمر «استوكهولم +50»، في ذكرى مرور نصف قرن على «مؤتمر الأمم المتحدة حول البيئة البشرية»، الذي عُقِد في استوكهولم في يونيو (حزيران) عام 1972. وقد أطلق هذا المؤتمر العمل الدولي في مجال البيئة، إذ تمخّض عنه إنشاء برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب)، الذي قاد العمل البيئي العالمي منذ ذلك التاريخ. وقد برز في المؤتمر اسم العالم المصري مصطفى كمال طُلبة، رئيس أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا آنذاك، الذي مثّل بلده واختارته الدول العربية والأفريقية متحدثاً باسمها. ويُعتبر طُلبة مؤسس مفهوم «دبلوماسية البيئة»، إذ نجح في تحويل العمل البيئي من شعارات وأمنيات أطلقها مؤتمر استوكهولم حول البيئة الإنسانية عام 1972، إلى معاهدات واتفاقات دولية، منذ عمل مع موريس سترونغ على تأسيس «يونيب»، قبل أن يتولى قيادة المنظمة كمدير تنفيذي حتى عام 1992. وهو استمر في نشاطه البيئي الدولي حتى وفاته في جنيف عام 2016.

طُلبة مُستقبِلاً كورت فالدهايم الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك خلال زيارته مقر «يونيب» في نيروبي عام 1981

خلال السنوات الأخيرة من حياته، عكف طُلبة على كتابة مذكّراته، التي طلب مني مراجعتها وتحريرها، قبل أن تُنشر على حلقات في مجلة «البيئة والتنمية» في السنة التي سبقت وفاته. هذا المقال حول استوكهولم وبدايات «يونيب» يستند إلى ذاكرة مصطفى كمال طُلبة وأحاديثي معه، وقد رافقتُه وعملت معه في مهمات عدة منذ 1977.
- البداية من استوكهولم
انتخب مؤتمر استوكهولم للبيئة البشرية مصطفى كمال طُلبة نائباً للرئيس، وعيّنته المجموعتان العربية والأفريقية متحدثاً باسمهما. تأزمت الأمور في المؤتمر حول مسودة «إعلان استوكهولم»، إذ دار حوله جدل كبير بين الدول النامية والدول الصناعية، في جلسات مفتوحة كانت تمتد حتى ساعات الصباح. وفي محاولة لحل الخلافات، شكّل الأمين العام للمؤتمر، موريس سترونغ، لجنة مصغّرة من رؤساء الوفود، نصفهم من الدول النامية ونصفهم الآخر من الدول الصناعية، يجتمعون في مشاورات غير رسمية لإيجاد حل للقضايا المعلّقة. وبعد مباحثات استمرت يومين كاملين في حجرة مغلقة تم التوصل إلى حل. وقد كان لطُلبة الدور الأساسي في إعداد صياغات توفيقية بين الدول النامية والدول الصناعية، وصولاً إلى صيغة مقبولة من الطرفين. وكما في الاتفاقيات البيئية اللاحقة، وأبرزها تلك المتعلقة بالمناخ، كان محور الخلاف حول تحديد درجات المسؤولية عن التلويث واستنزاف الموارد، تمهيداً لتوزيع الأعباء والتكاليف.

موبوتو سيسي سيكو رئيس زائير (الكونغو الديمقراطية حالياً) إلى جانب طُلبة في مؤتمر «استوكهولم +10» عام 1982 بمناسبة مرور 10 سنوات على تأسيس «يونيب»

ذهب موريس سترونغ بنتائج المؤتمر، إعلان استوكهولم وخطة العمل، إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في أكتوبر (تشرين الأول) 1972، وكان المؤتمر قد أوصى بإنشاء منظمة أو كيان ما في الأمم المتحدة لمتابعة تنفيذ توصياته. وبالفعل أنشأت الجمعية العامة برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) كما اقترحه المؤتمر، أي يتكوَّن من مجلس محافظين من 56 دولة تنتخبها الجمعية العامة، وصندوق تمويل، وسكرتارية يرأسها مدير تنفيذي، يُنتخب بواسطة الجمعية العامة للأمم المتحدة، بالإضافة إلى مجلس تنسيق مع منظمات الأمم المتحدة الأخرى يسمّى مجلس تنسيق البيئة. وكان الكندي موريس سترونغ أول مدير تنفيذي تنتخبه الجمعية العامة.
مع انطلاق برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) بداية 1973، تمنى سترونغ على طُلبة قبول ترشيحه كنائب للمدير التنفيذي «لأنه يحتاج إلى شخص قادر علمياً ومقبول من الدول النامية إلى جانبه». كان تبريره لذلك أن الدول النامية ما زالت غير متحمسة لقضية البيئة، ووجود أحد أبنائها في القيادة يحفزها على الاهتمام بالموضوع. وبعدما حصل الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك كورت فالدهايم على موافقة الحكومة المصرية، تم تعيين طُلبة نائباً للمدير التنفيذي للمنظمة الجديدة.
- من جنيف إلى نيروبي
بدأ برنامج الأمم المتحدة للبيئة عمله من مكاتب مؤقتة في جنيف، قبل أن ينتقل إلى مقره الدائم في نيروبي في أواخر صيف 1973. ويتذكر طلبه أن اختيار نيروبي مقراً للبرنامج لم يكن أمراً سهلاً. فعند إقرار إنشاء «يونيب»، عرضت كينيا مشروع قرار يصدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة من فقرتين، تنصّ الأولى على أن أي منظمة جديدة تُنشأ في الأمم المتحدة لا بد أن يكون مركزها الرئيسي في دولة نامية، إذ لم يكن هناك أي منظمة في ذلك الوقت خارج أميركا الشمالية وأوروبا الغربية. وتنصّ الفقرة الثانية من مشروع القرار على اختيار نيروبي مقراً للمنظمة الجديدة.

المقر المؤقت لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) في نيروبي 1975

وافقت كل الدول النامية على الفقرة الأولى، ودار تنافس على مقر البرنامج بين المكسيك والهند وكينيا. فازت نيروبي، عاصمة كينيا، لأنها اعتبرت الأجمل جواً وطبيعة وموقعاً جغرافياً، وكان عرضها سخياً. فقد قدمت الحكومة الكينية للأمم المتحدة ناطحة سحاب جديدة في نيروبي تحمل اسم «مركز كينياتا للمؤتمرات»، نسبة إلى جومو كينياتا أول رئيس للجمهورية في كينيا. وتم تخصيص ستة عشر طابقاً في المبنى المكوَّن من 29 طابقاً للمنظمة الوليدة، تتكفل الحكومة الكينية بدفع نصف إيجارها لمدة خمس سنوات، بالإضافة إلى مائة فدان من الأراضي في منطقة غابات جيجيري خارج نيروبي مباشرة.
ويروي طُلبة أنه، بعد سنتين من العمل في نيروبي، اقترح موريس سترونغ على الحكومة الكينية أن تدفع مقدماً قيمة مساهمتها في إيجار المقر عن السنوات الثلاث الباقية، ووافقت الحكومة الكينية على ذلك. أبلغ سترونغ بعدها مجلس المحافظين في «يونيب» أنه حصل على مليون دولار، هو نصيب الحكومة الكينية في الإيجار عن السنوات الثلاث التالية. وطلب موافقة المجلس على قبول هذا المبلغ، على أن يستدين من صندوق المنظمة مليون دولار أخرى ليشيّد مبنى خاصاً ببرنامج الأمم المتحدة للبيئة على الأرض التي قدمتها كينيا، وأن يُعيد المبلغ إلى صندوق المنظمة على أقساط سنوية تعادل قيمة الإيجار بعد الانتقال إلى المبنى الجديد. وافق المجلس، وشيّد «يونيب» مبنى بسيطاً تسلمه في نهاية 1975، كما شغلت المكاتب الإقليمية لمنظمات أخرى أقساماً منه بالإيجار.
بعد أقل من ثلاث سنوات على إدارته لـ«يونيب»، أقنع موريس سترونغ الحكومة الكندية بإنشاء مؤسسة وطنية للطاقة، تم تعيينه رئيساً لها، وترك «يونيب» في نهاية 1975. عقب هذا، انتخبت الجمعية العامة للأمم المتحدة مصطفى كمال طُلبة مديراً تنفيذياً للبرنامج لأربع سنوات، وتم تجديد ولايته أربع مرات حتى عام 1992.
وكان «يونيب» قد انتقل عام 1984 إلى مكاتبه الدائمة، التي شيّدها بالاشتراك مع منظمات أخرى في الأمم المتحدة، في طليعتها برنامج المستوطنات البشرية (هابيتات). وضمّ المقر، الذي بُني في أحضان الطبيعة، مركزاً حديثاً للمؤتمرات. وكانت قد فازت بعقد البناء شركة عبد المحسن الخرافي الكويتية، نتيجة لمناقصة عالمية، من بين المشاركين فيها شركة إسرائيلية. ونتج عن هذا احتجاجات شديدة، اتهمت مصطفى طُلبة بالانحياز، ووصلت إلى حد تقديم شكوى إسرائيلية إلى الرئيس المصري أنور السادات، تتهم طُلبة بالعمل ضد معاهدة السلام، لكنه نجح بحنكته الدبلوماسية في الخروج من المأزق.
- بين مطرقة الاستخبارات وسندان إسرائيل
ويتذكر طلبه مشكلتين واجهتاه مع الولايات المتحدة بعد قضية المقر، كانت وراءهما السياسة. الأولى عام 1987 حين كانت الحرب الباردة على أشدّها بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. فقد أبلغ البيت الأبيض نيّته إلغاء الدعم الطوعي الذي تقدمه الولايات المتحدة إلى «يونيب»، ومقداره عشرون مليون دولار، لأن المنظمة، في رأيهم، «مفتوحة لرجال الاستخبارات السوفيات كي ينقلوا كل شيء إلى حكومتهم». ويعلّق طُلبة أن هذا بدا أمراً غريباً، رغم الحرب الباردة. «فمنذ بدء عمل (يونيب) كان في المناصب الكبرى الأميركي بيتر ثاتشر، الذي كان يعمل أصلاً في وكالة الاستخبارات الأميركية، والروسي سفين أفتييف. وكلّنا كان يعلم أن الترشيح لأي منصب كبير في الأمم المتحدة من الاتحاد السوفياتي لم يكن يتم إلا إذا كان للمرشح وضع خاص مع الاستخبارات السوفياتية». وبعدما اعترض طُلبة على الملاحظات الأميركية، قررت الولايات المتحدة الاستمرار في تسديد مساهمتها. فبعدما لمَّح إلى تشابه الممارسات الأميركية والسوفياتية، أوضح أنه ليس لدى البرنامج أي أسرار لا يعرفها كل مندوبي الدول الدائمين المعتمدين لديه في اللقاءات الشهرية التي تُعقد معهم.
أما المشكلة الثانية مع الولايات المتحدة فحصلت عام 1991 حين هدد أعضاء في مجلس الشيوخ الأميركي بعدم الموافقة على المساهمة في ميزانية «يونيب» لعدم تعيين موظفين ومستشارين إسرائيليين فيه ولعدم قيام المدير التنفيذي بزيارتها. وكان رد طُلبة أن التعيين يتم بناءً على اقتراح لجنة شؤون العاملين، التي تختار أفضل ثلاثة مرشحين تقدمهم إلى المدير التنفيذي للاختيار من بينهم. وإذا لم تقدم اللجنة أي اسم من إسرائيل، فهذا يعني أن إسرائيل لا ترشح إلا من هم في مستوى متواضع من القدرة العلمية لا يرقى إلى مستوى المنافسة مع مرشحي الدول الأخرى. كما شرح طُلبة أنه عيّن أحد الإسرائيليين مستشاراً في مكتب اتفاقية برشلونة لحماية البحر المتوسط في أثينا، لكنه عمل لأشهر معدودة، استقال بعدها لأنه لم يستطع التأقلم مع زملائه في المكتب. أما عن زيارة إسرائيل، فوعد بتلبية الدعوة حين يتلقاها كرئيس منظمة دولية، لكنه أشار إلى قرار من المجلس التنفيذي لـ«يونيب» بأن يقدم له تقريراً سنوياً عن حالة البيئة في الأراضي المحتلة من فلسطين، ولا بد أن يتضمن برنامج الزيارة تنفيذ هذا الطلب. فما كان من أعضاء مجلس الشيوخ المحتجّين إلا الموافقة على المساهمة في الميزانية تجنباً للإحراج. ويعلّق طُلبة أنه «لم يكن لهذا أي علاقة بعمل المنظمة أو كفاءتها، ولكن الأمر كلّه كان مرتبطاً بدعم مجلس الشيوخ الأميركي لإسرائيل».
- البحار الإقليمية
كانت مشكلات البيئة التي حددها مؤتمر استوكهولم عام 1972 تتفاقم، وكان لا بد من التركيز على قضية التعاون الدولي في حلّها، لأنها جميعاً نتيجة النشاط الإنساني، ولكن نتائج هذا النشاط عابرة للحدود والقارات. وكان رأي طُلبة أن يبدأ «يونيب» بالمشكلات الإقليمية، انطلاقاً من البحر المتوسط، باعتبار أن المشكلات التي ترتبط بالبحار أقل تعقيداً من تلك الناجمة عن مصادر المياه العذبة، التي صُنّفت أيضاً بين الأولويات.
كان الكابتن كوستو، وهو بحّار فرنسي كرَّس نفسه لخوض غمار البحار والدعوة إلى محاربة التلوث فيها، قد جاب البحر المتوسط بسفينته الشهيرة «كاليبسو»، ثم أعلن في مؤتمر صحافي في باريس أن البحر المتوسط يموت بسبب التلوث. وكانت هذه فرصة مواتية لمحاولة عقد اتفاقية إقليمية بين كل الدول المطلة على البحر المتوسط، أُطلقت فكرتها عام 1974 لكن الدول العربية الثماني التي تطل على البحر المتوسط، بما فيها مصر والأردن، كانت في حالة حرب مع إسرائيل وترفض أن تجلس معها إلى طاولة الحوار، ناهيك بالمفاوضات. إضافةً إلى ذلك، كانت الجزائر والمغرب على خلاف مستمر بسبب الصحراء. ومن ناحية أخرى، كانت الدول العربية، أي دول جنوب وشرق البحر المتوسط، تُحمِّل الدول الصناعية في شماله مسؤولية التلوث، ولذا عليها أن تتحمل مسؤولية الإنقاذ. أما دول شمال البحر المتوسط، الأوروبية، فكانت ترى أن دول الجنوب هي المسؤولة عن التلوث بسبب ما تُلقيه في البحر من مخلّفات بشرية غير معالجة. وفي دول شمال المتوسط نفسها، كانت اليونان وتركيا على خلاف بسبب قبرص.
بعد حوار استمر شهوراً طويلة، نجح فريق طُلبة بإقناع الدول بأنْ لا بديل من التعاون لإنقاذ المتوسط، فجلست أخيراً إلى طاولة المفاوضات، بما في ذلك الدول العربية وإسرائيل. وانتهى الأمر إلى إقرار خطة عمل لحماية البحر المتوسط عام 1974 أعقبتها اتفاقية برشلونة عام 1975، وهي اتفاقية دولية ملزمة. وقد أقرّت الدول كلها خطة العمل ووقّعت على الاتفاقية، وأنشئت في أثينا سكرتارية للإشراف على التنفيذ.
عُدّ هذا أول نجاح لـ«يونيب» في تحقيق واحد من أهم أهداف حماية البيئة، مما شجّع دولاً في مناطق أخرى على مطالبة «يونيب» بإجراء مفاوضات توصلاً إلى اتفاقيات مماثلة لحماية البيئة البحرية. وهي تطورت لاحقاً لتشمل قضايا متشعبة أخرى، بينها التنوع البيولوجي والتصحر والنفايات الخطرة والأوزون والتغيُّر المناخي.

خفايا الاتفاقيات البيئية... من الأوزون إلى المناخ


مقالات ذات صلة

14 مشروعاً تحقق جوائز الابتكار العالمية للمياه في السعودية

الاقتصاد الأمير سعود بن مشعل نائب أمير منطقة مكة المكرمة خلال تكريمه الفائزين في الجائزة العالمية في جدة (إمارة منطقة مكة المكرمة)

14 مشروعاً تحقق جوائز الابتكار العالمية للمياه في السعودية

حقق 14 مبتكراً في 6 مسارات علمية جوائز النسخة الثانية من «جائزة الابتكار العالمية في تحلية المياه».

«الشرق الأوسط» (جدة)
الاقتصاد الأمانة العامة لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ تصفق بحرارة في الجلسة الختامية لمؤتمر «كوب 29» (د.ب.أ)

«كوب 29»: مضاعفة التمويل المناخي إلى 300 مليار دولار

بعد أسبوعين من النقاشات الحامية، انتهى مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية (كوب 29)، باتفاق على مضاعفة التمويل المتاح لمساعدة الاقتصادات النامية.

«الشرق الأوسط» (باكو)
يوميات الشرق عرض جزيئات بلاستيكية دقيقة تم جمعها من البحر باستخدام مجهر بجامعة برشلونة (أرشيفية - رويترز)

أنشطة منزلية تزيد من تعرضك للجزيئات البلاستيكية الضارة... تعرف عليها

حذر علماء من أن الأنشطة المنزلية اليومية مثل طي الملابس والجلوس على الأريكة قد تنبعث منها سحب من البلاستيك الدقيق.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد رئيس «كوب 29» مختار باباييف يصفق خلال الجلسة العامة الختامية لقمة الأمم المتحدة للمناخ (أ.ب)

«كوب 29» يسدل ستاره بالاتفاق على تمويل مناخي بـ300 مليار دولار

اتفقت دول العالم، بعد أسبوعين من المفاوضات الشاقة، على هدف تمويل سنوي بقيمة 300 مليار دولار لمساعدة الدول الأكثر فقراً على مواجهة آثار تغير المناخ.

«الشرق الأوسط» (باكو)
الاقتصاد رجل يحمل حقيبة سفر بالقرب من مدخل مكان انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ COP29 في باكو (رويترز)

أميركا وأوروبا ودول أخرى ترفع التمويل المناخي للدول النامية إلى 300 مليار دولار

وافق الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ودول أخرى خلال قمة الأمم المتحدة المعنية بتغير المناخ (كوب29) على زيادة عرضها لهدف التمويل العالمي إلى 300 مليار دولار

«الشرق الأوسط» (باكو)

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيتوّجه إلى غزة في خضّم الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل، كان يعرف أكثر من غيره أنها خطوة شبه مستحيلة، لكنه أراد إطلاق رسائله الخاصة، وأهمها على الإطلاق أن السلطة الفلسطينية «موجودة»، وهي «صاحبة الولاية» على الأراضي الفلسطينية،

سواء في غزة التي تئن تحت وطأة حرب مدمّرة، وتضع لها إسرائيل خططاً شتى لما تسميه «اليوم التالي»، من غير أن تأخذ السلطة بالحسبان، أو الضفة الغربية التي ترزح تحت وطأة حرب أخرى، تستهدف من بين ما تستهدف تفكيك السلطة.

وبعد عام على الحرب الأكثر مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، تخوض السلطة أصعب معركة عرفتها يوماً، وهي معركة «البقاء».

ولم تقتصر رسائل عباس على إسرائيل وحدها، بل شملت أولاً الولايات المتحدة التي انخرطت في نقاشات واسعة مع إسرائيل حول احتمالات انهيار السلطة، وراحت تتحدث عن سلطة متجددة، وثانياً، دولاً إقليمية وعربية تناقش مستقبل السلطة وشكل الهيئة التي يفترض أن تحكم قطاع غزة بعد الحرب، وأخيراً الفصائل الفلسطينية التي تهاجم و«تزايد» على السلطة، وترى أنها غير جديرة بحكم غزة، وتدفع باتجاه حلها.

الأيام الأصعب منذ 30 عاماً

تعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً.

فبعدما تقلصت المساحات التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية، وفيما هي تكابد بلا انتخابات رئاسية، وبلا مجلس تشريعي، أو أفق سياسي واقتصادي، وبالتزامن مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، وجدت هذه السلطة نفسها في مواجهة «طوفان» جديد؛ طوفان تغذيه أكثر حكومة يمينية تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، وفيه كثير من المس بهيبتها وبرنامجها السياسي ووظيفتها، إلى الحد الذي يرتفع فيه السؤال حول إمكانية نجاتها أصلاً في الضفة، قبل أن تعود لتحكم غزة ثانية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال كلمته في الأمم المتحدة بنيويورك (إ.ب.أ)

وبين الفينة والأخرى يتردد سؤال معقد بعض الشيء، ويبدو منطقياً أحياناً، وغير بريء أحياناً أخرى، وهو: لماذا لا تحل السلطة نفسها؟

هذا سؤال يبرز اليوم مجدداً، مع توسيع إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وإن كان في صيغة مختلفة كالقول: لماذا لا تسلم السلطة المفاتيح لإسرائيل، وتزيد عليها الضغوط؟

الأكيد أن السلطة لا تُخطط لحل نفسها، وهذا ينطلق من «قناعة وطنية» بأنها وجدت لنقل الفلسطينيين من المرحلة الانتقالية إلى إقامة الدولة، وأنها لا تعمل وكيلاً لدى لاحتلال.

ويعرف المسؤولون الفلسطينيون أنه لطالما أرادت إسرائيل أن تجعل السلطة وكيلاً أمنياً لها، لكنهم يقولون في العلن والسر، إنهم ليسوا قوات «لحد» اللبنانية، وإنما هم في مواجهة مفتوحة لإنهاء الاحتلال، وهذا سبب الحرب التي تشنّها تل أبيب على السلطة سياسياً وأمنياً ومالياً.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول جهاز المخابرات السابق: «إن السلطة لا تنهار لأنها نتاج طبيعي لنضال طويل للثورة الفلسطينية، وستبقى حتى إقامة الدولة».

هل هو قرار فلسطيني وحسب؟

ربما يرتبط ذلك أكثر بما ستؤول إليه الحرب الحالية الآخذة في الاتساع، وهي حرب يتضح أنها غيّرت في عقلية الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وفي نهج وسلوك وتطلعات الطرفين، وماضية نحو تغيير وجه الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمتنع حتى الآن عن وضع خطة واضحة لما بعد الحرب، لا في الضفة ولا في غزة، يجاهر أركان حكومته وحلفاؤه بما سيأتي، وهي خطة على الأقل واضحة جداً في الضفة الغربية، وتقوم على تغيير الواقع والتخلُّص من السلطة وإجهاض فكرة إقامة الدولة.

وقد بدأ الانقلاب على السلطة بوضوح بعد شهرين فقط من بدء الحرب على القطاع، نهاية العام الماضي، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تصريحات فهمتها الرئاسة الفلسطينية فوراً، قائلة إنها تعبر عن نياته المبيتة لاستكمال الحرب على الفلسطينيين من خلال السلطة بعد «حماس»، وفي الضفة بعد غزة.

تصريحات نتنياهو التي جاءت في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أعقبها توضيح بالغ الأهمية من نتنياهو ومفاده أن «الفارق بين السلطة و(حماس) هو أن الأخيرة تريد إبادتنا حالاً، أما السلطة فتخطط لتنفيذ ذلك على مراحل».

فلسطينيون في وقفة احتجاجية في مدينة رام الله بالضفة الغربية الثلاثاء طالبوا بالإفراج عن جثامين أسراهم في سجون إسرائيل (أ.ف.ب)

ويفسر هذا الفهم لماذا عَدّ نتنياهو أن اتفاق «أوسلو» كان خطأ إسرائيل الكبير، موضحاً أن «السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و(حماس) في غزة يريدان تدمير إسرائيل... طرف يقول ذلك صراحة، والآخر يفعل ذلك من خلال التعليم والمحكمة الجنائية الدولية».

وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه الأوضح الذي يكشف جزءاً من خطته القائمة على تقويض السلطة. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.

الضفة مثل غزة ولبنان

وصعّدت إسرائيل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وقتلت أكثر من 720 فلسطينياً، في هجمات متفرقة، تميّزت بإعادة استخدام الطائرات في عمليات اغتيال، وتنفيذ عمليات واسعة.

وكان لافتاً أن التصعيد في الضفة كان مبادرة إسرائيلية، إذ هاجم الجيش مدناً ومخيمات وبلدات، وراح يقتل الفلسطينيين قصفاً بالطائرات ويعتقلهم، كما يدمر البنى التحتية، مستثيراً الجبهة الضفَّاوية، بحجة ردع جبهة ثالثة محتملة.

اليوم لا تكتفي إسرائيل بالمبادرة، بل تريد أن تجعل الضفة أحد أهداف الحرب، مثل غزة ولبنان. ولم يتردد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بالقول إن الحرب التي تخوضها إسرائيل «ليست فقط ضد غزة وضد (حزب الله) اللبناني، بل هي أيضاً في الضفة»، مؤكداً أنه طلب من رئيس الوزراء أن يدرج ضمن أهداف الحرب تحقيق النصر في الضفة أيضاً.

لكن لماذا تخشى إسرائيل الضفة إلى هذه الدرجة؟ يقول مسؤول فلسطيني -فضّل عدم الكشف عن اسمه- لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يستهدفون الضفة لضرب المشروع الوطني الفلسطيني، ويسعون إلى تقويض السلطة».

وأضاف: «يصعّدون هنا حتى يثبتوا للفلسطينيين أن السلطة ضعيفة وواهنة ولا تحميهم، ويجب أن ترحل، لأنها غير جديرة بهم».

قوات إسرائيلية خلال عملية اقتحام لمخيم فلسطيني قرب رام الله بالضفة مارس الماضي (أ.ف.ب)

وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، حذّرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن الوضع الأمني في الضفة قد يتطور إلى انتفاضة؛ ولذلك دفع الجيش بـ3 كتائب احتياط إلى الضفة، لأهداف «تشغيلية ودفاعية» على ما قال، وللقيام بمهام «عملياتية».

وجاء القرار الذي تحدّث عن تعزيز الدفاع، وسط تصاعد الصراع في المنطقة وقبيل ذكرى السابع من أكتوبر، لكن إذا كانت هذه خطة الحكومة الإسرائيلية، فيبقى من السابق لأوانه معرفة إن كانت نجحت في مهمتها أم لا.

يكفي لجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تشير إلى أن السلطة في وضع لا تحسد عليه. فهي عاجزة عن خلق أفق سياسي وأفق اقتصادي وتوفير الأمن، وأساسيات أخرى من بينها رواتب الموظفين للعام الثاني على التوالي.

واليوم، الجميع على المحك في مواجهة حرب ممنهجة، تسعى إلى تغيير الواقع مرة وإلى الأبد.

خطة قديمة جديدة

كان الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموترتيش، واضحاً عندما قال إنه لا يفعل شيئاً سرياً، وهو يعمل ضد السلطة في الضفة، ويسعى لمنع إقامة دولة.

وتعهد سموتريتش نهاية الشهر الماضي، بأن تكون «مهمة حياته» إحباط قيام دولة فلسطينية، وكتب في منشور على منصة «إكس»: «أخذت على عاتقي، إضافة إلى منصب وزير المالية، مسؤولية القضايا المدنية في يهودا والسامرة (الضفة)».

وأضاف: «سأواصل العمل بكل قوتي حتى يتمتع نصف مليون مستوطن موجودين في الضفة بحقوق كل مواطن في إسرائيل وإثبات الحقائق على الأرض، التي تمنع قيام دولة إرهابية فلسطينية يمكن أن تكون قاعدة إيرانية أمامية للمجزرة المقبلة».

فلسطينيون يحتفلون فوق صاروخ إيراني صقط في رام الله (أ.ف.ب)

وكان تسجيل مسرب لسموتريتش قبل شهرين فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية.

وخطة سموترتيش الماضية، ستعني حتماً تفكيك السلطة، لكن المحلل السياسي محمد هواش يرى أن العالم لن يسمح بذلك.

وقال هواش لـ«الشرق الأوسط»: «إن السلطة مرتبطة بالمشروع القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وهذا جزء من تسوية دولية. مشروع دولي بالأساس، وهناك حتى الآن رعاية دولية له، ومن الصعب التراجع عنه».

وأضاف هواش: «التراجع يعني إعادة الاحتلال، وهذا غير مقبول فلسطينياً ودولياً، وإسرائيل لن تقبل، لأنها ستذهب إلى دولة واحدة ونظام (أبرتهايد)».

وتابع هواش: «لا توجد مصلحة لإسرائيل بإنهاء السلطة بالكامل، بل في إضعافها حتى تتوقف مطالبها بإنهاء الاحتلال، وتغير العلاقة مع إسرائيل». وحذر من أن «إسرائيل ستتحمل العبء الأكبر من غياب عنوان سياسي للشعب الفلسطيني».

الثابت الوحيد اليوم أنه لا أحد يملك وصفة سحرية، سواء أذهبت السلطة أم بقيت، قويت «حماس» أم ضعفت، امتدت الحرب أم انتهت، تطرفت إسرائيل أكثر أم تعقّلت، سيظل يوم السابع من أكتوبر شاهداً على أن الطريق الأقصر للأمن والاستقرار هو بصنع السلام، وليس بطائرات حربية ومدافع ورشاشات.