مكتبة «برونتي» المفقودة تظهر من جديد في مزاد «سوذبيز»

بيعت مجموعة من مخطوطات العائلة تعود إلى القرن الـ19

TT

مكتبة «برونتي» المفقودة تظهر من جديد في مزاد «سوذبيز»

في عام 2011، أدى بيع رواية قصيرة من تأليف شارلوت برونتي وكانت تبلغ وقتها 14 عاماً، إلى اندلاع حرب مزايدة تجاوزت المليون دولار. وفي عام 2016، أعلن متحف «برونتي بارسوناج» عن العثور على كتاب مليء بالرسومات والنقوش لبنات برونتي (بما في ذلك قصيدة غير معروفة من تأليف شارلوت) بين حطام سفينة.
والآن، من المقرر بيع مجموعة من المخطوطات العائلية التي تعود إلى عائلة برونتي بعد أن ظلت مختفية طيلة قرن كامل، في مزاد علني لدار «سوذبيز» كجزء مما صنفته الدار على أنّه بيع لـ«مكتبة مفقودة» من كنوز الأدب البريطاني.
تحتوي مكتبة «هونريسفيلد»، وهي مجموعة خاصة جمعها اثنان من رجال الصناعة الفيكتوريين التي اختفت عن الأنظار في ثلاثينات القرن الماضي، على أكثر من 500 مخطوطة ورسائل وطبعات أولى نادرة، وغيرها من المطبوعات اليدوية التي تعود لعدد من المؤلفين القانونيين، بما في ذلك مخطوطات والتر روب وروبرت برنز التي حملت عنوان «الكتاب الشائع الأول».
لكن نظراً للضجيج الذي أحاط بمزادات برونتي السابقة وتقديرات المزاد، فإنّ مادة برونتي من المرجح أن تتسبب في ضجيج أكثر من غيرها. ستتضمن المعروضات البارزة التي ستعرض في مزاد «سوذبيز» في نيويورك في الفترة من 5 إلى 9 يونيو (حزيران)، مخطوطة مكتوبة بخط اليد لقصائد إميلي برونتي، مع تعديلات بقلم الرصاص تعود إلى شارلوت، يُتوقع أن تُباع بنحو 1.3 مليون دولار إلى 1.8 مليون دولار.
يتضمن الكنز أيضاً خطابات عائلية وطبعات أولى ومخطوطات أخرى تعرض لمحة عن الحياة في منزل برونتي، منها نسخة من كتاب عالم التاريخ الطبيعي توماس بويك «تاريخ الطيور في بريطانيا» الذي تناولته شارلوت برونتي في افتتاحية روايتها «جين أير».
وصف غابرييل هيتون، المتخصص في الأدب الإنجليزي والمخطوطات التاريخية في دار «سوذبيز»، مكتبة «هونريسفيلد» بأنّها أفضل مكتبة شاهدها منذ 20 عاماً، وأنّ خبيئة برونتي التي ظهرت للعلن هي الأكثر أهمية على مدار جيل كامل. وفي مقابلة بالفيديو قبل إلقاء نظرة خاطفة على المعروضات، قال هيتون «إن حياة هؤلاء الأخوات غير عادية». فالنظر إلى المخطوطات «يعيدك مباشرة إلى اللحظة المذهلة حين كانت الشقيقات تخربشن بعيداً في بيت القسيس».
وفي السياق ذاته، قالت كلير هارمان، مؤلفة كتاب «شارلوت برونتي: قلب ناري»، إنّها «مهتمة بشدة» منذ أن علمت بالمزاد الذي سيقام على الإنترنت في يوليو (تموز)، بعد معاينات إضافية في لندن وإدنبرة، مضيفة «أنّه مذهل للغاية، فالعلماء والقراء يعرفون أنّ هذه الأشياء موجودة، لكنك تنسى عندما تكون في أيدٍ خاصة. إنّها مثل شابة جميلة نائمة».
لم تكن مكتبة «هونريسفيلد» بعيدة عن بيت القسيس، تحديداً على حافة مستنقعات ويست يوركشاير، حيث نشأت شارلوت وإميلي وآن وشقيقهم، برانويل (ولدوا بين عامي 1816 - 1820)، ليخلقوا عوالم خيالية متقنة ومشتركة.
جُمّعت المكتبة ابتداءً من تسعينات القرن التاسع عشر من قبل الأخوين ألفريد وويليام لو، وهما اثنان من أصحاب المطاحن العصاميين نشآ على بعد أقل من 20 ميلاً من منزل برونتي في «هاوورث» (الذي أصبح الآن متحف برونتي لبارسوناج).
تضمنت «مجموعة لو» المحفوظة في المكتبة في منزلهم «هونريسفيلد هاوس» ما أسماه هيتون «كتب منزل ريفي كبير»، منها «مطوية شكسبير الأولى» (بيعت منذ فترة طويلة). لكنّ الأخوين كانا أيضاً جامعان متحمسان للمخطوطات، وقد حصلا على خبيئة برونتي من تاجر اشتراها مباشرة من أرمل شارلوت. وقام ويليام، جامع التحف الأكثر جدية، بزيارات متكررة إلى «هاوورث» لشراء متعلقات الأسرة التي أنقذها الجيران والأقارب.
وبعد وفاة الأخوين (اللذين لم يتزوجا قط)، انتقلت المجموعة إلى ابن أختهما، الذي سمح باطلاع علماء مختارين عليها، وصنع نسخاً طبق الأصل من بعض العناصر. ولكن بعد وفاته في عام 1939 ذهبت النسخ الأصلية بعيداً عن الأنظار.
بحلول أربعينات القرن الماضي، باتت المجموعة «قريبة جداً وسهلة التتبع»، حسب أحد العلماء في ذلك الوقت. وفي العقود الأخيرة عُرضت بعض القطع الأثرية من المجموعة، مثل طاولة الكتابة الخاصة بشارلوت (الموجود الآن في متحف برونتي بارسوناج) للبيع بالمزاد. لكن مكان وجود باقي المقتنيات ظلّ مجهولاً.
يتذكر هيتون قائلاً «عندما تلقيت اتصالاً لأول مرة بشأن هذه المقتنيات، فكرت في أنّها ربما كانت هذه المجموعة. بعد ذلك كان الأمر مثيراً للغاية». (وكشف عن أن البائعين الذين يرغبون في عدم الكشف عن هويتهم من نسل عائلة لو).
لكنّ الأخبار التي تفيد بأنّ المجموعة التي ظهرت حديثاً ستُفرّق في المزاد لم ترق للجميع. فقد أصدر متحف «برونتي بارسوناج» بياناً الثلاثاء الماضي، دعا فيه إلى «الحفاظ على مادة برونتي سليمة للأمة»، وأعرب عن أسفه «للتسويق الضيق وخصخصة التراث».
تعتبر المواد التي خرجت من يد إميلي برونتي نادرة؛ إذ لا توجد مخطوطة لـ«مرتفعات ويذرنغ» التي نشرت لأول مرة عام 1847، قبل عام واحد من وفاتها بمرض السل. وأضاف هيتون «من المعروف أنّ رسالتين فقط كتبتهما إميلي قد نجيتا وموجودتان حتى الآن».
تتضمن المواد التي ستُباع في دار «سوذبيز» بعض «اليوميات» التي كتبتها إميلي وآن لبعضهما بعضاً في أعياد ميلادهما. (واحدة من إميلي، في عام 1841 تطلب من شقيقتها آن، أن تقرأها لاحقاً عندما تبلغ 25 عاماً). هناك أيضاً رسائل من عام 1840 من قبل شقيقتهما الأقل شهرة، برانويل برونتي، بما في ذلك رسالة إلى هارتلي كوليردج، ابن صموئيل تايلور كوليردج، التي تحتوي على نسخ من أشعاره وتصف طموحه الأدبي (الذي لم يتحقق).
لكنّ المادة البارزة، هي مخطوطة من 31 قصيدة بيد إميلي، مؤرخة في فبراير (شباط) 1844، ذكر هارمان أنّها لا تحافظ فقط على شعرها كما كتبته، لكنّها لعبت دوراً حاسماً في تحفيز الميول الأدبية لجميع الأخوات الثلاث.
كتبت إميلي قصائدها في الخفاء من دون نية للنشر، لكن في عام 1845، عثرت شارلوت عليها بالصدفة ووجدت أنها غير عادية. (هناك تدوينة بقلم رصاص ربما بقلم شارلوت في أسفل المخطوطة: «ليس هناك أروع من هذا أبداً» أسفل المخطوطة). وعلى الرّغم من أنّ إميلي كانت غاضبة في البداية، فقد وافقت على تضمينها في مجلد شعر ممول ذاتياً للأخوات الثلاث، استخدم أسماء مستعارة: كورير، وإليس، وأكتون بيل.
بيعت نسختان فقط من هذا المجلد الذي نُشر عام 1846. لكنّها دفعت الأخوات إلى البدء في العمل على رواياتهن التي أثارت ضجة كبيرة؛ مما أثار تكهنات مكثفة حول المؤلفين الحقيقيين وراء الأسماء المستعارة، وحول هوس الناس الأوسع ببرونتي الذي استمر حتى اليوم.
استطرد هارمان قائلاً «إذا كانت هذه المخطوطة هي التي نظرت إليها شارلوت خلسة، فقد كانت شاهداً على هذا المشهد المتوتر للغاية بين الأخوات، ناهيك عن أنّها تراث أدبي».
تتضمن مجموعة مزاد «سوذبيز» عناصر أخرى تقدم لمحات عن الحياة اليومية في بيت القسيس. فخلال مقابلة الفيديو، قلب هيتون صفحات كتاب «تاريخ الطيور البريطانية» لبيويك، المليء بالتعليقات التوضيحية التي كتبها والد الأشقاء باتريك برونتي. في المشاهد الأولى لرواية «جين أير»، تتصفح جين الكتاب بحثاً عن ملاذ خيالي من ظروفها القاتمة. وفي الحياة الواقعية، استخدم الأشقاء الكتاب نموذجاً لممارسة الرسم، في حين ملأها باتريك بملاحظات عملية عن أنواع الطيور لذيذة الطعم كغذاء (حسب الوصف المدون، فإنّ مذاق البط الاسكوتلندي عبارة عن «خليط من لحم البقر والرنجة الحمراء»).
تتضمن المجموعة أيضاً كتباً كتبتها شارلوت وأفراد آخرون في العائلة لمارثا براون، ابنة صديق العائلة، التي انتقلت للعيش مع العائلة عندما كانت في الحادية عشرة من عمرها وأصبحت خادمة في المنزل. من بينها الطبعة الأولى من «جين إير»، بخط يد باتريك، ودليل التدبير المنزلي بخط شارلوت.
هناك أيضاً طبعات أولى من رواية آن «أغنيس غراي» ورواية «مرتفعات ويذرنغ» لإميلي. واليوم تقدر دار مزادات «سوذبيز» أن يحقق المخطوطان ما بين 280.000 دولار و425.000 دولار. واللافت في الأمر، أنّ الأختين قد عبرتا عن غضبهما من عمل الناشر المليء بالأخطاء المطبعية. وأشار هيتون إلى عيب آخر في نسخة «مرتفعات ويذرنغ»؛ إذ إنّ بعض الصفحات غير مرتبة، «وهو ما يعطي سبباً جديداً للجدل الذي شاب نشر الرواية».

- خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

زاهي حواس يُفند مزاعم «نتفليكس» بشأن «بشرة كليوباترا»

يوميات الشرق زاهي حواس (حسابه على فيسبوك)

زاهي حواس يُفند مزاعم «نتفليكس» بشأن «بشرة كليوباترا»

أكد الدكتور زاهي حواس، أن رفض مصر مسلسل «كليوباترا» الذي أذاعته «نتفليكس» هو تصنيفه عملاً «وثائقي».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
يوميات الشرق استرداد حمض نووي لامرأة عاشت قبل 20000 عام من خلال قلادتها

استرداد حمض نووي لامرأة عاشت قبل 20000 عام من خلال قلادتها

وجد علماء الأنثروبولوجيا التطورية بمعهد «ماكس بلانك» بألمانيا طريقة للتحقق بأمان من القطع الأثرية القديمة بحثًا عن الحمض النووي البيئي دون تدميرها، وطبقوها على قطعة عُثر عليها في كهف دينيسوفا الشهير بروسيا عام 2019. وبخلاف شظايا كروموسوماتها، لم يتم الكشف عن أي أثر للمرأة نفسها، على الرغم من أن الجينات التي امتصتها القلادة مع عرقها وخلايا جلدها أدت بالخبراء إلى الاعتقاد بأنها تنتمي إلى مجموعة قديمة من أفراد شمال أوراسيا من العصر الحجري القديم. ويفتح هذا الاكتشاف المذهل فكرة أن القطع الأثرية الأخرى التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ المصنوعة من الأسنان والعظام هي مصادر غير مستغلة للمواد الوراثية

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق علماء: ارتفاع مستوى سطح البحر دفع الفايكنغ للخروج من غرينلاند

علماء: ارتفاع مستوى سطح البحر دفع الفايكنغ للخروج من غرينلاند

يُذكر الفايكنغ كمقاتلين شرسين. لكن حتى هؤلاء المحاربين الأقوياء لم يكونوا ليصمدوا أمام تغير المناخ. فقد اكتشف العلماء أخيرًا أن نمو الصفيحة الجليدية وارتفاع مستوى سطح البحر أدى إلى فيضانات ساحلية هائلة أغرقت مزارع الشمال ودفعت بالفايكنغ في النهاية إلى الخروج من غرينلاند في القرن الخامس عشر الميلادي. أسس الفايكنغ لأول مرة موطئ قدم جنوب غرينلاند حوالى عام 985 بعد الميلاد مع وصول إريك ثورفالدسون، المعروف أيضًا باسم «إريك الأحمر»؛ وهو مستكشف نرويجي المولد أبحر إلى غرينلاند بعد نفيه من آيسلندا.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شمال افريقيا مروي أرض «الكنداكات»... في قلب صراع السودان

مروي أرض «الكنداكات»... في قلب صراع السودان

لا تزال مدينة مروي الأثرية، شمال السودان، تحتل واجهة الأحداث وشاشات التلفزة وأجهزة البث المرئي والمسموع والمكتوب، منذ قرابة الأسبوع، بسبب استيلاء قوات «الدعم السريع» على مطارها والقاعد الجوية الموجودة هناك، وبسبب ما شهدته المنطقة الوادعة من عمليات قتالية مستمرة، يتصدر مشهدها اليوم طرف، ليستعيده الطرف الثاني في اليوم الذي يليه. وتُعد مروي التي يجري فيها الصراع، إحدى أهم المناطق الأثرية في البلاد، ويرجع تاريخها إلى «مملكة كوش» وعاصمتها الجنوبية، وتقع على الضفة الشرقية لنهر النيل، وتبعد نحو 350 كيلومتراً عن الخرطوم، وتقع فيها أهم المواقع الأثرية للحضارة المروية، مثل البجراوية، والنقعة والمصورات،

أحمد يونس (الخرطوم)
يوميات الشرق علماء آثار مصريون يتهمون صناع وثائقي «كليوباترا» بـ«تزييف التاريخ»

علماء آثار مصريون يتهمون صناع وثائقي «كليوباترا» بـ«تزييف التاريخ»

اتهم علماء آثار مصريون صناع الفيلم الوثائقي «الملكة كليوباترا» الذي من المقرر عرضه على شبكة «نتفليكس» في شهر مايو (أيار) المقبل، بـ«تزييف التاريخ»، «وإهانة الحضارة المصرية القديمة»، واستنكروا الإصرار على إظهار بطلة المسلسل التي تجسد قصة حياة كليوباترا، بملامح أفريقية، بينما تنحدر الملكة من جذور بطلمية ذات ملامح شقراء وبشرة بيضاء. وقال عالم الآثار المصري الدكتور زاهي حواس لـ«الشرق الأوسط»، إن «محاولة تصوير ملامح كليوباترا على أنها ملكة من أفريقيا، تزييف لتاريخ مصر القديمة، لأنها بطلمية»، واتهم حركة «أفروسنتريك» أو «المركزية الأفريقية» بالوقوف وراء العمل. وطالب باتخاذ إجراءات مصرية للرد على هذا

عبد الفتاح فرج (القاهرة)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».