الهند تبنّت أساليب الطهي الفارسي شكراً لإمبراطورية المغول

أطباق اليوم عربون تقدير للتاريخ

البهارات سر النكهة في  المطبخ الهندي
البهارات سر النكهة في المطبخ الهندي
TT
20

الهند تبنّت أساليب الطهي الفارسي شكراً لإمبراطورية المغول

البهارات سر النكهة في  المطبخ الهندي
البهارات سر النكهة في المطبخ الهندي

بدأت إمبراطورية المغول، التي حكمت الهند لنحو 300 عام، عندما استولى مؤسسها بابور على دلهي في 1526، مما مهد لدخول فصل جديد في تاريخ الهند تم فيه جلب أساليب الطهي الموجودة الفارسية، وتلك الموجودة في آسيا الوسطى إلى الهند، وهو الأمر الذي أدى لوجود مجموعة متنوعة من الأطباق الهندية الشهية اليوم.
وقد كان المغول أصحاب ذوق فخم ورفيع، حيث كانوا يحبون الوصفات الغنية، والمعقدة، التي تضم مزيجاً لذيذاً من النكهات، والتوابل، والروائح، فالطبخ في المطابخ الملكية في ذلك الوقت كان بمثابة حالة عارمة من الألوان والنكهات، وغالباً ما كان يتم إضافة الحليب والقشدة واللبن الزبادي للكاري والمرق وذلك لجعلهم أكثر غنى، كما كان يتم تزيين الأطباق بالزهور الصالحة للأكل، والرقائق المصنوعة من المعادن الثمينة مثل الذهب والفضة.
وكان من المألوف أن يتشاور كبير الطهاة مع كبير الأطباء أثناء وضع قائمة الطعام الملكية، وذلك للتأكد من استخدام مكونات مفيدة على المستوى الطبي، فعلى سبيل المثال، كان يتم تغليف كل حبوب الأرز الذي يتم استخدامه لعمل أطباق البرياني بزيت يحتوي على الفضة، حيث كان يُعتقد أنه يساعد على الهضم كما كان يُستخدم كمنشط جنسي.
أما بالنسبة لمساهمات الأباطرة المغول أنفسهم، فقد أضاف كل منهم ذوقه في فصل خاص به، ولكن بابور، مؤسس الأسرة الحاكمة، هو مَن وضع الأساس، حيث إنه لم يجلب الجيوش فقط إلى الهند، ولكنه أيضاً جلب حنيناً هائلاً لطفولته التي قضاها في جبال أوزبكستان الصخرية، فلم يكن بابور من محبي الطعام الهندي، ولذا فقد كان يفضل مطبخ بلده في سمرقند، وخاصة الفواكه.
وتكشف الروايات التاريخية عن شيوع الطهي في ذلك الوقت في الأفران المدفونة في الأرض، حيث كان يتم دفن الأواني الفخارية المليئة بالأرز والبهارات وأي لحوم كانت متاحة، في حفر ساخنة وبعد اكتمال النضج كان يتم تقديمها للمحاربين، وكان طهاة بابور متمسكين، بشكل أساسي، في المقام الأول، بالحمية الغذائية المرتبطة بفترات الحرب، كما استخدموا تقنيات الشواء البسيطة التي استخدموا فيها بعض المكونات الهندية.
ومن المثير للاهتمام أن بابور قد قال، في سيرته الذاتية: «لا يوجد عنب، أو فواكه عالية الجودة، أو شمام أو رمان في الهند»، فلم يكن معجبا بالطعام الهندي المحلي، الذي كان يفتقر إلى البهارات والنكهات التي اعتاد عليها في مسقط رأسه في سمرقند، فقد كان يفتقد طعام فرغانة (وهو الإقليم الذي ولد فيه في آسيا الوسطى).
ولذا، فإن أول ما فعله كان إنشاء سلاسل لتوريد الطعام إلى الهند، والتي جلبت طعام أراضيه الأصلية إلى البلاد، وتقول الأسطورة إن بابور كان يبكي عند تذوق نكهة البطيخ الحلوة وذلك لأنها كانت بمثابة تذكرة مؤلمة له ببلاده التي يفتقدها.
وفي كتاب «الكاري: قصة طهاة وغزاة»، والذي صدر في 2006، كتب المؤرخ ليزي كولينغهام أنه «في نهاية حياته، اكتشف بابور أنه كان من الممكن زراعة العنب والبطيخ في الهند ولكن طعم البطيخ كان يجعله يشعر بالحنين إلى الوطن، وهو الأمر الذي كان يجعله يبكي».
وعندما طُرد نجل بابور، همايون، من الهند بواسطة الإمبراطور الهندي شير شاه صوري، فإنه لجأ إلى بلاد فارس، وعلى عكس والده، فقد كان الإمبراطور المغولي الثاني يوظف طهاة هنديين، والذين كانوا يقدمون له طبقاً من الأرز والبازلاء، وهو بمثابة النسخة الهندية من الكشري، وقد أدى ظهور المزيج الرائع من الأرز والبازلاء والزعفران إلى ولادة البرياني الهندي الذي يتم تناوله في أجزاء كثيرة من البلاد باعتباره جزءاً أساسياً من عادات الطعام الهندية.
وعند عودته إلى الهند، أحضر همايون عدداً كبيراً من الطهاة الفارسيين، الذين جلبوا إلى الهند أطباقاً تم تطويرها على مدى قرون، وبتعبير أدق، فقد كانت زوجته الإيرانية، حميدة، هي التي أدخلت استخدام الزعفران والفواكه المجففة في المطابخ الملكية خلال النصف الأول من القرن السادس عشر. وكان همايون مولعاً للغاية بمشروب «الشربات»، ولذلك فقد كان يتم تطعيم المشروبات في المطبخ الملكي بطعم الفواكه، وعلى هذا النحو، فقد كان يتم جلب الجليد من الجبال للحفاظ على هذه المشروبات باردة ولذيذة.
وقد تم ذكر الكثير من الوصفات التي تم استخدام كميات كبيرة من الزعفران فيها، في كتاب «Ain - i - Akbari»، الذي يتحدث عن حكم الإمبراطور المغولي الثالث، جلال الدين أكبر، من أبناء همايون، فقد قام المغول بزراعة هذه النباتات لتزويد الطهاة بالإمدادات الجاهزة، ويكتب كولينغهام: «أصبح الحلتيت شائعاً بين الأشخاص النباتيين في البلاد، فعندما يتم طهيه في الزيت، فإن مذاقه يصبح قريباً من مذاق الثوم، مما جعله بديلاً جيداً للبصل والثوم اللذين كانا يتم تجنبهما من قبل الهندوس المتدينين».
ومع ذلك، فإن المطبخ المغولي لم يبدأ في التطور بشكل حقيقي إلا خلال عهد الإمبراطور أكبر في الفترة بين (1555 - 1605)، فقد بدأ الأمر بفضل الكثير من الزيجات، حيث جاء طهاة من جميع أنحاء الهند وقاموا بدمج أساليب الطهي الخاصة بهم مع النكهات الفارسية.
والنتيجة كانت ظهور وجبات فريدة ومعقدة ولذيذة في المطبخ المغولي، فعلى سبيل المثال، هناك طبق مورغ موسلم الرائع، وهو عبارة عن دجاجة كاملة يتم تتبيلها بتوابل الماسلا، ثم حشوها بمزيج من التوابل واللحم المفروم والبيض المسلوق، ثم يتم طهيها لمدة طويلة للغاية، وهناك أيضاً طبق نافراتان كورما (أي الكاري المكون من تسع جواهر)، وهو طبق شهي محضر من تسع خضراوات مختلفة مغطاة بصلصة لذيذة مكونة من الكاجو والكريمة. كما أدخل الإمبراطور أكبر أيضاً النكهات المحلية في المطابخ الملكية، واختار أن يكون نباتياً عدة أيام في الشهر، وقد تضمنت قائمة الطعام المفضلة لأكبر الخضراوات الطازجة المزروعة في حدائق مطبخه الملكي، فضلاً عن أطباق محلية أخرى مكونة من الأرز.
وتماشيا مع الأفكار الملكية في الهند، فلم يكن الإمبراطور أكبر يستخدم سوى مياه نهر الغانغ للشرب، حيث يقول مؤرخ حكمه وصديقه، أبو الفضل، إنه كان حريصاً للغاية على أن تكون مياه الغانغ متوفرة دائماً في قصره، وأيضاً في رحلاته.
ومن المثير للاهتمام، أن أكبر كان نباتياً لمدة 3 أيام في الأسبوع، بل وقام بزراعة حديقة خاصة بالمطبخ الملكي، وذلك لضمان أن النباتات التي يتناولها يتم سقيها بعناية بماء الورد، بحيث تنبعث رائحة العطر من الخضار عند طهيه.
ويُعتقد أيضاً أن زوجة أكبر، جودا باي، هي مَن أدخلت الـpanchmel dal (عبارة عن 5 أنواع مختلفة من العدس مطبوخة معاً)، للمطبخ المغولي، وذلك إلى جانب مجموعة كبيرة من الأطباق النباتية الأخرى، وبحلول الوقت الذي تولى فيه شاه جاهان العرش، كان قد بات لدى المطبخ الملكي وصفة خاصة به من الـpanchmel dal. واستمر تطور المطبخ المغولي بشكل سريع في عهد جيهانكير، والذي كانت مقاليد الإمبراطورية حينها في قبضة زوجته العشرين، ميهرو نيسا (المعروفة باسم نور جهان)، فقد كانت شخصية قوية للغاية في البلاط الملكي، وكثيراً ما كان يتم إهداؤها أشياء فريدة من نوعها من قبل التجار الزائرين من دول أوروبية مثل فرنسا وبريطانيا وهولندا. وقد استخدمت نور جهان، التي كانت فنانة بالفطرة، هذه الأشياء الفريدة لعمل نبيذ أسطوري، ولبن زبادي ملون بألوان قوس قزح، وأطباق مزينة بأشكال جميلة من طلاء مصنوع من مسحوق الأرز وقشور الفاكهة المسكرة.
ومع ذلك، فإن المطبخ المغولي لم يبلغ ذروته سوى في عهد الإمبراطور شاه جاهان، والذي أمر الطهاة في المطبخ الملكي بإضافة المزيد من التوابل مثل الكركم والكمون والكزبرة إلى الوصفات الملكية، وذلك لخصائصها الطبية الهائلة، ومن المثير للاهتمام، أن الأسطورة تقول إن الطهاة قد أضافوا أيضاً مسحوق الفلفل الأحمر لإبقاء الأرواح الشريرة بعيداً.
وتفسر أسطورة أخرى أصول طبق الـ«نيهاري»، وهو مرق اللحم الحار المطبوخ ببطء على مدى ليلة كاملة في وعاء كبير يسمى shab deg، بأنه قد ظهر بعدما اجتاحت الإنفلونزا العنيفة شاهن آباد، عاصمة المغول التي تسمى الآن دلهي القديمة، وحينها عمل الطبيب الملكي وكبير الطهاة معاً حتى توصلوا لهذه التوابل القوية التي يتم وضعها في الحساء للحفاظ على الجسم دافئاً ومحصناً ضد العدوى، فيما تُرجِع قصة شعبية أخرى أصول البرياني إلى ممتاز محل، وهي ملكة شاه جاهان الجميلة التي ألهمته لبناء تاج محل، حيث يقال إن ممتاز قد زارت ثكنات الجيش في أحد الأيام ووجدت أن جنود المغول يبدون ضعفاء ويعانون من سوء التغذية، وحينها طلبت من الطاهي إعداد طبق خاص يجمع بين اللحم والأرز وذلك لتوفير التغذية المتوازنة للجنود، وكانت النتيجة هي طبق البرياني. وكان الأباطرة المغول يبهرون الحكام، والنبلاء، والضيوف الأجانب، وكبار الشخصيات الذين كانوا يجلسون على موائدهم، فقد كانت قائمة الطعام، التي يقوم بوضعها الحكيم (الطبيب الملكي)، تتكون من نحو 100 طبق، وكان يعد كل طبق منهم طباخ واحد، وكان الضيوف يأكلون على الأرض، فوق السجاد الفاخر المغطى بقماش أبيض، وكان الطبق الأساسي الذي يتم وضعه في منتصف الوليمة هو البيلاف (طبق مكون من الأرز المطبوخ بالسمن والتوابل واللحوم)، وذلك بجانب مجموعة كبيرة من الطيور والأسماك ولحم الضأن ولحم الغزال ولحم البقر المطبوخ بأشكال مختلفة، وبعد تناول الوجبات، فإنهم كانوا يغسلون أيديهم بالماء المعطر الذي يتم سكبه من الأباريق بواسطة الخدم.
أما في الأيام العادية، فقد كان الإمبراطور يتناول وجباته مع ملكاته، ولم تكن وجبات الطعام اليومية أقل سخاء من الوجبات التي كان يتم تقديمها في الولائم، كما كان المغول يتبعون العرف الهندي في ذلك الوقت من خلال بدء وجباتهم بتناول المخللات والزنجبيل الطازج والليمون، كما أنهم كانوا ينهون الوجبات بمضغ التنبول، ولكنهم أضافوا إلى العرف الهندي تقليد تناول الحلويات، أي تناول شيء حلو في نهاية الوجبة، وليس في البداية أو في الوسط. وبحلول الوقت الذي تم فيه إسقاط الإمبراطور المغولي الأخير من قبل البريطانيين في 1858، كانت هندوستان تم تغيرت إلى الأبد، فقد تركت القرون الثلاثة لحكم المغول إرثاً مستمراً من فنون الطهي، والذي غير شكل المطبخ الهندي بشكل كامل.


مقالات ذات صلة

بينها الشوكولاته... أفضل 10 وجبات خفيفة لشيخوخة صحية ومنع التدهور المعرفي

صحتك شوكولاته مصنوعة يدوياً في بريطانيا (رويترز)

بينها الشوكولاته... أفضل 10 وجبات خفيفة لشيخوخة صحية ومنع التدهور المعرفي

نرغب جميعنا في الحفاظ على صحتنا ونشاطنا لأطول فترة ممكنة، وإحدى طرق مكافحة الشيخوخة هي تناول أطعمة تدعم الصحة على المستوى الخلوي.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
صحتك السبانخ لها فوائد صحية جمة وقد تساعد حتى في الحد من الجوع (رويترز)

هل تساعدنا السبانخ النيئة على الحد من تناول الوجبات الخفيفة؟

يتناول بعض مستخدمي منصة «تيك توك» كميات كبيرة من أوراق السبانخ النيئة، ويزعم الكثيرون أن تناول السبانخ في الصباح الباكر يُعيد تدريب براعم التذوق لدينا.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
صحتك الأطعمة شديدة المعالجة وعالية السعرات الحرارية تلعب دوراً مهماً في تطور السمنة (رويترز)

كيف تؤثر 5 أيام فقط من تناول الوجبات السريعة على دماغك؟

بعد يوم عمل طويل ومجهد، أو عند ضيق الوقت، قد يكون تناول وجبة خفيفة سريعة ومشبعة - مثل رقائق البطاطس أو لوح الشوكولاته - حلاً لذيذاً ومرضياً.

«الشرق الأوسط» (برلين)
يوميات الشرق من خشبة المسرح إلى خشبة تقطيع اللحم... 9 مشاهير أبدعوا في المطبخ

من خشبة المسرح إلى خشبة تقطيع اللحم... 9 مشاهير أبدعوا في المطبخ

ليست ميغان ماركل وحدها من بين المشاهير الذين يمتلكون مواهب مطبخيّة على ما استعرضت في برنامجها التلفزيوني الجديد. فقد سبقتها إلى ذلك كيت ميدلتون وغيرها من النجوم

كريستين حبيب (بيروت)
صحتك رجل يحمل قطعة من التمر خلال حضوره إفطاراً ضمن شهر رمضان في برلين (إ.ب.أ)

الصيام المتقطع قد يحميك من تجلط الدم

من المعروف أن جلطات الدم خطيرة وتؤدي إلى مضاعفات مثل النوبات القلبية والسكتات الدماغية وقد تضر بالرئتين أيضاً.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

مرسيليا ملكة البيتزا الحلال... والأرمينية

بيتزا مميزة في مطاعم في منطقة "كور جوليان" (نيويورك تايمز)
بيتزا مميزة في مطاعم في منطقة "كور جوليان" (نيويورك تايمز)
TT
20

مرسيليا ملكة البيتزا الحلال... والأرمينية

بيتزا مميزة في مطاعم في منطقة "كور جوليان" (نيويورك تايمز)
بيتزا مميزة في مطاعم في منطقة "كور جوليان" (نيويورك تايمز)

في إحدى الليالي المعتدلة في مرسيليا، ثاني أكبر مدينة في فرنسا، تتحرك الحشود في شوارع حي «كور جوليان» المركزي الذي تتناثر فيه رسومات الغرافيتي. تتوزع المباني الملونة كما لو أن مياه البحر الأبيض المتوسط القريبة قد غمرتها ثم انحسرت عنها وخلفت وراءها أصباغ قوس قزح متناثرة.

إنه منتصف الليل تقريباً. لا تزال الساحة تعج بالناس. أغلب المطاعم مغلقة، لكن الوهج الدافئ يلوح من طاولات أخرى مفتوحة، حيث تفوح رائحة صلصة الطماطم والجبن والعجين في الهواء.

قال لي صديقي سيمون، المولود في مرسيليا، عندما انتقلت إلى المدينة منذ أكثر من عام بقليل: «هنا، الطعام في وقت متأخر من الليل، ليس الكباب أو الكريب إنها البيتزا».

تتميز بيتزا مرسيليا بقشرة أقسى من بيتزا نابولي اللينة. وعادة ما تُصنع بجبن الإيمنتال بدلاً من جبن الموزاريلا. ويقول البعض إن السبب في ذلك هو أن جبن الإيمنتال كان متاحاً أكثر؛ بينما يؤكد آخرون أنه أكثر ملوحة وغنى. وكثيراً ما يستبدل صانعو البيتزا البردقوش البروفنسالي بالأوريغانو؛ وأحياناً ينثرون الثوم النيء فوقها.

أما شريحة بيتزا مرسيليا الكلاسيكية، فهي فطيرة الـ«مواتييه مواتييه» (النصف نصف)، وهي فطيرة من الطماطم محشوة بالأنشوجة على جانب واحد والجبن على الجانب الآخر. أما البيتزا الأرمينية، فإنها تحتوي على لحم البقر المفروم والبصل والفلفل. وتوجد نقانق فيغاتيلي الحلوة مع الجبن الذي يشبه الريكوتا فوق الفطيرة الكورسيكية. تتوفر البيتزا الحلال في حي «نواي» القريب من الميناء.

ويعكس هذا التنوع طابع المدينة نفسها. جلب الإيطاليون البيتزا للمرة الأولى إلى مرسيليا في أواخر القرن التاسع عشر، ومنذ ذلك الحين، احتضنت المدينة موجات من المهاجرين، من أماكن مثل أرمينيا وكورسيكا والجزائر، وجميعهم احتضنوا الطبق الإيطالي الأصل وجعلوه طبقاً خاصاً بهم.

تقول سيلين رينيارد، المؤرخة المحلية: «لا يختلف الأمر كثيراً في مرسيليا عن المدن الساحلية الصناعية الكبرى الأخرى، لكن ما يميز مرسيليا، ربما مثل نيويورك بعض الشيء، هو أن هناك طابعاً كوزموبوليتانياً عالمياً. إذ تعدُّ المدينة نفسها بوتقة انصهار للجميع».

مرسيليا هي فسيفساء من الناس والثقافة والتاريخ. والبيتزا هي مجرد وسيلة لاستكشاف ذلك المزيج.

وصل المهاجرون الإيطاليون إلى مرسيليا بأعداد كبيرة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حيث استقر الكثير منهم في «لو بانييه»، أقدم أحياء المدينة، حيث افتتحوا مطاعم مثل «لا بيلا بيتزا»، أول مطعم بيتزا مسجل في المدينة.

بيتزا "مواتييه مواتييه" في مرسيليا (نيويورك تايمز)
بيتزا "مواتييه مواتييه" في مرسيليا (نيويورك تايمز)

كانت جوزفين روكارو وزوجها يديران مزرعة في صقلية قبل أن ينتقلا إلى مرسيليا في وقت ما من عشرينات القرن الماضي - وعائلتهما غير متأكدة من السنة التي هاجرا فيها على وجه التحديد. في البداية كانت روكارو تبيع البيتزا في الشارع من صندوق خشبي. ثم افتتحت مطعم «لا بيلا بيتزا» في عام 1924.

لم يعد المطعم الأصلي موجوداً. لكن بالقرب من «كور جوليان»، ينفتح باب أسود خفي على صوت أزيز مسموع من غرفة مزدحمة ذات إضاءة خافتة. تلف صانعة البيتزا العجين وتديره على خلفية فرن ناري مشتعل. المكان ضيق، لكن عندما يكون الطقس لطيفاً - وهو ما يحدث أغلب الوقت في مرسيليا - يتدفق رواد المطعم إلى الشرفة. هذا هو مطعم «لا بيلا بيتزا» اليوم، ويديره رومان سابينزا، وهو حفيد حفيد روكارو.

خلال إحدى زياراتنا الأخيرة، خرج سابينزا من خلف المنضدة بابتسامة عريضة. افتتح المطعم في عام 2021 بعد أن قضى سنوات في وظيفة مكتبية. وقال إنه كان متحمساً للعمل بيديه، حيث كان يقوم بحركة عجن عجينة البيتزا.

عندما نشأ في بلدة قريبة، كان منزل والديه وأجداده - الذي كان يبعد أقل من نصف ميل عن بعضهما بعضاً - مجهزاً بأفران البيتزا في الفناء الخلفي، كما قال وهو يقلب في بعض الصور القديمة الممسوحة ضوئياً على هاتفه.

في إحدى الصور، تجتمع العائلة حول طاولة بلاستيكية بيضاء مغطاة بقماش مزين بالزهور بينما كانت جدته تقطع البيتزا. قال سابينزا إن أجداده كانوا يملكون مطعمهم الخاص في مرسيليا، الذي كان يحمل اسماً مختلفاً في الستينات. وقال إن تجار المخدرات والقوادين كانوا يتناولون الطعام هناك بجانب رئيس الشرطة والسياح.

تُصنع البيتزا في مطعم «لا بيلا بيتزا» على طريقة مرسيليا مغطاة بالثوم الطازج؛ ويقول سابينزا إن شريحة البيتزا يجب أن تكون مقرمشة بما يكفي للإمساك بها بثلاثة أصابع - الإبهام والسبابة والوسطى - ويجب أن تكون صلبة من الأسفل ولينة من الداخل.

وقال أيضاً: «بيتزا مرسيليا هي بيتزا لها قصة. فنحن نشعر بالتاريخ والإنسانية والثقافة من خلال الطعام وكيفية تناوله».

طلبات البيتزا الجاهزة كبيرة ورائجة في مرسيليا؛ حيث تجوب المدينة أكثر من 50 شاحنة حول المدينة وتقف في مواقع مختلفة حسب اليوم. يأخذ الناس البيتزا لتناولها على الشاطئ، ويعرضون أحياناً مشاركتها مع أي شخص قريب. عندما يلعب فريق كرة القدم المحلي «أولمبيك مارسيليا» مباراة ما، يبدو الأمر كما لو أن كل شخص في المدينة لديه شريحة بيتزا في يده. حتى أن الكثيرين يتناولونها أثناء التنقل، وهو أمر نادر في فرنسا، حيث يعدُّ الجلوس لتناول الوجبات أمراً مقدساً.

في أيام الخميس، بدءاً من نحو الساعة الرابعة عصراً تقريباً، عادة ما تركن شاحنة بيضاء تابعة لـ»برونو لافوري» (48 عاماً)، أمين صندوق اتحاد شاحنات البيتزا المحلي، مقابل كنيسة «نوتردام دو مونت»، على بعد خطوات قليلة من مطعم «لا بيلا بيتزا».

وفي ظهيرة أحد أيام الأسبوع، كان أحد زملاء لافوري يقف خلف منضدة المطبخ. كان يتحرك في إيقاع ثابت، جاعلاً تعدد المهام يبدو وكأنه رقصة لا شعورية من دون عناء. كان يسجل طلباً، ويدور ويدخل الفطيرة في الفرن قبل أن يدور عائداً إلى المنضدة ويمد يده إلى الأعلى ليحضر المناديل. قدَّم الخدمة للزبائن، ثم عاد إلى الثلاجة، وأمسك بكومة من العجين ووضعها بقوة على المنضدة وعجنها ومدها، ثم نشر الصلصة ونثر الجبن ثم أدخلها إلى الفرن.

على مدار 15 عاماً، كان لافوري يدير هذه العملية اللذيذة، لكن غير الموصوفة: قال لي عندما جلست معه لتناول القهوة: «لا يوجد اسم معين لها. إنها فقط الشاحنة، هذا هو الاسم».

تحتوي «بيتزا بيانكا»، وهي شاحنة في ساحة «سيباستوبول» - وهي ساحة تضم مقاهي ومحال بقالة متخصصة وسوقاً في صباح السبت - على أكثر من 50 نوعاً من البيتزا الكاملة، بالإضافة إلى شرائح البيتزا في قائمة الطعام الخاصة بها. قشرة البيتزا الكورسيكية رقيقة وصلبة ومتماسكة، لكنها ليست مقرمشة. ويضيف الجبن نكهة كريمية خفيفة ومالحة إلى الصلصة، أما النقانق فهي ذات مذاق أشبه بالعسل.

في منتصف المسافة تقريباً بين «بيتزا بيانكا» وحي «كور جوليان»، تقع شاحنة بيتزا «جيه دي» بلونها الأصفر الكناري، حيث تقدم شاحنة بيتزا «جيه دي» الصفراء مجموعة واسعة مماثلة من العروض والخيارات (هذا هو المكان الذي صنع فيه أنتوني بوردان والشيف إريك ريبيرت البيتزا في مسلسل «أجزاء غير معروفة: مرسيليا»). القشرة سميكة وناعمة والشرائح كبيرة. تُعدُّ البيتزا الأرمينية، التي تحتوي على الفلفل الأخضر والأحمر الذي يكمل اللحم المفروم والبصل مدرجة تحت فئة «البيتزا التقليدية» في قائمة الطعام.

في جميع أنحاء مرسيليا، هناك عدد لا يحصى من المطاعم المتواضعة التي قد تحتوي على عدد من الفطائر المعروضة أكثر من عدد الطاولات. أحد هذه الأماكن هو مطعم «بيتزا شارلي» - وهو متجر تديره عائلة أسسته منذ أكثر من 60 عاماً، ولديه الآن ثلاثة فروع في جميع أنحاء المدينة - وهو من المؤسسات المحلية البارزة هنا.

يقع «بيتزا شارلي» الأصلي قبالة سوق «مارشيه دي نواي»، وقفت نبية عليوي (67 عاماً)، التي تعمل في المطعم، على طاولة خارج واجهته الحمراء، تلف الحلويات الرمضانية. جميع أنواع البيتزا التي يقدمها مطعم «شارلي» حلال؛ فهناك شرائح لحم الديك الرومي والمرقاز (السجق العربي) إلى جانب الجبن والأنشوجة. قشرة البيتزا رقيقة ومتينة، لكنها لا تتشقق عند طيها، والصلصة ذات نكهة عشبية. انتقلت السيدة عليوي من الجزائر إلى مرسيليا منذ نحو 40 عاماً إلى المبنى في الشارع المقابل للمطعم، وسرعان ما بدأت في التواجد في الطابق السفلي مع شارلي رودوسيو، ابن مؤسس المطعم، الذي كان مالكا للمطعم وقتذاك، والآن، يمتلك ابنها، شارلي رودوسيو جونيور المطعم.

* خدمة «نيويورك تايمز»