خفايا الاتفاقيات البيئية... من الأوزون إلى المناخ

50 عاماً على مؤتمر استوكهولم حول البيئة البشرية (2 ـ 2)

غرو هارلم برونتلاند رئيسة وزراء النرويج، توقع معاهدة التنوع البيولوجي بالنيابة عن بلادها خلال مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية في ريو دي جانيرو يونيو 1992
غرو هارلم برونتلاند رئيسة وزراء النرويج، توقع معاهدة التنوع البيولوجي بالنيابة عن بلادها خلال مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية في ريو دي جانيرو يونيو 1992
TT

خفايا الاتفاقيات البيئية... من الأوزون إلى المناخ

غرو هارلم برونتلاند رئيسة وزراء النرويج، توقع معاهدة التنوع البيولوجي بالنيابة عن بلادها خلال مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية في ريو دي جانيرو يونيو 1992
غرو هارلم برونتلاند رئيسة وزراء النرويج، توقع معاهدة التنوع البيولوجي بالنيابة عن بلادها خلال مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية في ريو دي جانيرو يونيو 1992

يُختتم اليوم في عاصمة السويد مؤتمر «استوكهولم +50»، احتفالاً بمرور نصف قرن على «مؤتمر الأمم المتحدة حول البيئة البشرية»، الذي نتج عنه إنشاء برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب). بعد الحديث في حلقة أولى عن تأسيس «يونيب» وانطلاق عمله في التعاون الدولي لحماية البيئة، ابتداءً من خطة البحر المتوسط، نتابع تحليل أبرز الاتفاقيات البيئية الدولية التي قادها البرنامج، من الأوزون إلى التنوع البيولوجي وتغيُّر المناخ والتصحر. ويستند العرض إلى ذكريات وحوارات مع رائد «دبلوماسية البيئة» الدكتور مصطفى كمال طُلبة، الذي قاد «يونيب» منذ تأسيسه حتى عام 1992.
بعد نجاح برنامج الأمم المتحدة للبيئة في التعامل مع المشاكل البيئية في عدد من البحار على المستوى الإقليمي، انتقل في أوائل الثمانينات إلى مواجهة مشاكل البيئة العالمية. وكانت البداية حماية طبقة الأوزون في أعلى طبقات الجو، أو ما يسمى الأوزون الستراتوسفيري، الذي يحمي البشر من الأشعة فوق البنفسجية، المسؤولة عن سرطان الجلد وعتامة العين (الكاتراكت)، التي يمكن أن تؤدي إلى العمى، ونقص المناعة.

مديرو «يونيب» التنفيذيون الأوائل (من اليسار): موريس سترونغ ومصطفى كمال طُلبة وإليزابيث داودزويل، كلاوس توبفر

حين تراكمت الأدلة على أن هناك نقصاً مستمراً في طبقة الأوزون العلوي، وافقت الدول على بدء المفاوضات لإعداد اتفاقية لحماية طبقة الأوزون. واستمرت المفاوضات من 1982 حتى 1985. وصولاً إلى اتفاقية فيينا، التي لم تتضمن أي التزامات سوى التعهد بضرورة استمرار البحوث العلمية. ومع ظهور الخلاف بين الدول الصناعية والدول النامية للاتفاق حول من يتحمل كلفة التحوُّل، نجح مصطفى طُلبة في إقناع الدول الصناعية بمنح الدول النامية في الاتفاقية عشر سنوات سماح قبل تطبيق الإجراءات التي يتم الاتفاق عليها.
فوافقت الدول الصناعية وارتاحت الدول النامية. وكان هذا أساس اعتماد مبدأ «المسؤولية المشتركة ولكن المتباينة» في اتفاقيات لاحقة، خاصة المناخ.

مدخل مقر «يونيب» الجديد بين أحضان الطبيعة في نيروبي

لكن تباينات كبيرة ظهرت بين الولايات المتحدة وكندا ودول الشمال الأوروبي من جانب، والاتحاد السوفياتي والصين واليابان من جانب آخر، لأسباب اقتصادية وسياسية. كان لا بد من إيجاد حل وسط، فانتهى الأمر إلى الموافقة على مبدأ عرضه طُلبة، وهو الاكتفاء بتخفيض الإنتاج والاستخدام بمقدار 50 في المائة عام 2000 عمّا يكون عليه عام 1990. الأمر الذي يتيح لمن ليس لديهم بدائل للكلوروفلوروكربونات أن يحصلوا عليها. وتم إقرار ذلك في المؤتمر الوزاري الذي عُقد في مونتريال في سبتمبر (أيلول) 1987.
- صندوق الأوزون
في بداية 1989 دخلت اتفاقية مونتريال حيز التنفيذ، وعقدت الدول المصدقة عليها اجتماعها الأول في هلسنكي، عاصمة فنلندا. وقد أثارت الدول النامية في ذلك الاجتماع، ولا سيما الصين والهند، ضرورة أن يكون هناك صندوق خاص لمساعدة الدول النامية مالياً على تنفيذ التزامات الاتفاقية. لكن الدول الصناعية عارضت فكرة إنشاء صندوق خاص لهذا الغرض.
وقد انقلب الموقف حين عُقد مؤتمر الأطراف التالي في لندن في يونيو (حزيران) 1990، إذ كانت أوروبا متحمسة لتنفيذ الاتفاقية، لأن شركاتها الصناعية قاربت الوصول إلى البدائل عن الكلوروفلوروكربونات، مما يؤذن بتحقيق مكاسب ضخمة. وقد ساعد هذا في الاتفاق على إنشاء صندوق الأوزون بميزانية أولية بلغت 240 مليون دولار في السنوات الثلاث الأولى. كما وافق المؤتمر على ما طرحه طُلبة أثناء مفاوضات بروتوكول مونتريال، وهو أن ينتهي إنتاج واستخدام المواد المستنفدة للأوزون كلياً سنة 2000، بدلاً من 50 في المائة التي أقرّها البروتوكول. وما لبثت الدول أن قدمت هذا التاريخ إلى سنة 1997. ونجحت في جميع المراحل. وقد اعتبر بروتوكول مونتريال الاتفاقية النموذجية للتعامل مع المشاكل البيئية العالمية. ويعتقد كثيرون أن النجاح في التعامل الناجح مع قضية التغيُّر المناخي يتطلب اعتماد النهج الذي طبّقه مصطفى طُلبة في قضية الأوزون، أي تقديم الإثباتات العلمية، ووضع برنامج قابل للتطبيق، وتأمين التمويل المناسب.

مصطفى طُلبة مع نجيب صعب في مؤتمر صحافي لإطلاق المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) يونيو (حزيران) 2006

- تغيُّر المناخ
برزت قضيّتا تغيُّر المناخ وفقدان التنوع البيولوجي إلى السطح خلال الفترة الأخيرة لإعداد بروتوكول مونتريال واتفاقية بازل للنفايات الخطرة. عقد «يونيب» مؤتمراً دولياً في جنيف عام 1989 عن تغيُّر المناخ، بالاشتراك مع منظمة الأرصاد الجوية وبالتعاون مع منظمة اليونيسكو ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة. وقد أصدر المؤتمر عدداً من التوصيات، بعد دراسة كل المعلومات العلمية المتاحة، كان أهمها ضرورة بدء مفاوضات للوصول إلى اتفاقية تتضمن إجراءات محددة لتخفيض الانبعاثات الغازية التي تؤدي إلى ارتفاع معدل درجة حـرارة العالم، وفي مقدمها ثاني أكسيد الكربون.
وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على التوصية، ولكن بعض الدول الصناعية حاولت ألا تترك «يونيب» مرة أخرى في قيادة المفاوضات. وَوِفق طُلبة، كان واضحاً أن هذه الدول لم تكن ترغب في إنشاء صندوق آخر على غرار صندوق الأوزون. لذا أنشئت لجنة حكومية للتفاوض وسكرتارية خاصة تتبع الأمين العام للأمم المتحدة في نيويورك، تضم في عضويتها برنامج الأمم المتحدة للبيئة. ويروي طُلبة أنه في أحد الاجتماعات التفاوضية في واشنطن، تحدث الرئيس جورج بوش الأب، الذي تحاشى تماماً أي ذكر لمصطلحات ارتفاع معدل درجة حرارة الأرض أو الاحترار العالمي أو الاحتباس الحراري، وطالب بمزيد من الدراسات والبحوث، ولم يقترح أي إجراءات لتخفيض الانبعاثات. وقد جاءت الاتفاقية الإطارية لتغيُّر المناخ، التي فُتحت للتوقيـع في مؤتمر قمة الأرض في البرازيل عام 1992، معبّرة عن ذلك، إذ اقتصرت على التعاون في البحوث والدراسات بلا التزامات.
وكان مصطفى طُلبة عمل في نهاية عام 1989 على إنشاء «اللجنة الحكومية المعنية بتغيُّر المناخ»، بالتعاون بين «يونيب» ومنظمة الأرصاد الجوية العالمية. وتفرّعت عنها ثلاث لجان، الأولى تدرس نتائج البحوث العلمية حول الموضوع، والثانية ترصد آثار تغيُّر المناخ، والثالثة تتابع الاستجابات للتعامل مع القضية. وأصدرت اللجنة منذ ذلك الوقت مجموعة تقارير، أصبحت المراجع الحقيقية لأي إجراءات تُتّخذ في التعامل مع قضية تغيُّر المناخ، وشكّلت الأساس العلمي للالتزامات اللاحقة. وذلك يتدرّج من تخفيض الانبعاثات الكربونية إلى تدابير التكيُّف، بدءاً من بروتوكول كيوتو، الذي ينصّ على أن تخفض الدول الصناعية قرابة 5.5 في المائة من انبعاثاتها بحلول عام 2012، إلى التزامات قمّتي المناخ في باريس وغلاسكو. لكن الموقف الأميركي ما زال يتأرجح وفقاً لسياسات الحزب الحاكم المتغيرة كل أربع أو ثماني سنوات.
- التنوع البيولوجي
بالتزامن مع بدء الحديث عن قضية تغيُّر المناخ، بدأ العالم يتنبّه إلى الخسارة في التنوع البيولوجي. وقد شكّل مجلس المحافظين في «يونيب» لجنة علمية لدراسة الموضوع، عرضت نتائجها على المجلس عام 1989. الذي قرر بدء المفاوضات للوصول إلى اتفاقية لحماية التنوع البيولوجي. وتركت الدول الصناعية المفاوضات لـ«يونيب» على أساس أنها محصورة بإنشاء حدائق نباتية ومحميات طبيعية. لكنها فوجئت بإدخال طُلبة قضية الأصول الوراثية، التي تنتقل من الدول النامية لتستخدمها الصناعات الكيميائية والدوائية في الدول الصناعية لإنتاج الأدوية والمواد الكيميائية والحصول على مكاسب ضخمة. ونجحت «يونيب» في أن تتضمن الاتفاقية نصاً يمنح دولة المصدر نصيباً من الأرباح في حال استخدام أي من هذه الأصول صناعياً.
ركّز جورج بوش الأب حملته الانتخابية ضد بيل كلينتون عام 1992 على مهاجمة الاتفاقية، مدعياً أنها سوف تؤثر سلباً على كل بيت في أميركا. وبعدما انتخب بوش رئيساً، سعى وفده في مؤتمر قمة الأرض في ريو دي جانيرو، الذي فُتحت فيه اتفاقيتا تغيُّر المناخ والتنوع البيولوجي للتوقيع، إلى تشجيع رؤساء الوفود على توقيع اتفاقية تغيُّر المناخ والامتناع عن توقيع اتفاقية التنوع البيولوجي، لكن الدول لم تستجب للدعوة. ويلاحظ طُلبة أن الاتفاقات الإقليمية والدولية المرتبطة بالبيئة أدّت إلى ظهور القانون الدولي للبيئة، كفرع مستقل من فروع القانون الدولي.
- قصة اتفاقية التصحر
في أعقاب موجة الجفاف التي تعرضت لها أفريقيا جنوب الصحراء خلال الفترة من 1968 إلى 1973. طالبت الدول الأفريقية الجمعية العامة للأمم المتحدة بتنظيم مؤتمر عن «التصحر». وكان هذا المصطلح، يُستخدم للمرة الأولى حينها، ولم يكن له تعريف محدد، سوى أن المقصود به كان التعبير عن تدهور الأراضي الذي نتج عن فترة الجفاف الأفريقي الشديد. وافقت الجمعية العامة على ذلك عام 1974. وأناطت ببرنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) الإعداد لعقد المؤتمر. وقد عرَّفت اللجنة التحضيرية التصحر بأنه انخفاض إنتاجية التربة إلى صفر اقتصادياً، وأن التصحر يأتي عن طريق سوء استخدام الأرض الزراعية أو استغلالها لغير أغراض الزراعة، كإقامة المباني والطرق والمطارات، إضافة إلى تأثير الجفاف وشحّ المياه. كما حددت الخسارة الناجمة عن استمرار التصحر بنحو 40 مليار دولار سنوياً، بينما يكلّف تنفيذ البرنامج المقترح للحد من زحف التصحر 2.4 مليار دولار سنوياً.
عند انعقاد المؤتمر الدولي الأول عن التصحر عام 1977 في نيروبي، اعتبرت الدول الصناعية التصحر مشكلة إقليمية تخص أفريقيا وحدها. ولما شرح العلماء أن التصحر يصيب أكثر من قارة وأن الغرب ليس بعيداً عن آثاره، بسبب اضطرار الأفارقة إلى الهرب نحو الشمال، أدركت الدول جميعاً أن المشكلة أكبر من أن تكون إقليمية، وتوافقت بالإجماع على خطة عمل. واستمر «يونيب» في تنفيذ البرنامج الذي أقرّه المؤتمر، بميزانية متواضعة، إلى أن عقد مؤتمر قمة الأرض في ريو دي جانيرو عام 1992، الذي أوصى الجمعية العامة للأمم المتحدة ببدء المفاوضات من أجل الوصول إلى اتفاقية لمكافحة التصحر. وبعد سنوات من المفاوضات، دخلت الاتفاقية حيز التنفيذ عام 1996. واستمر تنفيذ اتفاقية التصحر ببطء حتى عام 2002، حين أضافتها قمة التنمية المستدامة في جوهانسبورغ إلى القضايا التي يمولها مرفق البيئة العالمي. وكانت معظم الدول الغربية ما زالت لا تعتبر التصحر قضية عالمية، بل مشكلة محصورة في أفريقيا، قبل أن يطرق التصحر أبواب دول الشمال نفسها بفعل تغيُّر المناخ، وتنشأ في أوروبا نفسها هيئة مختصة بقضايا التصحر في القارة. ومع هذا، فقد ظهر جلياً من حجم ونوع المشاركة في المؤتمر الخامس عشر للدول الأعضاء في الاتفاقية، الذي عُقد الأسبوع الماضي في أبيدجان، عاصمة ساحل العاج، أن المفهوم العام ما زال يعتبر التصحر مشكلة أفريقية في الأساس.
- التعاون طريق الحل
عندما بدأ العمل للحد من استخدام الغازات الضارة بالأوزون، اعترض مستثمرون قالوا إنهم اشتروا مصانع لإنتاج أجهزة التكييف والتلفزيونات والثلاجات وغيرها، وهذه كلها تستخدم الفريون (أحد الكلوروفلوروكربونات). وطالبوا كشرط للالتزام بالاتفاقية تعويضهم ثمن المصانع القديمة وتأمين المواد البديلة. التسوية التي ابتدعها مصطفى طُلبة في حينه قامت على تعويض ما تبقى من قيمة المصنع القديم، بناء على عمره الافتراضي، وفرق السعر بين الكلوروفلوروكربونات والمواد البديلة، أي «الكلفة الإضافية» التي يتكبّدها صاحب المصنع وليس ثمن المصنع الجديد كلّه. فإذا كان عمر المصنع الافتراضي قد انتهى، لا يُدفع لصاحبه سوى فرق ثمن بديل الكلوروفلوروكربونات. وكان طُلبة يعتقد أنه يمكن تطبيق هذه الآلية في قضية تخفيض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
الواقع أنه لا أحد يريد أن يضع كل أوراقه على طاولة المفاوضات دفعة واحدة: قضية إنتاج انبعاثات غازات الدفيئة لكل فرد في كل دولة، كمية الانبعاثات نسبة إلى كل دولار من الناتج المحلي، الإنتاج التراكمي لغازات الدفيئة في كل دولة، البدائل، المعونات المالية والفنية اللازمة. لكن لا بد أن تناقَش كل هذه الأمور بجدية وشفافية، مع الاستعداد للقاء في منتصف الطريق.
مصطفى كمال طُلبة كان يؤمن أن أخطر المشكلات البيئية العالمية وأكثرها تعقيداً هي قضية تغيُّر المناخ. ويجدر اليوم، في الذكرى الخمسين لإعلان استوكهولم وتأسيس برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب)، الالتزام مجدداً بدعوته إلى التعاون للاتفاق على تسويات مقبولة، واتخاذ قرارات حاسمة بالنسبة إلى عمليات التنمية الاجتماعية والنمو الاقتصادي. وكأن طلبة يذكّرنا اليوم أن الدبلوماسية البيئية ما زالت قادرة على اجتراح نجاحات لا تقل عن اتفاقية الأوزون.

أسرار ولادة «يونيب» كما يرويها مؤسس مفهوم «دبلوماسية البيئة»


مقالات ذات صلة

لماذا يطالب ترمب بجزيرة غرينلاند وقناة بنما؟

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب يتحدث خلال فعالية في فينيكس بولاية أريزونا الأميركية... 22 ديسمبر 2024 (رويترز)

لماذا يطالب ترمب بجزيرة غرينلاند وقناة بنما؟

يسعى ترمب من خلال مطالبته بالسيطرة على جزيرة غرينلاند وقناة بنما، لتحقيق مصالح اقتصادية وأمنية كبيرة للولايات المتحدة، لا سيما على حساب الصين.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
علوم 5 قضايا مناخية رئيسة أمام المحاكم عام 2025

5 قضايا مناخية رئيسة أمام المحاكم عام 2025

دعاوى مشروعة للدول الفقيرة وأخرى ارتدادية من الشركات والسياسيين

جيسيكا هولينغر (واشنطن)
بيئة منطقة سكنية غارقة بالمياه جرّاء فيضان في بتروبافل بكازاخستان 13 أبريل (رويترز)

الأمم المتحدة: التغير المناخي تسبّب في ظواهر مناخية قصوى عام 2024

أعلنت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية أن التغير المناخي تسبّب في أحوال جوية قصوى وحرارة قياسية خلال عام 2024، داعيةً العالم إلى التخلي عن «المسار نحو الهلاك».

«الشرق الأوسط» (جنيف)
بيئة تغير المناخ جعل ارتفاع درجات الحرارة أكثر ترجيحاً بمختلف أنحاء العالم (رويترز)

تغيّر المناخ أضاف 41 يوماً من الحرارة الخطيرة بمختلف أنحاء العالم عام 2024

ذكرت مجموعة من العلماء أن البشر في جميع أنحاء العالم عانوا من متوسط 41 يوماً إضافياً من الحرارة الخطيرة، هذا العام؛ بسبب تغير المناخ الناجم عن الإنسان.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شمال افريقيا أشخاص يسيرون في أحد الشوارع خلال موجة حر في العاصمة التونسية تونس 11 أغسطس 2021 (رويترز)

صيف تونس الماضي سجّل رابع أشد حرارة في البلاد منذ عام 1950

سجّل صيف 2024 في تونس رابع أشد حرارة صيف عرفته البلاد منذ عام 1950. وبلغ متوسط الحرارة في صيف هذا العام 29.5 درجة بفارق 1.5 درجة عن المتوسط العادي.

«الشرق الأوسط» (تونس)

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
TT

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)

تابعت طيلة سنوات إرهاصات التيّار السياسي والعقائدي الراسخ في أوساط اليسار والوسط واليمين، الذي يشكّك في قدرة الحرية وسيلةً تساعد على حل المشكلات الكثيرة التي يعزونها إلى «النيوليبرالية»، أو «الفكر الأوحد» كما درج على تسميتها فقهاء العلوم الاجتماعية والسياسية، وجعلوا منها كبش محرقة يحمّلونه كل المصائب الحاضرة والسابقة على مر التاريخ.

وليس مستغرباً أن هذا التيّار الذي يتبنّاه باحثون جهابذة من جامعات مرموقة مثل باريس، وهارفارد وأكسفورد، ويجهدون ليبيّنوا أن حرية السوق لا تؤدي سوى إلى مضاعفة ثروات الأغنياء ودفع الفقراء إلى مزيد من الفقر، وأن العولمة لا تؤتي نفعاً سوى للشركات الكبرى وتتيح لها استغلال الدول النامية وتدمير بيئتها بلا رادع أو حساب، أصبح أيضاً تيّاراً منتشراً على نطاق شعبي واسع يعتبر أن النيوليبرالية هي العدو الحقيقي للإنسان، وسبب كل الشرور التي يعاني منها، وما يصيبه من عذاب وفقر وتمييز وسوء معاملة وانتهاك للحقوق الأساسية. لكن هذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي نشهد فيها كيف أن نظرية مفبركة لخدمة مصالح معيّنة - اطلق عليها كارل ماركس Fetiche – تترسّخ وتؤدي إلى حدوث اضطرابات واسعة.

أنا ليبرالي، وأعرف الكثير من الليبراليين، وأكثر منهم غير ليبراليين. لكن على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟ ما الذي يدافع عنه ويناضل من اجله؟ الليبرالية، بخلاف الماركسية أو الفاشية، لا تبني صرحاً عقائدياً مغلقاً ومكتفياً بذاته من الأجوبة الجاهزة لمعالجة كل المشاكل الاجتماعية، بل هي معتقد يقوم على مجموعة محدودة نسبياً وواضحة من المبادئ الأساسية المبنية حول فكرة الدفاع عن الحرية السياسية والاقتصادية، أي الديمقراطية والسوق الحرة، ويتسع لعدد كبير من التيارات والاتجاهات.

لكن ما لم يقبله الفكر الليبرالي أبداً، ولن يقبله في المستقبل، هو هذا المسخ الذي ابتدعه أعداؤه تحت اسم «النيوليبرالية». «نيو» هو أن تكون شيئاً من غير أن تكونه، أن تكون داخل شيء وخارجه في الوقت نفسه، أن تكون على هامش فكرة أو مبدأ أو عقيدة من دون أن تتبناها كلياً. الهدف من هذا المصطلح ليس التعبير عن مفهوم قائم، بل هو استخدام الدلالة اللفظية لتشويه العقيدة التي ترمز، افضل من أي عقيدة أخرى، إلى الإنجازات الاستثنائية التي حققتها الحرية على مر تاريخ الحضارة البشرية.

هذا ما يجب علينا نحن الليبراليين أن نحتفي به بهدوء وابتهاج، وإدراك واضح لأهمية ما تمّ إنجازه، وأن ما يتبقّى علينا إنجازه أكثر أهمية. وبما أن دوام الحال من المحال، فإن الإنجازات التي تحققت خلال العقود المنصرمة في ثقافة الحرية هي عُرضة للمخاطر، وعلينا الدفاع عنها في وجه أعداء الديمقراطية اللدودين الذين خلفوا الفكر الشيوعي، مثل الشعبوية القومية والأصوليات الدينية.

بالنسبة إلى الليبراليين، كان الإنجاز الأهم خلال القرن الماضي الذي شهد الهجمات الاستبدادية الكبرى ضد ثقافة الحرية، هو أن العالم طوى صفحة الفاشية والشيوعية بعد فاصل مظلم من العنف والجرائم المشينة ضد حقوق الإنسان والحريات، وليس من مؤشر على نهوض هذه الأنظمة من رمادها في القريب المنظور.

المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر قادران على مواجهة «الغطرسة العقائدية» (أ.ف.ب)

مخلفات الأرخبيل الماركسي

لا شك في أنه ما زالت توجد بقايا من الفكر الفاشي، نجدها عند بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا التي تستقطب تأييداً متزايداً في الانتخابات، لكن هذه الفلول الفاشية ومخلفات الأرخبيل الماركسي الشاسع التي تجسدها اليوم كوبا وكوريا الشمالية، لم تعد تشكّل بديلاً يعتدّ به للديمقراطية أو تهديداً لها.

أنظمة الاستبداد ما زالت موجودة على نطاق واسع، لكن بخلاف الإمبراطوريات التوتاليتارية، تفتقر هذه الأنظمة إلى الهالة والطموحات المسكونية، لا، بل إن بعضها، مثل الصين، تسعى منذ فترة إلى التوفيق بين أحادية الحزب الواحد واقتصاد السوق والمؤسسة الخاصة. وفي مناطق واسعة من أفريقيا وآسيا، خصوصاً في المجتمعات الإسلامية، ظهرت دكتاتوريات أصولية تسببت في انتكاسات خطيرة على صعيد حقوق المرأة والتعليم والحريات الأساسية. لكن رغم الفظائع التي نشهدها في بلدان مثل أفغانستان والسودان وليبيا وايران، لم تعد هذه الدول تشكّل تحديات جدية لثقافة الحرية، وبات محكوماً عليها أن تبقى متخلفة عن ركب الحداثة التي قطعت فيه الدول الحرة شوطاً بعيداً.

إلى جانب ذلك، شهدت العقود الماضية تقدماً كاسحاً لثقافة الحرية في مناطق شاسعة من أوروبا الوسطى والشرقية، وبلدان جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية، حيث وصلت إلى السلطة حكومات مدنية منتخبة، باستثناء كوبا وفنزويلا، تطبّق سياسات أقرب إلى الاقتصاد الحر منها إلى البرامج التدخلية التي كانت سائدة في السابق.

ورغم وجود بعض الأصوات الماضية في عوائها ضد «النيوليبرالية»، نلاحظ أن معظم هذه البلدان لم تجد مفراً من اعتناق سياسات الخصخصة، وفتح الأسواق، وتحرير الأسعار والسعي إلى إدماج اقتصاداتها في الأسواق الدولية، بعد أن أدركت أن السير بعكس هذا التيار هو ضرب من الانتحار.

وليس أدلّ على ذلك من جنوح قسم كبير من اليسار في أميركا اللاتينية إلى تبنّي الموقف الصائب الذي اتخذه فاكلاف هافل عندما قال: «رغم أن فؤادي يميل إلى اليسار، لكني كنت دوماً على يقين من أن السوق هي النظام الاقتصادي الوحيد الذي يؤدي إلى الرفاه؛ لأنه النظام الوحيد الذي يعكس طبيعة الحياة».

هذه التطورات لها أهميتها وتضفي مصداقية تاريخية على الفكر الليبرالي، لكنها ليست على الإطلاق سبباً للتقاعس؛ لأن الليبرالية تقوم على مبدأ أساسي يعتبر أن التاريخ هو صنيعة الفعل البشري، وأن الإنسان الذي يصيب في اتخاذ القرارات التي تدفعه في المسار الصحيح، يمكن أيضاً أن يخطئ وتدفعه نحو الفوضى والفقر والظلام والبربرية. إن أفكارنا، وأصواتنا التي نختار بها من يصل إلى الحكم، هي التي تحدد مصير الإنجازات التي تحققت في ثقافة الحرية والديمقراطية.

إن معركة الليبراليين من أجل الحرية على مر التاريخ، هي معركة أفكار. انتصر الحلفاء في الحرب على المحور، لكن ذلك النصر أكّد تفوّق رؤية التعددية والتسامح والديمقراطية على الرؤية العنصرية الضيقة. وانهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب الديمقراطي «الذي كان مكتوف الأيدي، لا، بل غارقاً في شعور بالدونيّة بسبب قلّة جاذبية المنبر الديمقراطي مقارنة بوهج المجتمع اللاطبقي الموعود»، أظهر صواب أفكار آدم سميث وتوكفيل وبوبر وبرلين حول المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر في مواجهة الغطرسة العقائدية لماركس ولينين وماو تسي تونغ.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب تأكد تفوق «التعددية والتسامح» (أ.ف.ب)

معركة ضد المسخ

قد تكون معركة اليوم أقل صعوبة بالنسبة لليبراليين من تلك التي خاضها معلمونا في المجتمعات الديمقراطية خلال حقبة أنظمة الاستبداد والحزب الواحد التي كانت تمدّ أنصارها بكل وسائل الدعم. معركتنا اليوم ليست ضد كبار المفكرين مثل ماركس، أو الاشتراكيين الديمقراطيين اللامعين مثل كينز، بل هي معركة ضد الأفكار النمطية والصور المشوهة عن هذا المسخ المسمّى نيوليبرالية، التي تهدف إلى بث الشكوك والالتباس في المعسكر الديمقراطي، أو ضد المفكرين التشكيكيين الذين ينكرون الثقافة الديمقراطية ويعتبرون أنها ليست سوى ستارة تخفي وراءها الاستبداد والاستغلال.

يقول روبرت كابلان في أحد بحوثه: «إن الديمقراطية التي نشجّع على إرسائها في الكثير من المجتمعات الفقيرة في العالم ليست سوئ جزء لا يتجزأ من التحول نحو أنماط جديدة من الاستبداد، والديمقراطية في الولايات المتحدة هي اليوم في خطر أكثر من أي وقت مضى، لأسباب غامضة أو مخفية، وأن أنظمة كثيرة في المستقبل، والنظام الأميركي بشكل خاص، قد ينتهي بها الأمر على غرار الأنظمة الأوليغارشية التي كانت سائدة في أثينا وإسبرطة».

على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟

هذا تحليل متشائم جداً بالنسبة لاحتمالات ترسّخ الديمقراطية في مجتمعات العالم الثالث. وهو يعتبر أن كل المحاولات الغربية لفرض النظام الديمقراطي في البلدان التي تفتقر إلى التقاليد الديمقراطية قد باءت بفشل ذريع وباهظ التكلفة كما حصل في كمبوديا، وتسببت بالفوضى والحروب الأهلية والإرهاب والتطهير العرقي وإبادة الأقليات الدينية في بلدان مثل السودان، والبوسنة، وأفغانستان، وسيراليون، والكونغو، ومالي، والبانيا وهاييتي وغيرها.

السيد كابلان لا يضيّع وقته باللعب على حبال الكلام، ويقول بوضوح إن الديمقراطية والعالم الثالث على طرفي نقيض «الاستقرار الاجتماعي ينشأ من إقامة طبقة متوسطة. وليست هي الأنظمة الديمقراطية، بل تلك التسلطية، بما فيها الملكية، هي التي تقيم الطبقات الوسطى». هذه الطبقات، عندما تبلغ درجة معينة من الرفاه والثقة، تتمرد على الأنظمة التي وفَّرت لها هذا الرفاه. ويضرب على ذلك أمثلة من الحوض الهادئ في آسيا مسلطاً الضوء بشكل خاص على سنغافورة لي كوان يو، وتشيلي بينوتشيه وإسبانيا فرنكو. ويعتبر كابلان أن الخيار المطروح أمام العالم الثالث ليس بين «الطغاة والديمقراطيين»، بل هو مفاضلة بين «طغاة أشرار وآخرين أقل شراً»، ويرى «أن روسيا فشلت لأنها ديمقراطية، بينما الصين تفلح جزئياً لأنها ليست ديمقراطية».

توقفت عند هذا الطرح لأن السيد كابلان يقول صراحة ما يضمره كثيرون غيره. إن تشاؤمه حيال العالم الثالث كبير، لكنه ليس بأقلّ منه حيال العالم الأول. فهو يعتبر أن البلدان الفقيرة التي، حسب نظريته، تنشأ فيها الطبقات المتوسطة بفضل أنظمة الاستبداد الفاعلة، تريد اعتناق النظام الديمقراطي على الطراز الغربي، لن يكون ذلك سوى سراب وضرب من الخيال، تتحكم بحكوماتها الشركات العالمية الكبرى الناشطة في القارات الخمس، وتفرض عليها القرارات الأساسية، تنفّذها من غير محاسبة أو مساءلة. ولا ينسى السيد كابلان تذكيرنا بأن أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول، وأن أقوى 500 مؤسسة تسيطر وحدها على 70 في المائة من حركة التجارة العالمية.

أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول (أ.ب)

حرية على مشارف الاحتضار

هذه النظريات تشكّل نقطة انطلاق مناسبة لمقارنتها بالرؤية الليبرالية للمشهد العالمي؛ لأنها لو صحّت، تكون الحرية على مشارف الاحتضار بعد أن كانت مصدر إنجازات استثنائية في مجالات العلوم وحقوق الإنسان والتطور التقني ومكافحة الاستبداد والاستغلال، رغم الاضطرابات الكثيرة التي تسببت بها. لو كان صحيحاً ما يقوله كابلان أن الأنظمة الدكتاتورية هي التي تقيم الطبقات الوسطى، لما كانت جنّة هذه الطبقات في الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، وكندا، وأستراليا ونيوزيلندا، بل المكسيك، وبوليفيا والبارغواي التي تعاقبت عليها أنظمة الاستبداد العسكرية والمدنية.

في الأرجنتين على سبيل المثال، قضى الدكتاتور بيرون على الطبقة الوسطى التي كانت، حتى وصوله إلى السلطة، عريضة ومزدهرة ونجحت في تنمية البلاد بوتيرة أسرع من معظم الدول الأوروبية. وفي كوبا فشلت الديكتاتورية بعد ستة عقود في تحقيق أدنى مستويات الرفاه، وأجبرت الكوبيين على توسل المساعدات الدولية واستجداء فتات سياح الرأسمالية لمكافحة الجوع وضيق العيش. وكلنا يعرف اليوم المصير الذي آلت إليه معظم «النمور الآسيوية» بعد الطفرة الأولى السريعة، عندما اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين، والولايات المتحدة، واليابان وأوروبا الغربية.

نحن الليبراليين، بعكس السيد كابلان، لا نؤمن بأن القضاء على الشعبوية الاقتصادية يحقق نمواً أقل للمجتمع، إذا ترافق مع تحرير الأسعار وخفض الإنفاق وخصخصة القطاع العمومي، في الوقت الذي يعاني المواطن انعدام الأمن وقمع الحريات والتعرّض للتعذيب ومحاصرة السلطة القضائية التي يلجأ اليها طلباً للانتصاف.

التطور، بالمفهوم الليبرالي، يجب أن يكون اقتصادياً وسياسياً وثقافياً في آن معاً، أو لا يكون؛ وذلك لسبب أخلاقي، وأيضاً عملي: أن المجتمعات المنفتحة، التي يسودها القانون وتحترم حرية الرأي، محصّنة أكثر من غيرها في وجه الأزمات والاضطرابات.

كم هو عدد أنظمة الاستبداد الفاعلة التي شهدها العالم منذ أواسط القرن الفائت إلى اليوم؟ وكم هي تلك التي أغرقت بلدانها في العنف والتوحش والدمار؟ هذه الأخيرة تشكل الأغلبية الساحقة، أما الأولى فهي الاستثناء. أليس من التهوّر الرهان على وصفة الاستبداد وأن يكون المستبد صالحاً وعابراً؟ ألا توجد سبل أخرى أقل خطورة وقسوة لتحقيق التنمية؟ قطعاً توجد، لكن السيد كابلان يرفض أن يراها.

ليس صحيحاً القول إن «ثقافة الحرية» اقتضت نَفساً طويلاً في البلدان التي ازدهرت فيها الديمقراطية، كما حصل في جميع الأنظمة الديمقراطية الحالية التي اعتنقت هذه الثقافة وراحت تطورها لتبلغ بها المستويات التي وصلت اليوم إليها. الضغوط والمساعدة الدولية يمكن أن تشكل عاملاً أساسياً يدفع مجتمعاً معيناً لاعتناق الديمقراطية، كما تبيّن من حالتي ألمانيا واليابان اللتين انضمتا إلى ركب الدول الديمقراطية الأكثر تطوراً في العالم بعد الحرب. ما الذي يمنع دول العالم الثالث، أو روسيا، من اعتناق ثقافة الحرية على غرار ألمانيا واليابان؟

حتى معظم «النمور الآسيوية» اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين (إ.ب.أ)

التسامح والتعددية والقانون

إن العولمة، خلافاً لاستنتاجات السيد كابلان المتشائمة، هي فرصة سانحة أمام الدول الديمقراطية في العالم، خصوصاً تلك الأكثر تطوراً في أميركا وأوروبا، كي تساهم في توسيع دائرة ثقافة الحرية المرادفة للتسامح والتعددية والقانون، إلى الدول التي لا تزال رهينة التقاليد الاستبدادية التي، لا ننسى، أن أحداً لم يسلم منها على مر تاريخ البشرية. لذلك؛ لا بد من شرطين أساسيين:

1 - الإيمان الراسخ بتفوق هذه الثقافة على تلك التي تبيح التعصب والعنصرية والتمييز الديني أو العرقي أو السياسي أو الجنسي.

2 - اعتماد سياسات اقتصادية وخارجية تشجع التوجهات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، وتعاقب الأنظمة التي تتبنى المبادئ الليبرالية في الاقتصاد والدكتاتورية في السياسة. لكن من أسف، وبعكس ما ينادي به كابلان، هذا التمييز الإيجابي لصالح الديمقراطية الذي حقق منافع جمّة في بلدان مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، لا تطبقه الدول الديمقراطية اليوم مع بقية البلدان، أو تمارسه بنفاق واستنسابية.

لكن لعل الظروف الراهنة تشكّل حافزاً أكبر للدول الديمقراطية كي تتصرف بمزيد من الحزم لدعم ثقافة الحرية، إذ يقف العالم على شفا تحقق توقعات السيد كابلان بقيام حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها الشركات الكبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع، وهي توقعات تشكل خطراً حقيقياً لا مفرّ من إدراكه والتعامل ومعه. إن انتفاء الحدود الاقتصادية وتكاثر الأسواق العالمية يحفزان الاندماج والتحالفات بين الشركات لزيادة القدرة التنافسية في جميع مجالات الإنتاج، وقيام مؤسسات عملاقة لا يشكّل بحد ذاته خطراً على الديمقراطية، طالما توجد قوانين عادلة وحكومات قوية «ليس شرطها أن تكون كبيرة، بل صغيرة وفاعلة» تضمن تطبيقها.

الاقتصاد الحر، المنفتح على المنافسة، يستفيد فيه المستهلك من الشركات الكبرى؛ لأن ضخامتها تتيح لها خفض الأسعار ومضاعفة الخدمات التي يحصل عليها. والخطر لا يكمن في حجم الشركة، بل في الاحتكار الذي هو دائماً مصدر للفساد وانعدام الكفاءة. وما دامت توجد حكومات ديمقراطية تسهر على إنفاذ القوانين، أياً كان مخالفوها، وتمنع الاحتكار وتحافظ على الأسواق مفتوحة على المنافسة، تبقى الشركات الكبرى هي الرائدة في التطور العلمي والتكنولوجي لفائدة المستهلك ومصلحته.

 

 

يقف العالم على شفا حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها شركات كبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع

من هذا الواقع يستخلص كابلان الاستنتاج المتشائم التالي: الديمقراطية ذاهبة إلى مستقبل قاتم؛ لأن الشركات الكبرى في هذه الألفية الثالثة سوف تتصرف في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على غرار ما كانت تفعل في بلدان العالم الثالث، أي بلا روادع أو محاسبة.

لكن هذا الاستنتاج لا يستند إلى أي حجة تاريخية تسوّغه. وما نراه، نحن الليبراليين، هو أن بلدان العالم الثالث التي تخضع اليوم لأنظمة استبدادية، لا بد أن ترتقي نحو الديمقراطية، وتكرّس سيادة القانون والحريات التي تلزم الشركات الكبرى التي تنشط على أراضيها باحترام قواعد العدالة والاستقامة التي تلتزم بها في الديمقراطيات المتطورة. العولمة الاقتصادية يمكن أن تتحول خطراً يهدد مستقبل الحضارة، والبيئة العالمية، إذا لم تخضع لقواعد العولمة القانونية. ومن واجب الدول الكبرى تشجيع العمليات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث لأسباب مبدئية وأخلاقية، ولأن انتفاء الحدود يقتضي أن تخضع الحياة الاقتصادية لقواعد الحرية والمنافسة التي تعود بالمنفعة على جميع المواطنين، وأن تخضع للمحفزات والروادع نفسها التي يفرضها عليها المجتمع الديمقراطي.

أعرف جيداً أنه ليس سهلاً تحقيق كل ذلك. لكن بالنسبة إلينا بصفتنا ليبراليين هذا هدف ممكن، وفكرة العالم متحداً حول ثقافة الحرية ليست مجرد سراب أو حلم، بل هي واقع يستحق كل الجهد لتحقيقه، وكما قال كارل بوبر أحد أفضل أساتذتنا: «التفاؤل واجب. والمستقبل ليس مكتوباً، ولا أحد بوسعه أن يتنبأ به سوى من باب الصدفة. جميعنا نساهم بأفعالنا في تشكيل معالمه، وبالتالي كلنا مسؤولون عمّا سيحدث».