خصلات الشعر «الإنسانية»... تبرعات لمرضى السرطان

شباب نشيطون يؤكدون بساطة الفكرة وعمق معناها

شابات يتبرّعن بخصلات من شعرهن لمرضى السرطان
شابات يتبرّعن بخصلات من شعرهن لمرضى السرطان
TT

خصلات الشعر «الإنسانية»... تبرعات لمرضى السرطان

شابات يتبرّعن بخصلات من شعرهن لمرضى السرطان
شابات يتبرّعن بخصلات من شعرهن لمرضى السرطان

إيلاكشي وسميرة، شقيقتان صغيرتان من الصف السابع والرابع، قصّتا خصلات من شعرهما الطويل لهدف بسيط في فكرته، وعميق في معناه، وعظيم في أثره، إذ كان الدافع مجرد رسم البسمة الطيبة على وجوه بعض الناس. وتبرعت الطفلتان الصغيرتان بشعرهما لصناعة باروكة للمصابين بمرض السرطان. وتقول الفتاتان الصغيرتان: «سنكتب أيضا خطابا إلى الشخص الذي يتولّى صناعة الباروكة من الشعر».
على نحو مماثل، تبرعت الفتاة ربيعة سيد، البالغة من العمر 14 عاما، بما مقداره 12 بوصة من شعرها، وقالت عن ذلك: «عندما سمعت عن هذه المبادرة، قررت من دون تفكير التبرع بجزء من شعري لهذه القضية. فإن لم يمكننا التخفيف من الآلام أو معاناة مرضى السرطان، فأقل ما يمكننا فعله لأجلهم هو منحهم جزءا من شعرنا. وأحاول أينما ذهبت أن أنشر الفكرة والوعي بهذه المبادرة وحض الناس الآخرين على التبرع بالشعر بأعداد كبيرة قدر المستطاع».
وكانت السيدة راديكا، البالغة من العمر 36 عاما، وهي إحدى المريضات الناجيات من المرض الخبيث، تستعين بالشعر المستعار الذي تبرعت به الفتاة ربيعة، وقالت عن تجربتها: «لقد تأثرت للغاية بتلك اللفتة الطيبة الراقية من هذه الفتاة الصغيرة. لقد تبرعت بشعرها لأجلي رغم اعتراض جديها على ذلك».
لعلاجات السرطان العديد من الآثار الجانبية المعروفة للجميع، ولكن أكثر ما يكسر قلب المريضة أو المريض، هو تساقط الشعر وذهابه. ويرجع ذلك بسبب خضوع المريض للعلاج الكيميائي الذي يقضي على الشعر ويجعل المريض يعاني من فقدان احترامه لنفسه بصورة عميقة، ويصل الأمر ببعض المرضى لآثار نفسية شديدة مثل التوتر والاكتئاب المزمن.
يقول طبيب علاج الأورام ساتيش شارما: «نشعر جميعا بذعر عارم لمجرد رؤية بعض الشعيرات العالقة المتشابكة بلا نظام في فرشاة تمشيط الشعر اليومية. ذلك لأنّ الخوف من فقدان الشعر بالكامل في يوم من الأيام بات كالشبح الذي يطاردنا أينما ذهبنا. تصوروا مدى ما يعانيه مرضى السرطان – أو الناجون من هذا المرض – من قلق وانزعاج شديد عندما يشاهدون أنفسهم من دون شعر على الإطلاق»، واصفا المبادرة المذكورة بأنّها من أفضل الهدايا الرائعة التي يمكن للمرأة تقديمها عن طيب خاطر إلى مرضى السرطان. وتقول الدكتورة تارانغ غيانشانداني، مديرة مستشفى ومركز جاسلوك للأبحاث الطبية في مدينة مومباي: «في بعض الأحيان، يفقد المرضى ثقتهم بأنفسهم، وإنّنا نريد مساعدتهم ونشر الوعي وحض الناس على التبرع بشعورهم لأجلهم».
يستعد الطفل مير ديف، البالغ من العمر ثلاث سنوات، لمساعدة مرضى السرطان الذين يخضعون للعلاج الكيميائي من خلال مبادرة «شعور الأمل»، المعنية بجمع الشعر لصالح مرضى السرطان، وقالت المؤسسة المشرفة على المبادرة إنّ مير ديف هو أصغر المشاركين في هذه المبادرة على مستوى العالم للتبرع بالشعر لصالح مرضى السرطان.
تقول السيدة بريمي ماثيو، مؤسسة الحملة في الهند: «أصبح التبرع بالشعر لصالح مرضى السرطان من المبادرات الكبيرة الآن، حتى أنّ النساء يرغبن في التخلص من شعور رؤوسهن في تحد واضح للأعراف الاجتماعية لمكافحة آلام فقدان أحد الأحبة إثر الإصابة بمرض السرطان. كما يتبرّع المئات من الرجال لصالح الحملة أيضا. ويعتبر الطفل مير ديف هو أصغر المشاركين فيها حتى الآن».
كانت ديفا كابور، الفتاة التي تبلغ من العمر ثماني سنوات من العاصمة دلهي، تحتفل بعيد ميلادها مع الأطفال من مرضى السرطان منذ العامين الماضيين. وعندما علمت بأمر مبادرة التبرع بالشعر طلبت الإذن من والديها للتبرع بشعرها الطويل لصالح أحد الأطفال الذي يحتاج إليه أكثر منها كما قالت.
بدأت مبادرة «شعور الأمل» في الهند اعتبارا من عام 2013. لنشر الوعي بين الناس بشأن التبرع بالشعر لصالح مرضى السرطان الذين يخضعون للعلاج الكيميائي. وضمن حملة «أنقذ والدتك» لصالح المريضات بسرطان الثدي، وحتى الآن، تبرّع ستة آلاف شخص بالشعر لهنّ في كافة أنحاء البلاد. وأقيمت فعاليات التبرع لمرضى السرطان في العديد من أجزاء البلاد.
واستدركت ماثيو قائلة: «نظرا لأن السرطان من الأمراض العصية على الشفاء، وقد يستثير مكامن اليأس وفقدان الأمل في الحياة لدى النشطاء والمرضى على حد سواء، جاءت تلك المبادرة كنوع من أنواع الرد والانتقام من أحد أفراد الأسرة بسببه. ووراء كل حالة تبرع بالشعر، هناك قصة تعصف بالقلوب، حيث تتحدى الناس أعراف المجتمع ويتحدى الرجال تقاليد العائلات انتصارا للقضية. ولقد صممت إحدى الفتيات على التبرع بشعرها بالكامل حتى صارت صلعاء تماما من أجل القضية، ذلك لأنّها قد فقدت العديد من أحبائها بسبب الإصابة بالمرض الخبيث».
وذاعت عبر الإنترنت أخبار الشرطية الهندية آبارنا لافاكومار، التي تبرعت بشعرها الطويل، الذي يصل إلى ركبتيها، لصالح صناعة الباروكات لأجل مرضى السرطان. والجانب المثير للدهشة من هذه القصة أنّها لم تخبر أحدا قط بما تعتزم فعله بشعرها، لأنّها خشيت من تعرضها لبعض الردع العائلي أو المهني جراء ذلك، وقالت: «لو كنت قد أخبرت أحداً مسبقا بما كنت أنوي فعله، لواجهت قدرا من الردع ربما يثنيني عن التبرع والمساعدة. لذا، انطلقت مباشرة صوب صالون الكوافير من دون تردد أو مشاورة. وبعد كل شيء، فإنّني لا أعتبر الأمر بالإنجاز العظيم. فهناك أناس آخرون يبذلون من التضحيات والمساعدات ما هو أكبر وأروع من ذلك بكثير. وإنّا لست في وضع يسمح لي بمساعدة مرضى السرطان ماديا. وكان شعري هو كل ما أستطيع التبرع به لأولئك المرضى المساكين».
وكان معهد «أديار» لأبحاث السرطان قد أقام صندوقا كبيرا للتبرع بالشعر حيث يضع الرّاغبون بالتبرّع قصاصات أو خصلات من شعرهم فيه. وبعد التبرع بالشعر، يجري فرزه وفقا لنوع ونسيج الشعر من قبل المشاركين في صناعة الباروكات في المستشفى. ويتم التخلص من الرطوبة اللاحقة بالشعر وتجفيفه تماما من ثمّ تحويله إلى شعر مستعار. وتقول بريا، التي قصت شعر رأسها وتبرعت به لأجل القضية في أبريل (نيسان) الماضي، إنّه كان من أفضل القرارات التي اتخذتها في حياتها: «فعلت ذلك للإسهام في نشر الوعي بالقضية والمبادرة بشأن مرض السرطان ومرض الشلل الرعاش. ولم أفكر في الأمر مرتين قط، بل نفذت الفكرة بمجرد ما وردت في رأسي».
وقالت الإعلامية الهندية البارزة أكشايا نافانيثان، التي تبرعت بشعر رأسها لصالح مرضى السرطان: «شعرت وأنا أتبرع بشعري وكأنّني أولد من جديد وأحسست بأنّني انتقلت لمستوى جديد ورائع من الثقة والإيمان بالذات. وبعدما نشرت تجربتي على صفحتي الخاصة بالتواصل الاجتماعي، استلهم كثيرون الفكرة وحذوا حذوي تماما للتبرع بشعر رؤوسهم».
قبل بضع سنوات، اجتمعت مجموعة من الأطباء المحترفين لتشكيل مبادرة «شيناي للتبرع بالشعر». وقال الدكتور مانوغ من أطباء تلك المبادرة: «رأينا العديد من ضحايا مرض السرطان يعانون من آثار نفسية ومعنوية بالغة السوء إثر فقدان شعرهم بسبب العلاج الكيميائي والإشعاعي. فقررنا القيام بشيء لأجل التخفيف من ذلك».
كما تعاونت المنظمة غير الحكومية المذكورة مع بعض منافذ شركة صالونات الحلاقة البريطانية الأصل «توني أند غاي» للمتبرعين الذين يرغبون في قصة شعر أنيقة. وأوضح الدكتور مانوغ الأمر بقوله: «هناك خصومات مالية للمتبرعين. ويمكنهم المجيء لتصفيف شعرهم مجانا هنا بعد التبرع أول مرة. ولكن ليس من اللازم أن يُصفّف المتبرعون شعرهم في هذه الصالونات تحديدا. بل يمكنهم فعل نفس الأمر واتّباع نفس الإرشادات في الصالونات العادية التي يعتادون الذهاب إليها. ويمكننا الحصول على الشعر بعد ذلك. وإن تردّد بعض الناس في القيام بذلك في الصالونات، فلدينا فريق محترف يمكنه زيارة المتبرع في المنزل ويحصل على الشعر هناك».
وبما أن طول الشعر القياسي للمتبرعين يتراوح بين 8 إلى 10 بوصات، يقول الدكتور مانوغ إنّ الأمر يتغير وفقا لجودة الشعر، وكثافته، وملمسه: «حتى الناس الذين طغى الشّيب على شعرهم بنسبة 50 في المائة لا يزال بإمكانهم التبرع». كما تتلقى المنظمة غير الحكومية التبرعات من مدينة فيساخاباتنام، بولاية أندهرا براديش على خليج البنغال، ومن دولة ماليزيا، ومن سريلانكا. وبمجرد جمع كميات معينة من شعر المتبرعين، يتم إرسالها إلى شركاء صناعة الشعر المستعار.
وتعتبر جمعية «هير كراون – تاج الشعر» من المنظمات غير الحكومية الأخرى التي تقبل كافة أنواع وأشكال وطول الشعر، سواء كان معالجا أو ملونا. ويصرون على ألا يقل طول خصلة الشعر المتبرع بها عن 12 إلى 15 بوصة. وتوضح أرشيث من تلك الجمعية العملية الواجب اتباعها عند التبرع: «لا بد من غسيل الشعر جيدا قبل التبرع، يجب عدم إضافة أي منتجات لتصفيف الشعر أو المواد المثبتة للشعر قبل التبرع. وبعد تجفيف الشعر تماما، لا بد من جمعه بعناية خلف العنق في صورة ذيل حصان. مع التأكد أنّ ذيل الحصان محكم تماما مع جمع كافة الشعيرات في وحدة واحدة. ثم لا بد من قياس الطول الذي تريد التبرع به قبل القص. ويجب وضع الشعر المتبرع به في حقيبة محكمة الغلق، ثم في مظروف مغلق لتُرسل بعدها إلى الجمعية».
كانت نيلام جيهاني، تدير شركة مزدهرة للتجميل، ولكن كانت هناك عميلة غير عادية دخلت إلى الصالون وغيّرت مسار حياتها بعد ذلك - ومنحت عملها التجاري غرضا جديدا وفريدا.
كانت العميلة تعاني من مرض السرطان، وكانت في حاجة لارتداء باروكة من الشعر المستعار لإخفاء آثار العلاج الكيميائي عن رأسها. وطلبت السيدة جيهاني منها العودة لزيارة الصالون في غضون أيام معدودة. وبعد فترة وجيزة، منحت جيهاني العميلة المريضة الباروكة التي طلبتها، وقالت: «لن أنسى ما حييت إمارات السعادة والسرور التي ارتسمت على قسمات وجهها وهي تأخذ مني باروكة الشعر المستعار».
ثم شرعت جيهاني في تنظيم حملة للتبرع بالشعر من خلال صالونها الخاص. وتقول اللافتة الخاصة بذلك في الصالون: «إننا نتبرع بالأموال والدماء، وربما الأعضاء لخدمة الأغراض الخيرية للآخرين، الآن، يمكنكم التبرع بالشعر لمن يستحقونه من المرضى استجلابا للبركات».
وكانت الصحافية سنيها شيتي، المختصة بعالم السفر والسياحة قد قررت التبرع بشعرها بالكامل، وعن ذلك قالت: «إنني أعلن عن نفسي من خلال فقداني الاختياري لشعري. وعندما يسألني أحد عن ذلك. أود أن أخبرهم أنّني أحاول إعانة ودعم أولئك الذين يعانون من مرض السرطان. وهذا ليس بيانا للموضة أو الأزياء، وإنّما هو أمر يجعلني أشعر بالارتياح وبالسعادة البالغة». وأضافت، «نجت عمتي من مرض السرطان. وعندما كانت تحاربه دفاعا عن حياتها، كنت أبحث معها عن باروكات الشعر المستعار التي تناسبها. ولقد خبرت المشكلة وعاينتها بنفسي معها، من أجل الحصول على باروكة شعر مستعار من نوعية جيدة وبسعر مناسب».


مقالات ذات صلة

للوقاية من سرطان القولون... تجنب استخدام هذه الزيوت في طهي الطعام

صحتك زيوت البذور يمكن أن تتسبب في إصابة الأشخاص بسرطان القولون (رويترز)

للوقاية من سرطان القولون... تجنب استخدام هذه الزيوت في طهي الطعام

حذَّرت دراسة من أن زيوت البذور -وهي زيوت نباتية تستخدم في طهي الطعام، مثل زيوت عباد الشمس والذرة وفول الصويا- يمكن أن تتسبب في إصابة الأشخاص بسرطان القولون.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك أواني الطهي البلاستيكية السوداء قد تكون ضارة بالصحة (رويترز)

أدوات المطبخ البلاستيكية السوداء قد تصيبك بالسرطان

أصبحت أواني الطهي البلاستيكية السوداء عنصراً أساسياً في كثير من المطابخ، لكنها قد تكون ضارة؛ إذ أثبتت دراسة جديدة أنها قد تتسبب في أمراض مثل السرطان.

«الشرق الأوسط» (أمستردام)
يوميات الشرق يلجأ عدد من الأشخاص لنظام «الكيتو دايت» منخفض الكربوهيدرات (جامعة ناغويا)

مكمل غذائي بسيط يُعزز قدرتنا على قتل السرطان

كشفت دراسة أن مكملاً غذائياً بسيطاً قد يوفر نهجاً جديداً لتعزيز قدرتنا المناعية على قتل الخلايا السرطانية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
صحتك مصابة بالسرطان (رويترز)

فيتامين شائع يضاعف بقاء مرضى سرطان البنكرياس على قيد الحياة

قالت دراسة جديدة إن تناول جرعات عالية من فيتامين «سي» قد يكون بمثابة اختراق في علاج سرطان البنكرياس.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
يوميات الشرق كثير من الأمور البدنية الصعبة يمكن تخطّيها (مواقع التواصل)

طبيب قهر السرطان يخوض 7 سباقات ماراثون في 7 قارات بـ7 أيام

في حين قد يبدو مستحيلاً جسدياً أن يخوض الإنسان 7 سباقات ماراثون في 7 أيام متتالية، جذب تحدّي الماراثون العالمي العدَّائين في جميع أنحاء العالم طوال عقد تقريباً.

«الشرق الأوسط» (لندن)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».