مدينة نيويورك... النجمة المتألقة في سماء الأفلام

أثناء تصوير مشاهد من فيلم تحولت شوارع فيرست وسكند أفينيو بنيويورك لاستديو سينمائي (نيويورك تايمز)
أثناء تصوير مشاهد من فيلم تحولت شوارع فيرست وسكند أفينيو بنيويورك لاستديو سينمائي (نيويورك تايمز)
TT

مدينة نيويورك... النجمة المتألقة في سماء الأفلام

أثناء تصوير مشاهد من فيلم تحولت شوارع فيرست وسكند أفينيو بنيويورك لاستديو سينمائي (نيويورك تايمز)
أثناء تصوير مشاهد من فيلم تحولت شوارع فيرست وسكند أفينيو بنيويورك لاستديو سينمائي (نيويورك تايمز)

من أبرز المقولات الدائمة ذات الصلة بنقد الأفلام أن «المدينة في حد ذاتها تعد شخصية مستقلة من شخصيات الفيلم». وبما أنني لا أملك من المعلومات ما يؤكد ذلك أو ينفيه، فإن حدسي العميق ينبئني بأن هذه المقولة لم تكن لتتعلق بمدينة أميركية أخرى غير نيويورك.
وإن كان ذلك ليس صحيحاً على تمامه وفي كل الأحوال، فإن نيويورك في واقع أمرها تعد من بين ألمع نجمات السينما ولا تناطحها في ذلك بكل جدية من بين مدن العالم الكبرى الأخرى سوى العاصمة الفرنسية باريس. وهي تستمد شخصيتها المتفردة من الكاريزما التي صاحبت كبار نجوم السينما الأميركية على مر العصور من أمثال «بيتي ديفيس»، أو «كاري غرانت»، أو «سيدني بواتييه»، من بين الكثيرين. ورغم تعدد وتنوع واختلاف الوجوه التي ظهرت بها مدينة نيويورك قبالة الكاميرا - في تألقها أو انحدراها، وفي جاذبيتها أو كراهيتها، وفي مآسيها أو جنونها - فإنها دائماً وبلا أدنى شك لا تعبر إلا عن ذاتها الحقيقية.
وعلى غرار أي نجم سينمائي من نجوم البشر ممن يستحقون سرد التفاصيل عن حياتهم، فإن مدينة نيويورك خارج الشاشة الفضية قد تتسم بقدر من الصعوبة على التحمل بقدر سحرها وجمالها الأخاذ. إنها تبدو كالفتاة اللعوب المغرية، والساحرة، والمتشوقة والمتمنعة في إباء، مع استحالة فصل صورتها عن واقعها الحقيقي. وترى نيويورك على الدوام عميقة الانغماس في مسرح وجودي يعرب عن سرمديتها بين المدن.
تدفعك الحياة في تلك المدينة الصاخبة دفعاً إلى القيام بدورك الفعال بين مختلف مشاهد ولفتات تلك المسرحية الأزلية المستمرة، وأن تتماهى معها من دون عناد أو تردد. فربما تتجول سائراً بين مختلف مباني الحي المفضل لك، تحمل فوق رأسك سماعتين تنقلان إلى دماغك سرديات قصص لم تكن ذاكرتك لتنساها مهما مرت الأيام (من فيلم «تاكسي درايفر» لعام 1976. إلى فيلم «بريكفاست آت تيفاني» لعام 1961. وصولاً إلى فيلم «دو ذي رايت ثينج «لعام 1989).
قد تُضفي الأفلام السينمائية لمسة سحرية فائقة الروعة على حياتنا، غير أن صناعة الأفلام السينمائية في حد ذاتها تمنح سكان مدينة نيويورك سهماً آخر من أسهم المشاكل التي لا تفارقهم كمثل القطارات المتأخرة، والمرور الفظيع بازدحامه الخانق، وجحافل السائحين البطيئة للغاية، ومواقف السيارات التي تحتل أماكن غير معلومة من الشوارع، فضلاً عن قواعد جمع المخلفات العصية على الفهم حتى اليوم، وربما كل شيء مما بات على غير الطريقة التي من المفترض أن يكون عليها في العصر الحاضر.
وصار إنتاج الأفلام السينمائية في مدينة نيويورك، الذي تضاءل وتراجع على مر السنين وعاد إلى أوج ازدهاره في الآونة الأخيرة، من أبلغ مصادر الإحباط في نيويورك العصر الراهن ومن مواضع الحنين والتوق الشديد إلى الأيام الخوالي. وتعكس الصور المأخوذة من محفوظات صحيفة «نيويورك تايمز» - والتي تغطي العقود المتوسطة والأخيرة من القرن الماضي - تلك المفارقة الزمنية المتسمة بكل روعة وجمال. فهي مقتطفات بديعة لسجلات يومية تنقلنا إلى الماضي الجميل في كبسولة زمنية فائقة السرعة.
ولا يمكن توصيفه بسجل المحفوظات الشامل على أي مقياس معروف. فتلك الصور جاءت نتاجاً للصدفة المحضة، أو هي انعكاس للأيام الخوالي التي احتلت فيها طواقم الأفلام وجحافل المصورين الصحافيين جملة المطبوعات الصحافية لتلك الفترة في نفس الوقت.
وكان هناك، بين الكثير من الصور، ما يعبر عن مسلك حقيقي يعطف في مساره على سحر السينما الأميركية في أوائل الستينات وسخرياتها اللاذعة من تفاعلات منتصف السبعينات - ونذكر من بين شخصيات تلك الفترة أسماء لامعة مثل «روك هدسون»، و«دوريس داي»، و«آل باتشينو»، و«جين هاكمان» - فضلاً عن العديد من الشخصيات والسرديات الأخرى التي تحفل بها محفوظات وذاكرة السينما للعديد من الأبطال والمشاهدين على حد سواء. ولا يسعني عبور شارع 110 من دون التفكير في «يافيت كوتو» و«أنتوني كوين» بطلا فيلم «أكروس 110 ستريت» الدرامي لعام 1972. مع أغنيته الرائعة من تأليف «بوبي وماك». وعند عبوري بين بنايات بروكلين العتيقة حيث تفسح أحجارها البنية القائمة المجال للمنازل الصغيرة ذات القوائم الخشبية، أعتقد أنها «جوهرة تاج الحي»، اقتباساً للعبارة من فيلم «ذي سكويد أند ذي وايل» لعام 2005. أما حديقة «سنترال بارك» الشهيرة فقد كان لها نصيب الأسد المتوج من التصوير في مئات الأفلام، لكن الحديقة بالنسبة لي تمثل ذكرى تصوير الفيلم الوثائقي الشهير «سيمبيوسايكوتاكسيبلازم تيك وان»، وهو تحفة مخرج الأفلام الوثائقية العبقري «ويليام غريفز» في عام 1968، وتدور أحداث القصة حول مخرج سينمائي يحاول تصوير فيلم في سنترال بارك - إنه الفيلم الذي يعج بل ويعكس أغلب فعاليات ومجريات تلك الأيام.
وفي بعض الأفلام الأخرى، برغم كل شيء، فإن الحاضر المصور ضمن فعاليات الفيلم هو تاريخ الحقبة المُعاد بناؤه بلمسة فنية بديعة. ونذكر صورة أحد شوارع نيويورك القديمة حيث العربات التي تجرها الخيول، وحبال الغسيل التي ترفرف على الشرفات، بين مختلف الرافعات ومصابيح الإضاءة الزيتية العتيقة، والتي تعكس حقبة عشرينات القرن الماضي على نحو ما ظهرت به في الفيلم الموسيقي «ذي نايت ذاي ريديد مينسكي» لعام 1968، ويُقال إنه الفيلم الموسيقي الأول الذي جرى تصويره بالكامل في مدينة نيويورك. وعندما طُرح الفيلم للعرض في نفس العام، وجد إشادة كبيرة لدى المؤلفة والناقدة السينمائية الأميركية «ريناتا أدلر» والتي كانت أبرز نقاد الأفلام لدى صحيفة نيويورك تايمز في تلك الفترة حيث قالت عنه: «مفعم بالتفاصيل والعناية بها في كل ثانية. كان الجانب الشرقي السفلي من المدينة حقيقي في كل شيء».
والفيلم الموسيقي «ذي نايت ذاي ريديد مينسكي» هو من أعمال المخرج ويليام فريدكين الذي نذكر له فيلم «ذي فرنش كونيكشن» الدرامي من بطولة جين هاكمان لعام 1971، وكان من أحد أبرز الأفلام المميزة لحقبة السبعينات من حيث تصويره لمدينة نيويورك في الزمان والمكان الحقيقيين؛ حيث تزداد تلك الأماكن رونقاً وبهاءً في كل مرة تمر بها وتمر هي بذاكرتك. ويصور الفيلم نفسه كذلك واحدة من أعظم مطاردات السيارات التي صورت في السينما الأميركية قاطبة، حيث ينطلق المحقق بوباي دويل - جين هاكمان بسرعة فائقة أسفل مسار المترو في «بنسونهيرست» في بروكلين مندفعاً وراء المشتبه به الذي استقل لتوه القطار.
وشخصية المحقق «بوباي دويل» من نماذج الشخصيات المألوفة في أفلام مدينة نيويورك - ذلك الرجل الفظ، العنيد، صلب المراس، والساخر للغاية من رجال إدارة الشرطة في مدينة نيويورك الذي يذكرنا بشخصية المغني اللامع «فرانك سيناترا» ودور المحقق «جو ليلاند»، الذي قام به في فيلم «ذي ديتيكتيف» من إنتاج عام 1968، وكذلك دور «زاكري غاربر» للممثل الأميركي «والتر ماثاو» في فيلم «ذي تيكينج أوف بيلام وان تو ثري» لعام 1974. وربما يعد ذلك الفيلم من أروع الأفلام التي تصور وسائل النقل العامة في مدينة نيويورك لتلك الفترة. ولقد كان فيلماً جميلاً للغاية لدرجة أنه أعيد إنتاجه مرة أخرى من بطولة «دينزل واشنطن» و«جون ترافولتا» بعنوان «ذي تيكينج أوف بيلام 123» في عام 2009 في تحديث جديد للأدوار التي قام بها كل من «والتر ماثاو»، و«روبرت شاو».
وفي عام 1974 الذي شهد العرض الأول للنسخة الأصلية من الفيلم، قالت صحيفة نورا ساير عنه: «لقد مر وقت طويل منذ أن شاهدنا فيلماً يعكس المزاج الحقيقي لمدينة نيويورك وسكانها»، ولقد كان وصفاً على مسمى حقيقي للفيلم بنسخته الأولى والأخيرة. وهو لا يتعلق بمجرد خطة محكمة الإتقان، وربما عصية على التنفيذ، لاختطاف قطار مليء بالركاب وطلب فدية ضخمة من المدينة في المقابل، بل إنه يتعلق بالتفاعل الواقعي بين الجريمة، والبيروقراطية، والبنية التحتية، والنظام، والمدينة التي ينتظم سيرها اليومي حول العمل.
تعكس هذه الأفلام وتحتفي بقيمة العمل المتضمنة في إنتاج الخيال الذي يحوم عائداً إلى أرض الواقع. وتعمل كاميرا التصوير السينمائي على ترتيب وتوظيف العناصر المادية الحقيقية - المباني، والوجوه، والأرصفة، واللافتات، والإشارات - ضمن منظومة خيالية فذة الإتقان. وتعمل عدسة الكاميرا الفوتوغرافية الثابتة على التقاط خط التماس بين عالم الخيال والعالم الحقيقي في محاولة للكشف عنه. ولكن، ما الذي يمكن وصفه بالطبيعي في هذا السياق؟ نجوم السينما هم نجوم السينما، سواء يحتلون المشاهد الأولى، أو يحولون اتجاههم، أو ينتهون من المكياج قبل التصوير، أو يتناولون المشروبات، أو يدخنون في فترات الراحة. إن بريقهم حقيقي وأصيل، ولا يسهل التغلب عليه ومقاومته. ولا يمكنك إدراكه إلا بمصادفته، حتى حال متابعتك لأحوال أعمالك اليومية، وحتى وإن عجزت لديك الكلمات عن توصيف ما رأيته بعينيك تماماً.
ويصدق نفس الأمر على المدن سواء بسواء.

- خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

يوميات الشرق عصام عمر خلال العرض الخاص للفيلم (حسابه على فيسبوك)

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

قال الفنان المصري عصام عمر إن فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» يجمع بين المتعة والفن ويعبر عن الناس.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق الممثل الجزائري الفرنسي طاهر رحيم في شخصية المغنّي العالمي شارل أزنافور (باتيه فيلم)

«السيّد أزنافور»... تحيّة موفّقة إلى عملاق الأغنية الفرنسية بأيادٍ عربية

ينطلق عرض فيلم «السيّد أزنافور» خلال هذا الشهر في الصالات العربية. ويسرد العمل سيرة الفنان الأرمني الفرنسي شارل أزنافور، من عثرات البدايات إلى الأمجاد التي تلت.

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق محمد سعد في العرض الخاص لفيلم «الدشاش» (الشركة المنتجة للفيلم)

هل استعاد محمد سعد «توازنه» بفضل «الدشاش»؟

حقق فيلم «الدشاش» للفنان المصري محمد سعد الإيرادات اليومية لشباك التذاكر المصري منذ طرحه بدور العرض.

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق تماثيل وقوالب من الفخار مصنوعة قبل الميلاد (مكتبة الإسكندرية)

«صناعة الفخار»... وثائقي مصري يستدعي حرفة من زمن الفراعنة

يستدعي الفيلم الوثائقي «حرفة الفخار» تاريخ هذه الصناعة التي تحمل طابعاً فنياً في بعض جوانبها، على مدى التاريخ المصري القديم، منذ أيام الفراعنة.

محمد الكفراوي (القاهرة)
يوميات الشرق لقطة من الفيلم تجمع «شاهيناز» وأولادها (الشركة المنتجة)

«المستريحة»... فيلم مصري يتناول النصّابين يمزج الكوميديا بالإثارة

تصدَّرت مجسّمات دعائية للأبطال دار العرض عبر لقطات من الفيلم تُعبّر عنهم، فظهرت ليلى علوي في مجسّم خشبيّ جالسةً على حافة حوض استحمام مليء بالدولارات.

انتصار دردير (القاهرة )

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».