خصلات الشعر «الإنسانية»... تبرعات لمرضى السرطان

شباب نشيطون يؤكدون بساطة الفكرة وعمق معناها

شابات يتبرّعن بخصلات من شعرهن لمرضى السرطان
شابات يتبرّعن بخصلات من شعرهن لمرضى السرطان
TT

خصلات الشعر «الإنسانية»... تبرعات لمرضى السرطان

شابات يتبرّعن بخصلات من شعرهن لمرضى السرطان
شابات يتبرّعن بخصلات من شعرهن لمرضى السرطان

إيلاكشي وسميرة، شقيقتان صغيرتان من الصف السابع والرابع، قصّتا خصلات من شعرهما الطويل لهدف بسيط في فكرته، وعميق في معناه، وعظيم في أثره، إذ كان الدافع مجرد رسم البسمة الطيبة على وجوه بعض الناس. وتبرعت الطفلتان الصغيرتان بشعرهما لصناعة باروكة للمصابين بمرض السرطان. وتقول الفتاتان الصغيرتان: «سنكتب أيضا خطابا إلى الشخص الذي يتولّى صناعة الباروكة من الشعر».
على نحو مماثل، تبرعت الفتاة ربيعة سيد، البالغة من العمر 14 عاما، بما مقداره 12 بوصة من شعرها، وقالت عن ذلك: «عندما سمعت عن هذه المبادرة، قررت من دون تفكير التبرع بجزء من شعري لهذه القضية. فإن لم يمكننا التخفيف من الآلام أو معاناة مرضى السرطان، فأقل ما يمكننا فعله لأجلهم هو منحهم جزءا من شعرنا. وأحاول أينما ذهبت أن أنشر الفكرة والوعي بهذه المبادرة وحض الناس الآخرين على التبرع بالشعر بأعداد كبيرة قدر المستطاع».
وكانت السيدة راديكا، البالغة من العمر 36 عاما، وهي إحدى المريضات الناجيات من المرض الخبيث، تستعين بالشعر المستعار الذي تبرعت به الفتاة ربيعة، وقالت عن تجربتها: «لقد تأثرت للغاية بتلك اللفتة الطيبة الراقية من هذه الفتاة الصغيرة. لقد تبرعت بشعرها لأجلي رغم اعتراض جديها على ذلك».
لعلاجات السرطان العديد من الآثار الجانبية المعروفة للجميع، ولكن أكثر ما يكسر قلب المريضة أو المريض، هو تساقط الشعر وذهابه. ويرجع ذلك بسبب خضوع المريض للعلاج الكيميائي الذي يقضي على الشعر ويجعل المريض يعاني من فقدان احترامه لنفسه بصورة عميقة، ويصل الأمر ببعض المرضى لآثار نفسية شديدة مثل التوتر والاكتئاب المزمن.
يقول طبيب علاج الأورام ساتيش شارما: «نشعر جميعا بذعر عارم لمجرد رؤية بعض الشعيرات العالقة المتشابكة بلا نظام في فرشاة تمشيط الشعر اليومية. ذلك لأنّ الخوف من فقدان الشعر بالكامل في يوم من الأيام بات كالشبح الذي يطاردنا أينما ذهبنا. تصوروا مدى ما يعانيه مرضى السرطان – أو الناجون من هذا المرض – من قلق وانزعاج شديد عندما يشاهدون أنفسهم من دون شعر على الإطلاق»، واصفا المبادرة المذكورة بأنّها من أفضل الهدايا الرائعة التي يمكن للمرأة تقديمها عن طيب خاطر إلى مرضى السرطان. وتقول الدكتورة تارانغ غيانشانداني، مديرة مستشفى ومركز جاسلوك للأبحاث الطبية في مدينة مومباي: «في بعض الأحيان، يفقد المرضى ثقتهم بأنفسهم، وإنّنا نريد مساعدتهم ونشر الوعي وحض الناس على التبرع بشعورهم لأجلهم».
يستعد الطفل مير ديف، البالغ من العمر ثلاث سنوات، لمساعدة مرضى السرطان الذين يخضعون للعلاج الكيميائي من خلال مبادرة «شعور الأمل»، المعنية بجمع الشعر لصالح مرضى السرطان، وقالت المؤسسة المشرفة على المبادرة إنّ مير ديف هو أصغر المشاركين في هذه المبادرة على مستوى العالم للتبرع بالشعر لصالح مرضى السرطان.
تقول السيدة بريمي ماثيو، مؤسسة الحملة في الهند: «أصبح التبرع بالشعر لصالح مرضى السرطان من المبادرات الكبيرة الآن، حتى أنّ النساء يرغبن في التخلص من شعور رؤوسهن في تحد واضح للأعراف الاجتماعية لمكافحة آلام فقدان أحد الأحبة إثر الإصابة بمرض السرطان. كما يتبرّع المئات من الرجال لصالح الحملة أيضا. ويعتبر الطفل مير ديف هو أصغر المشاركين فيها حتى الآن».
كانت ديفا كابور، الفتاة التي تبلغ من العمر ثماني سنوات من العاصمة دلهي، تحتفل بعيد ميلادها مع الأطفال من مرضى السرطان منذ العامين الماضيين. وعندما علمت بأمر مبادرة التبرع بالشعر طلبت الإذن من والديها للتبرع بشعرها الطويل لصالح أحد الأطفال الذي يحتاج إليه أكثر منها كما قالت.
بدأت مبادرة «شعور الأمل» في الهند اعتبارا من عام 2013. لنشر الوعي بين الناس بشأن التبرع بالشعر لصالح مرضى السرطان الذين يخضعون للعلاج الكيميائي. وضمن حملة «أنقذ والدتك» لصالح المريضات بسرطان الثدي، وحتى الآن، تبرّع ستة آلاف شخص بالشعر لهنّ في كافة أنحاء البلاد. وأقيمت فعاليات التبرع لمرضى السرطان في العديد من أجزاء البلاد.
واستدركت ماثيو قائلة: «نظرا لأن السرطان من الأمراض العصية على الشفاء، وقد يستثير مكامن اليأس وفقدان الأمل في الحياة لدى النشطاء والمرضى على حد سواء، جاءت تلك المبادرة كنوع من أنواع الرد والانتقام من أحد أفراد الأسرة بسببه. ووراء كل حالة تبرع بالشعر، هناك قصة تعصف بالقلوب، حيث تتحدى الناس أعراف المجتمع ويتحدى الرجال تقاليد العائلات انتصارا للقضية. ولقد صممت إحدى الفتيات على التبرع بشعرها بالكامل حتى صارت صلعاء تماما من أجل القضية، ذلك لأنّها قد فقدت العديد من أحبائها بسبب الإصابة بالمرض الخبيث».
وذاعت عبر الإنترنت أخبار الشرطية الهندية آبارنا لافاكومار، التي تبرعت بشعرها الطويل، الذي يصل إلى ركبتيها، لصالح صناعة الباروكات لأجل مرضى السرطان. والجانب المثير للدهشة من هذه القصة أنّها لم تخبر أحدا قط بما تعتزم فعله بشعرها، لأنّها خشيت من تعرضها لبعض الردع العائلي أو المهني جراء ذلك، وقالت: «لو كنت قد أخبرت أحداً مسبقا بما كنت أنوي فعله، لواجهت قدرا من الردع ربما يثنيني عن التبرع والمساعدة. لذا، انطلقت مباشرة صوب صالون الكوافير من دون تردد أو مشاورة. وبعد كل شيء، فإنّني لا أعتبر الأمر بالإنجاز العظيم. فهناك أناس آخرون يبذلون من التضحيات والمساعدات ما هو أكبر وأروع من ذلك بكثير. وإنّا لست في وضع يسمح لي بمساعدة مرضى السرطان ماديا. وكان شعري هو كل ما أستطيع التبرع به لأولئك المرضى المساكين».
وكان معهد «أديار» لأبحاث السرطان قد أقام صندوقا كبيرا للتبرع بالشعر حيث يضع الرّاغبون بالتبرّع قصاصات أو خصلات من شعرهم فيه. وبعد التبرع بالشعر، يجري فرزه وفقا لنوع ونسيج الشعر من قبل المشاركين في صناعة الباروكات في المستشفى. ويتم التخلص من الرطوبة اللاحقة بالشعر وتجفيفه تماما من ثمّ تحويله إلى شعر مستعار. وتقول بريا، التي قصت شعر رأسها وتبرعت به لأجل القضية في أبريل (نيسان) الماضي، إنّه كان من أفضل القرارات التي اتخذتها في حياتها: «فعلت ذلك للإسهام في نشر الوعي بالقضية والمبادرة بشأن مرض السرطان ومرض الشلل الرعاش. ولم أفكر في الأمر مرتين قط، بل نفذت الفكرة بمجرد ما وردت في رأسي».
وقالت الإعلامية الهندية البارزة أكشايا نافانيثان، التي تبرعت بشعر رأسها لصالح مرضى السرطان: «شعرت وأنا أتبرع بشعري وكأنّني أولد من جديد وأحسست بأنّني انتقلت لمستوى جديد ورائع من الثقة والإيمان بالذات. وبعدما نشرت تجربتي على صفحتي الخاصة بالتواصل الاجتماعي، استلهم كثيرون الفكرة وحذوا حذوي تماما للتبرع بشعر رؤوسهم».
قبل بضع سنوات، اجتمعت مجموعة من الأطباء المحترفين لتشكيل مبادرة «شيناي للتبرع بالشعر». وقال الدكتور مانوغ من أطباء تلك المبادرة: «رأينا العديد من ضحايا مرض السرطان يعانون من آثار نفسية ومعنوية بالغة السوء إثر فقدان شعرهم بسبب العلاج الكيميائي والإشعاعي. فقررنا القيام بشيء لأجل التخفيف من ذلك».
كما تعاونت المنظمة غير الحكومية المذكورة مع بعض منافذ شركة صالونات الحلاقة البريطانية الأصل «توني أند غاي» للمتبرعين الذين يرغبون في قصة شعر أنيقة. وأوضح الدكتور مانوغ الأمر بقوله: «هناك خصومات مالية للمتبرعين. ويمكنهم المجيء لتصفيف شعرهم مجانا هنا بعد التبرع أول مرة. ولكن ليس من اللازم أن يُصفّف المتبرعون شعرهم في هذه الصالونات تحديدا. بل يمكنهم فعل نفس الأمر واتّباع نفس الإرشادات في الصالونات العادية التي يعتادون الذهاب إليها. ويمكننا الحصول على الشعر بعد ذلك. وإن تردّد بعض الناس في القيام بذلك في الصالونات، فلدينا فريق محترف يمكنه زيارة المتبرع في المنزل ويحصل على الشعر هناك».
وبما أن طول الشعر القياسي للمتبرعين يتراوح بين 8 إلى 10 بوصات، يقول الدكتور مانوغ إنّ الأمر يتغير وفقا لجودة الشعر، وكثافته، وملمسه: «حتى الناس الذين طغى الشّيب على شعرهم بنسبة 50 في المائة لا يزال بإمكانهم التبرع». كما تتلقى المنظمة غير الحكومية التبرعات من مدينة فيساخاباتنام، بولاية أندهرا براديش على خليج البنغال، ومن دولة ماليزيا، ومن سريلانكا. وبمجرد جمع كميات معينة من شعر المتبرعين، يتم إرسالها إلى شركاء صناعة الشعر المستعار.
وتعتبر جمعية «هير كراون – تاج الشعر» من المنظمات غير الحكومية الأخرى التي تقبل كافة أنواع وأشكال وطول الشعر، سواء كان معالجا أو ملونا. ويصرون على ألا يقل طول خصلة الشعر المتبرع بها عن 12 إلى 15 بوصة. وتوضح أرشيث من تلك الجمعية العملية الواجب اتباعها عند التبرع: «لا بد من غسيل الشعر جيدا قبل التبرع، يجب عدم إضافة أي منتجات لتصفيف الشعر أو المواد المثبتة للشعر قبل التبرع. وبعد تجفيف الشعر تماما، لا بد من جمعه بعناية خلف العنق في صورة ذيل حصان. مع التأكد أنّ ذيل الحصان محكم تماما مع جمع كافة الشعيرات في وحدة واحدة. ثم لا بد من قياس الطول الذي تريد التبرع به قبل القص. ويجب وضع الشعر المتبرع به في حقيبة محكمة الغلق، ثم في مظروف مغلق لتُرسل بعدها إلى الجمعية».
كانت نيلام جيهاني، تدير شركة مزدهرة للتجميل، ولكن كانت هناك عميلة غير عادية دخلت إلى الصالون وغيّرت مسار حياتها بعد ذلك - ومنحت عملها التجاري غرضا جديدا وفريدا.
كانت العميلة تعاني من مرض السرطان، وكانت في حاجة لارتداء باروكة من الشعر المستعار لإخفاء آثار العلاج الكيميائي عن رأسها. وطلبت السيدة جيهاني منها العودة لزيارة الصالون في غضون أيام معدودة. وبعد فترة وجيزة، منحت جيهاني العميلة المريضة الباروكة التي طلبتها، وقالت: «لن أنسى ما حييت إمارات السعادة والسرور التي ارتسمت على قسمات وجهها وهي تأخذ مني باروكة الشعر المستعار».
ثم شرعت جيهاني في تنظيم حملة للتبرع بالشعر من خلال صالونها الخاص. وتقول اللافتة الخاصة بذلك في الصالون: «إننا نتبرع بالأموال والدماء، وربما الأعضاء لخدمة الأغراض الخيرية للآخرين، الآن، يمكنكم التبرع بالشعر لمن يستحقونه من المرضى استجلابا للبركات».
وكانت الصحافية سنيها شيتي، المختصة بعالم السفر والسياحة قد قررت التبرع بشعرها بالكامل، وعن ذلك قالت: «إنني أعلن عن نفسي من خلال فقداني الاختياري لشعري. وعندما يسألني أحد عن ذلك. أود أن أخبرهم أنّني أحاول إعانة ودعم أولئك الذين يعانون من مرض السرطان. وهذا ليس بيانا للموضة أو الأزياء، وإنّما هو أمر يجعلني أشعر بالارتياح وبالسعادة البالغة». وأضافت، «نجت عمتي من مرض السرطان. وعندما كانت تحاربه دفاعا عن حياتها، كنت أبحث معها عن باروكات الشعر المستعار التي تناسبها. ولقد خبرت المشكلة وعاينتها بنفسي معها، من أجل الحصول على باروكة شعر مستعار من نوعية جيدة وبسعر مناسب».


مقالات ذات صلة

الإفراط في تناول الدهون والسكر قد يدمر الكبد

يوميات الشرق سرطان الكبد من بين السرطانات الأكثر شيوعاً في العالم (جامعة ييل)

الإفراط في تناول الدهون والسكر قد يدمر الكبد

حذّرت دراسة أميركية من أن الإفراط في تناول الدهون والسكريات يمكن أن يزيد من خطر الإصابة بسرطان الكبد، وذلك من خلال تدمير الحمض النووي في خلايا الكبد.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
صحتك يبحث العلماء عن نموذج يتنبّأ بكيفية تأثير العلاج على أورام المرضى (رويترز)

«أسماك مزروعة بخلايا سرطانية»... جديد الأطباء لعلاج الأورام «بسرعة»

هل يستطيع أطباء الأورام اتخاذ قرارات أفضل لعلاج السرطان باستخدام الأسماك؟ تهدف تجربة سريرية من المقرر أن تبدأ هذا الشهر في البرتغال إلى معرفة ذلك.

«الشرق الأوسط» (لشبونة)
صحتك أظهرت الدراسة أن الأشخاص الذين يتناولون أربعة فناجين من القهوة يومياً تتراجع احتمالات إصابتهم بسرطان الرأس والعنق بشكل عام (رويترز)

دراسة: تناول الشاي والقهوة يقلل مخاطر الإصابة بسرطان الرأس والعنق

كشفت دراسة علمية أن تناول بعض المشروبات الساخنة في الصباح مثل الشاي والقهوة ربما يقلل الإصابة ببعض أنواع السرطان التي تصيب منطقة الرأس والعنق.

«الشرق الأوسط» (سان فرنسيسكو)
صحتك فنجان قهوة (أ.ب)

شرب الشاي أو القهوة يومياً قد يقلل خطر الإصابة بسرطان الرأس والرقبة

كشفت دراسة جديدة عن أن تناول الشاي أو القهوة يومياً قد يوفر بعض الحماية من سرطان الرأس والرقبة.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك سرطان الثدي أحد أكثر أنواع السرطان شيوعاً بين النساء (جامعة ولاية كينت)

دراسة: الجراحة قد لا تفيد المصابات بسرطان القنوات الموضعي بالثدي

أكدت نتائج أولية لدراسة طبية أن التدخل الجراحي ربما لا يفيد معظم النساء المصابات بسرطان القنوات الموضعي، وهو نوع منخفض الخطورة من سرطان الثدي.

«الشرق الأوسط» (تكساس)

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».