«الأخوة الإنسانية» تجمع شيخ الأزهر والبابا في «الطريق الصعب»

محمد عبد السلام يقدم شهادة على ميلاد الوثيقة

«الأخوة الإنسانية» تجمع شيخ الأزهر والبابا في «الطريق الصعب»
TT

«الأخوة الإنسانية» تجمع شيخ الأزهر والبابا في «الطريق الصعب»

«الأخوة الإنسانية» تجمع شيخ الأزهر والبابا في «الطريق الصعب»

عبر مقاربة لافتة توازن بين الخاص الشخصي والعام المشترك، يقدم الأمين العام لـ«لجنة الأخوة الإنسانية»، القاضي محمد عبد السلام، شهادته على ميلادها، التي وقّعها شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، والبابا فرنسيس بابا الفاتيكان، في فبراير (شباط) 2019 في أبوظبي، وتأسست بموجبها لجنة تحمل الاسم نفسه لتعميق أهدافها وتحقيقها، والعمل على استدامة العلاقات والتعاون بين المؤسستين الدينيتين البارزتين.
ومن خلال كتاب أصدره عبد السلام حديثاً بعنوان «الإمام والبابا والطريق الصعب... شهادة على ميلاد وثيقة الأخوة الإنسانية»، يقع في 240 صفحة، وقدّم له البابا وشيخ الأزهر، يعرض المؤلف التفاصيل الفكرية والفنية البروتوكولية التي سبقت إعداد الوثيقة، وما أحاط بها من عقبات، وكيف نشأت فكرتها وتطورت، كما يكشف بحكم موقعه القريب عن كواليس القمم الدينية المهمة التي جمعت بين الطيب وفرنسيس في مواقع مختلفة حول العالم.
لا يعتبر المؤلف أن «وثيقة الأخوة الإنسانية» سياقاً منفصلاً عن مجمل تحركات «الأزهر»، بل إنه يؤصل ويوثق للمبادرات المحلية التي أقامتها المؤسسة، ومنها «بيت العائلة المصرية» والتي استهدفت «توحيد الموقف بين الأزهر والكنائس المصرية»، ومعتبراً أنه تم استكمال ذلك الاتجاه عبر تعزيز علاقة المشيخة بالمؤسسات الدينية الكبرى في الغرب، فضلاً عن المشاركة في «مبادرة الحوار الحضاري والإنساني بين الشرق والغرب» عبر التواصل مع كنيسة كانتربري في لندن، وفي فعالية استضافتها مدينة أبوظبي أيضاً عام 2016.
وفي تطرقه لاستئناف العلاقة بين الأزهر والفاتيكان بعد فترة قطيعة، يحكي المؤلف شهادته على مبادرة أسرَّ بها الشيخ الطيب لعبد السلام في عام 2015 وتتثمل في أنه – أي شيخ الأزهر - ينوي زيارة الفاتيكان، مكلفاً مستشاره حينها «المسؤولية الكاملة لترتيب الزيارة».
وتمضي صفحات الكتاب عارضة شهادة المؤلف الذي راقب عن قرب كيفية إقناع الطيب لبعض المعترضين في هيئة «كبار العلماء» (أكبر مرجعية علمية للأزهر) على الزيارة، وإدارة المناقشات، وكذلك الصعوبات البروتوكولية التي واجهت الأمر وطبيعة إرسال الدعوة وتلقيها، إلى أن يصل الكاتب إلى تحقيق المقابلة الشهيرة في عام 2016، وما أعقبها من «مؤتمر الأزهر العالمي للسلام» في القاهرة بحضور البابا، وذلك في عام 2017.

- موقف طريف
من بين المواقف التي يرويها المؤلف، طرفة حدثت في القاهرة خلال زيارة البابا لشيخ الأزهر بمقر المشيخة (عام 2017) قبيل انطلاق «مؤتمر الأزهر للسلام»، ويقول المؤلف، إن «التنظيم كان يقتضي أن يتحرك الشيخ إلى مقر المؤتمر الذي يعقد في أحد فنادق القاهرة، فاستأذن الطيب بالفعل البابا ليسبقه؛ وبهدف أن يكون في استقباله لدى وصوله لمقر المؤتمر، وفق البروتوكول»، وتحرك البابا بعد مغادرة الشيخ بدقائق، غير أن قائد حراسة موكب شيخ الأزهر اختار طريقاً قدّر أنه سيكون مختصراً، لكن الشيخ وصل مقر الفعالية ليفاجئ بوجود البابا في انتظاره «وهو يضحك بشدة»، وقال مخاطباً الطيب «لقد سبقتك يا صديقي، وها أنا أستقبلك في مقر المؤتمر»، فما كان من الطيب إلا أن رد ضاحكاً وقال «هذا دليل على أنك لست ضيفاً، بل صاحب البيت».

- تفاصيل الوثيقة
وبسبب تركيزه خصيصاً على وثيقة «الأخوة الإنسانية»، فإن المؤلف تعمّق في سرد وقائع وتفاصيل وترتيبات الإعداد لها، وعدّد أسباب اختيار الرمزين الدينيين لدولة الإمارات لإعلان الوثيقة، منوهاً بالدور التاريخي الكبير لرعاية الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، للوثيقة ودعمه تفعيل بنودها ونشر قيمها، وعبر صفحات الكتاب شرح المؤلف بشكل دقيق كيف وضع شيخ الأزهر صياغة أولى للوثيقة، والتعديلات التي أدخلها بابا الفاتيكان، فضلاً عن آلية التنسيق بدايةً من اختيار الموعد المناسب لتوقيع الوثيقة، وحتى الاتفاق على نوعية الخطوط التي كتبت بها.
كما أفرد عبد السلام، صفحات شرح فيها بأسلوب جذاب ومشوق كيفية انتظاره قرار البابا بشأن الوثيقة والموافقة على نصوصها، وفي كل المراحل كان يستطرد بالمقارنات بين سلوكي الإمام والبابا وكيفية تطابقهما تقريباً فيما يتعلق بالاهتمام الإنساني بالعاملين معهم على كل المستويات، فضلاً عن القراءة النهمة واستغلال أوقات التنقل في الذكر والصلاة.
ولم ينسَ المؤلف في توثيقه، تلك المفارقة المؤثرة التي تمثلت في غيابه عن حضور حفل توقيع الوثيقة التي عمل على كل مراحلها ممثلاً الأزهر، وبينما كان التأثر يسيطر عليه فوجئ بإشادة كل من شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان به على الهواء أثناء مراسم الحفل.
والوثيقة التي هي محور الكتاب أثارت اهتماماً على المستويين الديني والدولي، وتضمنت تأكيدات على المشتركات الإيمانية والإنسانية، بل إن نصها تضمن استهلالاً بالإشارة إلى «الله الذي خلق البشر جميعاً متساوين في الحقوق والواجبات والكرامة، ودعاهم للعيش كإخوة فيما بينهم ليعمروا الأرض، وينشروا فيها قيم الخير والمحبة والسلام». كما أنها تدحض العنف وتنطلق «باسم النفس البشرية الطاهرة التي حرّم الله إزهاقها، وأخبر أنه من جنى على نفس واحدة فكأنه جنى على البشرية جمعاء، ومن أحيا نفساً واحدة فكأنما أحيا الناس جميعاً».
وفي صُلبها أيضاً التزام وتنبيه إلى «الفقراء والبؤساء والمحرومين والمهمشين الذين أمر الله بالإحسان إليهم ومد يد العون للتخفيف عنهم، فرضا على كل إنسان لا سيما كل مقتدر وميسور».
وعن كيفية التوصل إلى ذلك التوافق بشأن صياغة الوثيقة، يروى المؤلف أن الإمام الطيب «بدأ في صياغة المسودة الأولى وقد استغرقت منه شهراً كاملاً، وبمعدل ثماني ساعات يومياً (....)»، وبعد انتهاء الشيخ من صياغتها طلب من مستشاره تولي إجراءات عرضها على البابا «وشدد على ألا أخبره أن الإمام هو من صاغها حتى لا يجد في نفسه حرجاً في الاستدراك والتعديل عليها».
وبشأن المرحلة اللاحقة والتي أعقبت عرضها على البابا فرنسيس، يقول عبد السلام: «أخبرني الأب يوأنس (سكرتير البابا) أنه عرض مسودة (الوثيقة) على حضرة البابا، وأنه بدأ يكتب أفكاره ومقترحاته عليها»، ويضيف أنه عندما ذهب لشيخ الأزهر بالمسودة في صورتها بعد تعديلات البابا، قال له الطيب «أكاد أجزم أننا لن نختلف، وإذا كان هناك تعقيبات فلا بد من مراجعة المترجم أولاً لأنني أثق في التوافق الفكري بيني وبينه فكلانا ينشد الخير والسلام (...)، وعندما فتح الإمام (المسود الثانية) واطلع على ما فيها تبين لنا صدق ما توقع الإمام؛ إذ لم يعدل الباب على المتن المقترح من الإمام، وإنما أضاف أفكاراً ومقترحات اكتملت بها (الوثيقة) ولاقت هذه المقترحات استحساناً كبيراً من الإمام».

- تعليقات وتفاعلات
اعتماداً على موضوعه المهم والحي، فإن القاضي محمد عبد السلام، تمكن من حشد تعليقات وتفاعلات قيّمة ومعتبرة مع ما كتب، وكانت البداية تقديم شيخ الأزهر للكتاب ووصفه بأنه «مهم جامع لمراحل صناعة الوثيقة»، وأنه جاء عبر «أسلوب حديث منمق وبرواية صادقة للوقائع والأحداث، بعيدة عن المجازفات الفكرية والتعصب والجمود»، وكذلك جاء في السياق نفسه قول البابا فرنسيس، إن «الكتاب يرصد اللحظات المهمة لمرحلة توقيع وثيقة الأخوة الإنسانية».
وربما بدا منطقياً أن يقدم الرجلان للكتاب باعتبارهما بطلي موضوعه واتصالهما بمعالجته، غير أن المؤلف حشد في صفحاته بذكاء تعليقات من شخصيات بارزة، قدمت كلمات تضمنت تفاعلاً واحتفاءً بموضوعه، ومن هؤلاء الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية ورئيس لجنة الخمسين لكتابة الدستور المصري، عمرو موسى، والممثل السامي لتحالف الحضارات التابع للأمم المتحدة، ميغيل موراتينوس، ورئيس وزراء لبنان الأسبق فؤاد السنيورة، وكذلك المستشار السابق للرئيس المصري للشؤون الاستراتيجية الدكتور، مصطفى حجازي، فضلاً عن أستاذ الدراسات الإسلامية الدكتور رضوان السيد، وشخصيات دولية وعربية أخرى.


مقالات ذات صلة

بينالي الفنون الإسلامية في جدة... حوار المقدس والمعاصر

يوميات الشرق جانب من بينالي الفنون الإسلامية بجدة في نسخته الأولى (واس)

بينالي الفنون الإسلامية في جدة... حوار المقدس والمعاصر

يجري العمل على قدم وساق لتقديم النسخة الثانية من بينالي الفنون الإسلامية بجدة في 25 من يناير القادم، ما الذي يتم إعداده للزائر؟

عبير مشخص (لندن)
ثقافة وفنون المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة الدكتور سالم بن محمد المالك (صورة من الموقع الرسمي للإيسيسكو)

«الإيسيسكو» تؤكد أن المخطوطات شاهدٌ حيٌّ على أصالة العالم الإسلامي

أكد المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة «إيسيسكو»، الدكتور سالم بن محمد المالك، أن المخطوطات شاهدٌ حيٌّ على أصالة العالم الإسلامي.

«الشرق الأوسط» (الرباط)
أوروبا رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتس يتحدث خلال اجتماع ترشيح الحزب في أوسنابروك ودائرة ميتيلمس في ألاندو بالهاوس (د.ب.أ)

زعيم المعارضة الألمانية يؤيد تدريب أئمة المساجد في ألمانيا

أعرب زعيم المعارضة الألمانية فريدريش ميرتس عن اعتقاده بأن تدريب الأئمة في «الكليةالإسلامية بألمانيا» أمر معقول.

«الشرق الأوسط» (أوسنابروك (ألمانيا))
المشرق العربي الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬ في خطبة الجمعة بأكبر جوامع مدينة دار السلام التنزانية

أمين رابطة العالم الإسلامي يزور تنزانيا

ألقى معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، رئيس هيئة علماء المسلمين، فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬، خطبةَ الجمعة ضمن زيارة لتنزانيا.

«الشرق الأوسط» (دار السلام)
شمال افريقيا شيخ الأزهر خلال كلمته في الاحتفالية التي نظمتها «جامعة العلوم الإسلامية الماليزية» (مشيخة الأزهر)

شيخ الأزهر: مأساة فلسطين «جريمة إبادة جماعية» تجاوزت بشاعتها كل الحدود

لفت شيخ الأزهر إلى أن «ظاهرة جرأة البعض على التكفير والتفسيق وما تسوغه من استباحة للنفوس والأعراض والأموال، هي ظاهرة كفيلة بهدم المجتمع الإسلامي».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.