«الأخوة الإنسانية» تجمع شيخ الأزهر والبابا في «الطريق الصعب»

محمد عبد السلام يقدم شهادة على ميلاد الوثيقة

«الأخوة الإنسانية» تجمع شيخ الأزهر والبابا في «الطريق الصعب»
TT

«الأخوة الإنسانية» تجمع شيخ الأزهر والبابا في «الطريق الصعب»

«الأخوة الإنسانية» تجمع شيخ الأزهر والبابا في «الطريق الصعب»

عبر مقاربة لافتة توازن بين الخاص الشخصي والعام المشترك، يقدم الأمين العام لـ«لجنة الأخوة الإنسانية»، القاضي محمد عبد السلام، شهادته على ميلادها، التي وقّعها شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، والبابا فرنسيس بابا الفاتيكان، في فبراير (شباط) 2019 في أبوظبي، وتأسست بموجبها لجنة تحمل الاسم نفسه لتعميق أهدافها وتحقيقها، والعمل على استدامة العلاقات والتعاون بين المؤسستين الدينيتين البارزتين.
ومن خلال كتاب أصدره عبد السلام حديثاً بعنوان «الإمام والبابا والطريق الصعب... شهادة على ميلاد وثيقة الأخوة الإنسانية»، يقع في 240 صفحة، وقدّم له البابا وشيخ الأزهر، يعرض المؤلف التفاصيل الفكرية والفنية البروتوكولية التي سبقت إعداد الوثيقة، وما أحاط بها من عقبات، وكيف نشأت فكرتها وتطورت، كما يكشف بحكم موقعه القريب عن كواليس القمم الدينية المهمة التي جمعت بين الطيب وفرنسيس في مواقع مختلفة حول العالم.
لا يعتبر المؤلف أن «وثيقة الأخوة الإنسانية» سياقاً منفصلاً عن مجمل تحركات «الأزهر»، بل إنه يؤصل ويوثق للمبادرات المحلية التي أقامتها المؤسسة، ومنها «بيت العائلة المصرية» والتي استهدفت «توحيد الموقف بين الأزهر والكنائس المصرية»، ومعتبراً أنه تم استكمال ذلك الاتجاه عبر تعزيز علاقة المشيخة بالمؤسسات الدينية الكبرى في الغرب، فضلاً عن المشاركة في «مبادرة الحوار الحضاري والإنساني بين الشرق والغرب» عبر التواصل مع كنيسة كانتربري في لندن، وفي فعالية استضافتها مدينة أبوظبي أيضاً عام 2016.
وفي تطرقه لاستئناف العلاقة بين الأزهر والفاتيكان بعد فترة قطيعة، يحكي المؤلف شهادته على مبادرة أسرَّ بها الشيخ الطيب لعبد السلام في عام 2015 وتتثمل في أنه – أي شيخ الأزهر - ينوي زيارة الفاتيكان، مكلفاً مستشاره حينها «المسؤولية الكاملة لترتيب الزيارة».
وتمضي صفحات الكتاب عارضة شهادة المؤلف الذي راقب عن قرب كيفية إقناع الطيب لبعض المعترضين في هيئة «كبار العلماء» (أكبر مرجعية علمية للأزهر) على الزيارة، وإدارة المناقشات، وكذلك الصعوبات البروتوكولية التي واجهت الأمر وطبيعة إرسال الدعوة وتلقيها، إلى أن يصل الكاتب إلى تحقيق المقابلة الشهيرة في عام 2016، وما أعقبها من «مؤتمر الأزهر العالمي للسلام» في القاهرة بحضور البابا، وذلك في عام 2017.

- موقف طريف
من بين المواقف التي يرويها المؤلف، طرفة حدثت في القاهرة خلال زيارة البابا لشيخ الأزهر بمقر المشيخة (عام 2017) قبيل انطلاق «مؤتمر الأزهر للسلام»، ويقول المؤلف، إن «التنظيم كان يقتضي أن يتحرك الشيخ إلى مقر المؤتمر الذي يعقد في أحد فنادق القاهرة، فاستأذن الطيب بالفعل البابا ليسبقه؛ وبهدف أن يكون في استقباله لدى وصوله لمقر المؤتمر، وفق البروتوكول»، وتحرك البابا بعد مغادرة الشيخ بدقائق، غير أن قائد حراسة موكب شيخ الأزهر اختار طريقاً قدّر أنه سيكون مختصراً، لكن الشيخ وصل مقر الفعالية ليفاجئ بوجود البابا في انتظاره «وهو يضحك بشدة»، وقال مخاطباً الطيب «لقد سبقتك يا صديقي، وها أنا أستقبلك في مقر المؤتمر»، فما كان من الطيب إلا أن رد ضاحكاً وقال «هذا دليل على أنك لست ضيفاً، بل صاحب البيت».

- تفاصيل الوثيقة
وبسبب تركيزه خصيصاً على وثيقة «الأخوة الإنسانية»، فإن المؤلف تعمّق في سرد وقائع وتفاصيل وترتيبات الإعداد لها، وعدّد أسباب اختيار الرمزين الدينيين لدولة الإمارات لإعلان الوثيقة، منوهاً بالدور التاريخي الكبير لرعاية الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، للوثيقة ودعمه تفعيل بنودها ونشر قيمها، وعبر صفحات الكتاب شرح المؤلف بشكل دقيق كيف وضع شيخ الأزهر صياغة أولى للوثيقة، والتعديلات التي أدخلها بابا الفاتيكان، فضلاً عن آلية التنسيق بدايةً من اختيار الموعد المناسب لتوقيع الوثيقة، وحتى الاتفاق على نوعية الخطوط التي كتبت بها.
كما أفرد عبد السلام، صفحات شرح فيها بأسلوب جذاب ومشوق كيفية انتظاره قرار البابا بشأن الوثيقة والموافقة على نصوصها، وفي كل المراحل كان يستطرد بالمقارنات بين سلوكي الإمام والبابا وكيفية تطابقهما تقريباً فيما يتعلق بالاهتمام الإنساني بالعاملين معهم على كل المستويات، فضلاً عن القراءة النهمة واستغلال أوقات التنقل في الذكر والصلاة.
ولم ينسَ المؤلف في توثيقه، تلك المفارقة المؤثرة التي تمثلت في غيابه عن حضور حفل توقيع الوثيقة التي عمل على كل مراحلها ممثلاً الأزهر، وبينما كان التأثر يسيطر عليه فوجئ بإشادة كل من شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان به على الهواء أثناء مراسم الحفل.
والوثيقة التي هي محور الكتاب أثارت اهتماماً على المستويين الديني والدولي، وتضمنت تأكيدات على المشتركات الإيمانية والإنسانية، بل إن نصها تضمن استهلالاً بالإشارة إلى «الله الذي خلق البشر جميعاً متساوين في الحقوق والواجبات والكرامة، ودعاهم للعيش كإخوة فيما بينهم ليعمروا الأرض، وينشروا فيها قيم الخير والمحبة والسلام». كما أنها تدحض العنف وتنطلق «باسم النفس البشرية الطاهرة التي حرّم الله إزهاقها، وأخبر أنه من جنى على نفس واحدة فكأنه جنى على البشرية جمعاء، ومن أحيا نفساً واحدة فكأنما أحيا الناس جميعاً».
وفي صُلبها أيضاً التزام وتنبيه إلى «الفقراء والبؤساء والمحرومين والمهمشين الذين أمر الله بالإحسان إليهم ومد يد العون للتخفيف عنهم، فرضا على كل إنسان لا سيما كل مقتدر وميسور».
وعن كيفية التوصل إلى ذلك التوافق بشأن صياغة الوثيقة، يروى المؤلف أن الإمام الطيب «بدأ في صياغة المسودة الأولى وقد استغرقت منه شهراً كاملاً، وبمعدل ثماني ساعات يومياً (....)»، وبعد انتهاء الشيخ من صياغتها طلب من مستشاره تولي إجراءات عرضها على البابا «وشدد على ألا أخبره أن الإمام هو من صاغها حتى لا يجد في نفسه حرجاً في الاستدراك والتعديل عليها».
وبشأن المرحلة اللاحقة والتي أعقبت عرضها على البابا فرنسيس، يقول عبد السلام: «أخبرني الأب يوأنس (سكرتير البابا) أنه عرض مسودة (الوثيقة) على حضرة البابا، وأنه بدأ يكتب أفكاره ومقترحاته عليها»، ويضيف أنه عندما ذهب لشيخ الأزهر بالمسودة في صورتها بعد تعديلات البابا، قال له الطيب «أكاد أجزم أننا لن نختلف، وإذا كان هناك تعقيبات فلا بد من مراجعة المترجم أولاً لأنني أثق في التوافق الفكري بيني وبينه فكلانا ينشد الخير والسلام (...)، وعندما فتح الإمام (المسود الثانية) واطلع على ما فيها تبين لنا صدق ما توقع الإمام؛ إذ لم يعدل الباب على المتن المقترح من الإمام، وإنما أضاف أفكاراً ومقترحات اكتملت بها (الوثيقة) ولاقت هذه المقترحات استحساناً كبيراً من الإمام».

- تعليقات وتفاعلات
اعتماداً على موضوعه المهم والحي، فإن القاضي محمد عبد السلام، تمكن من حشد تعليقات وتفاعلات قيّمة ومعتبرة مع ما كتب، وكانت البداية تقديم شيخ الأزهر للكتاب ووصفه بأنه «مهم جامع لمراحل صناعة الوثيقة»، وأنه جاء عبر «أسلوب حديث منمق وبرواية صادقة للوقائع والأحداث، بعيدة عن المجازفات الفكرية والتعصب والجمود»، وكذلك جاء في السياق نفسه قول البابا فرنسيس، إن «الكتاب يرصد اللحظات المهمة لمرحلة توقيع وثيقة الأخوة الإنسانية».
وربما بدا منطقياً أن يقدم الرجلان للكتاب باعتبارهما بطلي موضوعه واتصالهما بمعالجته، غير أن المؤلف حشد في صفحاته بذكاء تعليقات من شخصيات بارزة، قدمت كلمات تضمنت تفاعلاً واحتفاءً بموضوعه، ومن هؤلاء الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية ورئيس لجنة الخمسين لكتابة الدستور المصري، عمرو موسى، والممثل السامي لتحالف الحضارات التابع للأمم المتحدة، ميغيل موراتينوس، ورئيس وزراء لبنان الأسبق فؤاد السنيورة، وكذلك المستشار السابق للرئيس المصري للشؤون الاستراتيجية الدكتور، مصطفى حجازي، فضلاً عن أستاذ الدراسات الإسلامية الدكتور رضوان السيد، وشخصيات دولية وعربية أخرى.


مقالات ذات صلة

أمين رابطة العالم الإسلامي يزور تنزانيا

المشرق العربي الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬ في خطبة الجمعة بأكبر جوامع مدينة دار السلام التنزانية

أمين رابطة العالم الإسلامي يزور تنزانيا

ألقى معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، رئيس هيئة علماء المسلمين، فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬، خطبةَ الجمعة ضمن زيارة لتنزانيا.

«الشرق الأوسط» (دار السلام)
شمال افريقيا شيخ الأزهر خلال كلمته في الاحتفالية التي نظمتها «جامعة العلوم الإسلامية الماليزية» (مشيخة الأزهر)

شيخ الأزهر: مأساة فلسطين «جريمة إبادة جماعية» تجاوزت بشاعتها كل الحدود

لفت شيخ الأزهر إلى أن «ظاهرة جرأة البعض على التكفير والتفسيق وما تسوغه من استباحة للنفوس والأعراض والأموال، هي ظاهرة كفيلة بهدم المجتمع الإسلامي».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
الخليج يوضح المعرض أهمية الفنون في مصاحبة كتابة المصاحف ونَسْخها عبر العصور (مكتبة الملك عبد العزيز)

معرض في الرياض لنوادر المصاحف المذهّبة

افتُتح، في الرياض، أول من أمس، معرض المصاحف الشريفة المذهَّبة والمزخرفة، الذي تقيمه مكتبةُ الملك عبد العزيز العامة بفرعها في «مركز المؤسس التاريخي» بالرياض.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
آسيا في هذه الصورة التي التُقطت في 6 فبراير 2024 رجل يدلّ على ضريح الصوفي الحاج روزبيه المهدم في نيودلهي (أ.ف.ب)

هدم ضريح ولي صوفي في إطار برنامج «للتنمية» في دلهي

في أوائل فبراير (شباط)، صار ضريح صوفي أحدث ضحايا «برنامج الهدم» الذي تنفذه هيئة تنمية دلهي لإزالة «المباني الدينية غير القانونية» في الهند.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
يوميات الشرق مصلون يشاركون في جلسة للياقة البدنية بعد الصلاة في مسجد منطقة باغجلار في إسطنبول في 8 فبراير 2024 (أ.ف.ب)

حصص رياضة داخل مساجد تركية تساعد المصلين على تحسين لياقتهم

يشارك مصلّون في حصة تدريبات رياضية في مساجد بمدينة إسطنبول التركية بعد انتهاء صلاة العصر، ويوجد معهم مدرّب لياقة بدنية.

«الشرق الأوسط» (إسطنبول)

في البدء كان الزمان

غريمي فوربس
غريمي فوربس
TT

في البدء كان الزمان

غريمي فوربس
غريمي فوربس

لم أزل أذكر الضجة الكبرى التي رافقت نشر كتاب «موجز تاريخ الزمان» للفيزيائي الراحل ستيفن هوكنغ عام 1987. مثّل هذا الكتاب حينها انعطافة محسوسة وعملية في تاريخ النشر العلمي على النطاق الشعبي الواسع؛ إذ فضلاً عن شخصية كاتبه ذي العقل الحر والجسد المقيّد بعجلات أربع فإنّ طبيعة المادة المعروضة فيه كانت مثالاً متوازناً للمقدرة على المواءمة العملية بين متطلبات الكتابة الفيزيائية الصارمة وشروط المقروئية الواسعة. كانت «دار المأمون» العراقية المختصة بالترجمة أوّل دار نشر عربية سارعت في ترجمة هذا العمل بعد قرابة السنتين من نشره؛ فقد صدر أوائل عام 1990 أو ربما أواخر عام 1989، ولم يكن مترجمه (باسل محمد الحديثي) فيزيائياً بل كان مختصاً بالهندسة الكهربائية وهندسة الحاسوب والسيطرة والنظم الهندسية. الدهشة الفلسفية والمساءلة الفكرية للأسئلة الكبرى في الكون ليست حصرية على فئة دون أخرى من المهنيين أو العامة.

غلاف «فلسفة الزمان»

قرأتُ الكتاب حينها بشغف، وكان كتاباً رائعاً بكلّ الاعتبارات، لكنّ ما يلفت النظر أنّ هوكنغ بدا وكأنّه آلة احتسابية لا تستطيبُ أيّ ميل فلسفي، هذا إذا لم نَقُل إنّه يرى الفلسفة اشتغالاً غير منتج. قد يستطيع فيزيائي أن يتملّص أو يناور على المداخلات الفلسفية الضرورية عندما يتناول مادة تقنية خالصة، لكن كيف له ذلك وهو يتناولُ مفهوماً غارقاً في لجج التفكّر الفلسفي العميق: الزمن Time الذي يحسبه فيزيائيو عالمنا المعاصر أسبقية على كلّ ما سواه من مكان أو مادة أو حركة. كلّ مفهوم أو فكرة أو موجود مادي إنما هو مقترن اقتراناً شرطياً بالزمان ودالة له. نحن في النهاية مخلوقات الزمان وغارقون فيه. لم أستطِب هذه النكهة العدائية لهوكنغ تجاه الفلسفة، ثم أفصح الرجل لاحقاً عن موقفه الكاره للفلسفة باعتبارها غير كفؤة في تناول الموضوعات مثلما يفعل العلم. هذا رأي هوكنغ بالتأكيد، وثمة كثيرون من أعاظم الفيزيائيين يخالفونه الرأي، مثلما أنّ هناك قلّة يعاضدونه، ومنهم ريتشارد فاينمان، الذي كتب، في كتابه السيري المترجم إلى العربية «أنت تمزح بالتأكيد سيد فاينمان»، أنّ أسوأ يوم في حياته هو ذلك اليوم الذي صارحه فيه ابنه برغبته في دراسة الفلسفة.

الزمان في سياق الفلسفة العلمية

لم يكن كتاب «موجز تاريخ الزمان» أوّل عهدٍ لي بالفلسفة العلمية أو فلسفة الفيزياء (وفلسفة الزمان والمكان على وجه التخصيص). سبق لي في سبعينات القرن العشرين أن قرأتُ كتاب «نشأة الفلسفة العلمية» لفيلسوف العلم الألماني هانز رايشنباخ، الذي ترجمه الفيلسوف الراحل فؤاد زكريا. لطالما أعجبتُ كثيراً بترجمات وأعمال الدكتور زكريا وجهوده الفلسفية التنويرية وانتخابه لأعمال معروفة بثرائها الفكري والفلسفي. أمضيتُ أياماً رائعة مع كتاب رايشنباخ الذي نقرأ فيه موضوعات على شاكلة: قوانين الطبيعة، هل توجد ذرات؟، التطوّر، المعرفة التنبؤية، هاملت يناجي نفسه، طبيعة علم الأخلاق، مقارنة بين الفلسفة القديمة والجديدة. كتاب رايشنباخ - كما أرى - أكثر إمتاعاً بكثير من كتاب هوكنغ، فضلاً عن النكهة الأدبية والفلسفية الرائقة السائدة فيه. ثمة فصل في الكتاب عنوانه: ما الزمان؟ ومن هنا كانت نقطة الشروع لي في التدقيق بمفهوم الزمان على المستوى الفلسفي. علمتُ في سنوات لاحقة أنّ رايشنباخ ألّف كتاباً كاملاً عنوانه «The Philosophy of Space and Time»، لكنّه لم يترجم إلى العربية للأسف، ولم نكن في القرن الماضي بقادرين على اقتناء كلّ ما نرغب بقراءته من كتب لأسباب عملية معروفة.

الفلسفة وأبعاد الزمن

لو سلّمنا بمقولة الفيلسوف كانْت، عن استحالة تعريف أبعاد الزمان الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، فإننا سنغرق في بحار المقولات الفلسفية ونتبدد ونبدد الزمان في تساؤلاتنا. وضَعَ كانْت أمامنا شرط المستحيل؛ فالماضي هو الذي تبدّد وما عاد موجوداً، والمستقبل هو ما لم يَحِن أوانه بعدُ؛ فلا يتبقى من ممكن خاطف كالبرق الخُلَّب إلا الحاضرُ، وهو ليس الوقت كله، لكنه الزمان الذي تدركه الحواس ويعيه العقل وتعبره أجسادنا الحية في حركتها أو سباتها.

يكتب القديس أوغسطين: الزمان هو أكثر من شيء واحد، فهو بُعْدُ الوعي الذي يتوجه انطلاقاً من الحاضر نحو المستقبل في الانتظار، ونحو الماضي في التذكر، ونحو الحاضر في الانتباه؛ وعلى هذا فالحاضر هو برهة انتباهنا لوجودنا في المكان والزمان، أو كما يقول برغسون: «لا وجود للماضي ولا للمستقبل. ليس الوقت إلا هذا الشعور بالتعاقب لهذه اللحظات الآنية، وإنّ ذكاءنا هو الذي يفهم الوقت انطلاقاً من اللحظة الآنية، يربطه بالمكان لأنّ الآنية ليست من طبيعة الزمان، وإنما من طبيعة المكان. في مقابل هذا الزمان الفيزيائي هناك الزمن النفسي (الديمومة). الديمومة ليست آنية، هي متصلة لأن الشعور في حاضره غير منفصل عن ماضيه وهو مقبل في الوقت نفسه على المستقبل، كما أنها (الديمومة) ليست قابلة للقياس ومتجانسة. هذا هو الزمان قبل أن يتصرف فيه ذكاؤنا ويفككه إلى لحظات متمايزة».

الزمن عند هايدغر هو ما يحقق لنا الوجود؛ فهو يرى أن الزمان يقذف الإنسان باستمرار، وهو ما جعله الوحيد الذي يوصف بأنه موجود. الوجود لا يعني الخضوع للزمان، وإنما أن يقذفك الزمان دوماً نحو المستقبل، ونحو الممكن، ويكون عليك الاختيار وتبريرُ الاختيار. هذا هو القلق الوجودي الملازم للكائن البشري.

لكن ثمة اقتران يبدو حتمياً في حدود خبرتنا البشرية بين الزمان والمكان. استطاع آينشتاين في نظريته النسبية العامة، وبضربة تنمّ عن أستاذية لامعة، ربط الزمان والمكان في مفهوم واحد هو الزمكان Space-time، لكن يبدو أنّ الزمان يتقدّمُ على المكان. هذه العلاقة الشرطية بين الزمان والمكان هي الأساس الفلسفي الذي تنبثق منه كلّ تساؤلاتنا العميقة بشأن وجودنا البشري. نحن في النهاية كينونات مادية توجد في محيط متصل من الزمكان، ومحكومون بشروطه، وليست كل مفاهيمنا عن الكينونة والهوية والعلاقات البشرية سوى تجسيدات لوجودنا في هذا الزمكان.

فلسفة الزمان في كتاب حديث

لم تعد فلسفة الزمان مبحثاً فرعياً في سياق دراسة فلسفة العلم. تأسست مراكز بحثية مستقلة لدراسة فلسفة الزمان في كبريات الجامعات العالمية الرصينة، وصارت كتب كثيرة تنشَرُ بحثاً واستقصاء للتطورات الحثيثة في مفهوم فلسفة الزمان وتأثيراتها المؤكدة في إعادة تشكيل رؤيتنا العلمية للعالم، وربما فلسفة الزمان تتماثل في أهميتها مع فلسفة العقل ونظرية المعرفة في علاقة كل منهما مع التطورات الحاصلة في علم الحاسوب والذكاء الاصطناعي.

من الكتب الحديثة المنشورة في فلسفة الزمان كتابٌ ألّفه البروفيسور غريمي فوربس Graeme A. Forbes ونشرته حديثاً دار نشر «راوتليدج» العالمية، ضمن سلسلتها المعروفة الأساسيات The Basics. الأستاذ فوربس مختص بفلسفة الزمان، عمل لأكثر من عقد في قسم الفلسفة بجامعة كنت البريطانية قبل أن يتقاعد عن التدريس فيها عام 2022.

الكتاب طبق فلسفي بتوابل لذيذة ستثير شهية كلّ من تمرّس بالقراءات الفلسفية الخاصة بالموضوعات التأصيلية الأساسية: أصل الزمان والمكان، أصل الوعي، أصل الكون، أصل الحياة. ولما كان الزمان سابقاً لكلّ هذه الموضوعات وشرطاً لوجودها فسيكون من الضرورة اللازمة إيلاؤه قدراً غير يسير من الاهتمام والمساءلة.

بعد مقدمة تمهيدية يبدأ الكتاب بموضوعة جوهرية لكلّ كتاب يتناول فلسفة الزمان، أقصد بذلك مفهوم التغيّر Change. التغيّر هو حجر الأساس في بناء كلّ فلسفة منتجة للزمان، ومنها يمكن الانطلاق لإثراء الموضوع، وهذا هو ما فعله المؤلف تماماً في فصول لاحقة تناول فيها: اختبار التغيّر، واختبار الذات، ثمّ يتناولُ موضوعات النسبية والآنية، وسهم الزمان، والسفر عبر الزمان، الانحياز الزماني، إعادة كتابة التاريخ، العيش في الحاضر.

عقب مقتبس من مقطع شعري لإليوت، يكتب المؤلف في مقدمته:

«لم أحاولْ أبداً إخفاء شخصيتي أو آرائي عن القارئ. تتبدى آرائي في عدد من الكيفيات، منها: اختيارُ الموضوعات. العديد من المقدمات المكتوبة عن فلسفة الزمان تركّز بؤرتها البحثية على الميتافيزيقا أو فلسفة الفيزياء فحسب. فعلتُ هذا مثلما فعلوا، لكنني لم أكتفِ به، بل اجتهدتُ لتضمين موضوعات أخرى مثل فلسفة التاريخ؛ لأنني أرى أنّ موضوعات التاريخ يجب أن تكون مبعث إثارة وتفكّر لدى كلّ من يشتغلُ في نطاق فلسفة الزمان...».

يبدو الكتاب مُعدّاً عن منهاج دراسي جامعي لأنّ الصبغة البيداغوجية (التعليمية) واضحة فيه. أرى في هذه الخصيصة مصدر قوة للكتاب لأنّه سيفي بمتطلبات التعلّم الذاتي التي صارت سمة شائعة في معظم الكتب المنشورة حديثاً. يبدو أنّ المؤلفين المعاصرين باتوا يتلمّسون روح العصر الحديث حيث التعلّم الذاتي Self-Study سيكون النمط الشائع للتعلّم فيه عمّا قريب، وبخاصة مع انفتاح الفضاء الرقمي على فضاءات لا محدودة من البيانات الكبيرة ومصادر المعلومات.

فلسفة الزمان: الأساسيات

Philosophy of Time: The Basics

المؤلف: غريمي فوربس

Graeme A. Forbes

الناشر: Routledge, Taylor & Francis Group

السلسلة: The Basics

عدد الصفحات: 224

السنة: 2024