خفايا وحكايات وراء فيلم سكورسيزي الجديد

«الآيرلندي» افتتح مهرجاني نيويورك ولندن

مارتن سكورسيزي يرقب مشهداً مع روبرت دي نيرو
مارتن سكورسيزي يرقب مشهداً مع روبرت دي نيرو
TT

خفايا وحكايات وراء فيلم سكورسيزي الجديد

مارتن سكورسيزي يرقب مشهداً مع روبرت دي نيرو
مارتن سكورسيزي يرقب مشهداً مع روبرت دي نيرو

يعيش الممثل المرموق والموهوب فترات طويلة بانتظار الأدوار التي تؤكد له أنه لم يخطئ القرار عندما قرر أن يصبح ممثلاً. ليست أدواراً كثيرة هي تلك التي يدرك حيالها بأن حياته ممثلاً مرتبطة بما إذا كان سيؤديها وكيف. تلك التي تثير خياله وتعيده إلى تلك الفترة الأولى عندما انتمى فجأة إلى المهنة التي أرادها لنفسه، وإلى السبب الذي من أجله اعتنق التمثيل.
غالب المرّات، إذا ما أراد البقاء طافياً على السطح، سيقبل بأدوار لا تجسد كامل طموحه ولا تعبر عن إمكاناته. وهذا ما حدث مراراً وتكراراً مع ممثلين اثنين كل منهما قامة شامخة في فن الأداء هما آل باتشينو وروبرت دي نيرو اللذان يلتقيان تحت مظلة المخرج مارتن سكورسيزي الذي أتيح له منذ اعتناقه مهنته أن يحقق نوعاً واحداً من الأفلام هو النوع الجيد. ربما بتفاوت بعض الأحيان، بل بتميّز وإخلاص لحب السينما في كل الأحيان.
هؤلاء الثلاثة، باتشينو ودي نيرو وسكورسيزي، يلتقون معاً لأول مرّة في «الآيرلندي»، الفيلم الذي افتتح مهرجان نيويورك في دورته الحالية. بعد أن أشيع بأنه سيشهد عرضه العالمي الأول في «كان».
بعد نيويورك وحتى نهاية هذا الشهر، سيعرض في أربعة مهرجانات أميركية آخرى هي «مل فالي» و«هامبتونز» و«سان دييغو» و«شيكاغو». وفي الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل سيشهد عرضاً تجارياً في صالات لوس أنجيليس تلبية لشرط أكاديمية العلوم والفنون السينمائية التي تشترط ذلك العرض التجاري كدخول الفيلم سباق الأوسكار.
- هوفا يطلب الحماية
الأسماء الثلاثة التي تحيط بهذا الفيلم تثير، لوحدها، وبصرف النظر عن سباق الأوسكار، أو أي سباق آخر، النسبة الأعلى من الاهتمام، وتشكل الحدث المنتظر أكثر مما كان الوضع سيكون عليه فيما لو أن هذا المشروع تم من دونهم أو بارتباط واحد منهم فقط به.
هي المرّة الأولى التي يمثل فيها باتشينو في فيلم من إخراج سكورسيزي.
المرّة الأولى التي يمثل فيها باتشينو ودي نيرو معاً في فيلم من إخراج سكورسيزي.
المرّة الأولى التي يمثل فيها دي نيرو في فيلم من إخراج سكورسيزي منذ 24 سنة.
المرّة الأولى التي ينجز فيها سكورسيزي فيلم عصابات منذ أن حقق «الراحل» (The Departed) مع ليوناردو ديكابريو وجاك نيكلسون سنة 2006.
لكنها ليست المرّة الأولى التي يلتقي بها الممثلان باتشينو ودي نيرو في فيلم واحد. في عام 2008 ظهرا معاً في «قتل صائب» (Rightous Kill). فيلم من تلك التي يؤديها الممثل عادة ليدفع بعض فواتير الحياة أو ليبقى على سطح مهنته. كان باتشينو يدرك ذلك عندما حضر ودي نيرو «برميير» الفيلم في روما. نظر إلى الحشد الكبير من المعجبين وهمس لدي نيرو: «لو يعرفون فقط أن هذا الفيلم ليس أكثر بكثير من مجرد فيلم بوليسي عادي».
رد دي نيرو عليه قائلاً: «وجودهم رد فعل رائع، لكن سيكون أفضل لو كنا هنا لفيلم من تلك التي نفتخر بها. في المرّة المقبلة سنمثل معاً في واحد من تلك الأفلام التي نتمناها».
مع «الآيرلندي»، فيلم مارتن سكورسيزي الجديد تتحقق هذه الأمنية بكل ما تحمله من مزايا يوفرها وجود كل واحد من هؤلاء الثلاثة: الإخراج المحترف لسكورسيزي، الأداء ذو النبرة الذي يوفرها باتشينو، وذلك التشخيص الأعمق من الظاهر الذي يتولاه دي نيرو.
في ثلاث ساعات ونصف يقص «الآيرلندي» حكاية رئيس الاتحاد العمالي جيمي هوفا (يؤديه باتشينو) الذي واجه عواصف سياسية وقضايا اجتماعية خلال فترة رئاسته للاتحاد. ولجانبها حكاية رجل العصابات الآيرلندي فرانك شيران (دي نيرو) الذي وفّر للأول الحماية حين طلبها. علاقة عمل وصداقة من نوع خاص تدفع الثاني لتأمين الحماية في وقت تكاثر فيه أعداء هوفا من داخل حركته العمالية، ومن خارجها، وذلك اقتباساً عن كتاب وضعه تشارلز براند سنة 2004 بعنوان «سمعت أنك تدهن البيوت» (I Heard You Paint Houses).
هو عنوان غريب لكتاب يرصد تلك الفترة التي تعامل فيها هوفا وشيران في صف واحد، لكن هذه الغرابة تتبخر حال ندرك أن الجملة ما هي إلا شيفرة للقول «سمعت بأنك تقتل». بذلك فإن الدهان أو الطرش هي بديل لكلمة «قتل».
في كل الأحوال هي العبارة الأولى التي يقولها هوفا لشيران عندما اتصل به مستطلعاً إمكانية العمل معاً.
المشروع تم وضعه على طاولة البحث منذ سنة 2007 (بعد عام واحد من أمنية دي نيرو أن يجد وباتشينو فيلماً ذا قيمة يقومان بتمثيله). وتطلب الأمر 10 سنوات من قبل أن يتفوه سكورسيزي بالكلمة الساحرة «أكشن» لتصوير أول لقطة من الفيلم.
- المطلوب دهّان
لم يكن «سمعت إنك تدهن البيوت» اختيار سكورسيزي وقتها. كانت لديه فكرة أخرى لفيلم عصابات «غانغستر» آخر مأخوذ عن رواية لدون وينسلو بعنوان «شتاء فرانكي ماشين» تدور حول المافيا. وكان الكلام حينها يدور بين المخرج وبين شركة «باراماونت» لإنتاجها مع فكرة الاستعانة بطاقم سكورسيزي من ممثلي أدوار رجال العصابات في أفلامه وعلى الأخص دي نيرو وجو بيشي.
في الوقت ذاته كان دي نيرو مستغرقاً في قراءة كتاب تشارلز براند، وعندما التقى دي نيرو بسكورسيزي أشار له بقراءة هذا الكتاب غير الروائي. سكورسيزي فعل ذلك وغير خطته.
خيوط «الآيرلندي» تمتد عميقاً في علاقة كل من سكورسيزي ودي نيرو السينمائية. لقد أنجزا معاً ثمانية أفلام من قبل، من بينها ثلاثة أفلام عصابات هي «شوارع وضيعة» (Mean Streets) الذي كان، سنة 1973 فيلمهما الأول معاً، و«صحبة طيبة» (1990)، و«كازينو» (1995). وإذا ما سردت هذه الأفلام الثلاثة حكاياتها بالعنف المتوقع منها كونها، في نهاية الأمر، ليست أكثر من أفلام «غانغسترز»، فإن معظم أفلامهما الأخرى معاً لم تخل من العنف كذلك. «تاكسي درايفر» (1976) و«ثور هائج» (1980) و«كايب فير» (1991)، وحتى «ملك الكوميديا» (1982) إلى حد. الفيلم الوحيد بينهما الذي لم ترق فيه نقطة دم ولا سقط فيها ضحايا كان «نيويورك، نيويورك» (1977).
يقول سكورسيزي في كل هذا أن «الآيرلندي» هو نقطة تجمع لكل أفلام العصابات التي حققها: «سريعاً ما بدأت أرى هذا الفيلم في رأسي. بدأت أرى الثيمات وأطالع الأسئلة التي شغلتني طوال حياتي. وجدتها جميعاً في هذا العمل».
«باراماونت» بدورها كانت مستعدة لأي مغامرة من هذا النوع يرأس قائمتها دي نيرو ويذيل توقيعها سكورسيزي. لكن الميزانية كانت تتطور مع تطوّر العمل حتى وصلت إلى 175 مليون دولار. طبعاً هناك أفلام كوميكس تتكلف مثل هذا الرقم وزيادة، لكنها - على أكثر من نحو - مغامرات مضمونة النجاح. هنا دخلت «نتفلكس» على الخط وغطت العجز المطلوب.
التوجه لـ«نتفلكس» كان ضرورياً، رغم أن سكورسيزي هو رجل سينما و«نتفلكس» هي مؤسسة خدمات عروض منزلية. لكن إذ احترمت «نتفلكس» كل متطلبات المخرج، لم يجد سكورسيزي بداً من العمل معها. بدورها لم تكن «نتفلكس» بمنأى عن الذهاب إلى حد تغيير منهجها لأجل هذا الفيلم. يقول لي رندال إيميت، أحد منتجي الفيلم، بأن «نتفلكس» وافقت على أن تعرض الفيلم تجارياً في صالات السينما المنتمية إلى الشركات الكبيرة: «كنا مستعدين لتوزيع 200 نسخة على شاشات المدن الكبيرة، ومنح صالات السينما 75 في المائة من الإيرادات، لكن المفاوضات توقفت وقررنا التعامل مع عدد أصغر من الصالات المملوكة لشركات مستقلة».
- رجل عصابات آخر
دخول آل باتشينو على الخط بدا، قبل أن تدور الكاميرا سنة 2017، أمراً حتمياً لا بسبب رغبة دي نيرو (الذي يتبوأ كذلك منصباً بين منتجي الفيلم) أن يعمل مع باتشينو على «فيلم نوعي» فقط، بل لرغبة سكورسيزي الذي كاد ذات مرّة أن يتعاون مع باتشينو على مشروع فيلم واحد.
حدث ذلك سنة 1973، كان سكورسيزي انتهى من تصوير «شوارع وضيعة»، ولفت عمله المخرج فرنسيس فورد كوبولا الذي كان يحضر لتحقيق الجزء الثاني من «العراب» مع باتشينو في البطولة. لكن كوبولا، وقد أعجبه فيلم سكورسيزي، أبدى استعداده لدى شركة «باراماونت» المنتجة للاكتفاء بدور المنتج، وتسليم قيادة إخراج الجزء الثاني من «العراب» لسكورسيزي. يقول لي منتج «العراب» (الأول) آلبرت رودي متذكراً: «هذا صحيح. حاول كوبولا إسناد مهمّة إخراج الجزء الثاني لسكورسيزي لكني شككت في أن هذا الاختيار صائباً. قلت لكوبولا إنه أسس دعائم فيلم لا يمكن لأحد سواه تحقيقه على هذا النحو. أي مخرج آخر سيذهب بالجزء الثاني صوب نتيجة غير مضمونة. وكان هذا رأي (باراماونت) التي وجدت أن سكورسيزي ما زال طرياً على مشروع كبير كهذا».
طبعاً، لم يمنع ذلك من أن يستعين كوبولا بروبرت دي نيرو ليؤدي دور دون كارليوني في شبابه. براندو أداه كهلاً ودي نيرو أدّاه شاباً، وبما أن باتشينو هو ابن دون كارليوني فإنه لم يكن من الممكن الجمع بين دي نيرو وباتشينو في فيلم واحد.
بدوره، لم تخل مهنة باتشينو من أفلام عصابات. لم يكن من بينها فيلم لسكورسيزي، لكن المخرجين الذين عمل معهم باتشينو هم من الرعيل المميّز لسينما الفترة.
علاقة باتشينو بسينما «الغانغسترز» بدأت من القمة بفيلم كوبولا «العراب» (1972) ومن ثم «العرّاب 2» (1974). بعد هذين الفيلمين بتسع سنوات قام بتمثيل «Scarface» لبرايان دي بالما، ثم مثل دور المجرم بيغ بوي كابريس في فيلم وورن بايتي العصاباتي البديع «دك ترايسي» (1990)، ثم عاد للعمل مع دي بالما «طريقة كارليتو» (1993) ليلتقي بعد ذلك، وللمرّة الأولى، مع دي نيرو في فيلم «حرارة» لمايكل مان (1995). كذلك لديه في النوع ذاته الجزء الثالث من «العراب» (1990).
لدى باتشينو الكثير ليلاحظه على صعيد العمل السينمائي عبر العقود: «في السابق كان هناك وقت أطول للتحضير عموماً. المخرجون كانوا يريدون التأكد من أن الممثل سيكون جاهزاً لتقمص الشخصية التي في البال. لكن اليوم هناك المعرفة الكاملة. ممثل مثل دي نيرو أو أنا، ليس عليه تقديم أوراق اعتماد. بل ينطلق فوراً للعمل بعد قراءة السيناريو والقيام بما عليه القيام به للبحث في الشخصية والتحضير».
ما قرأه باتشينو حول هوفا جعله أكثر اقتناعاً بضرورة البحث في الشخصية الحقيقية: «بحثت في شخصية هوفا طويلاً. الرجل كان مثيراً للاهتمام جداً كشخصية مؤلفة من تراكمات وطبقات بحيث إن أي ممثل جيد يحلم بأن يلعب دوره. لكنه كان إنساناً عادلاً في تعاطيه مع سواه. الشخصية كما قرأت عنها، ثم كما وردت في السيناريو شكلت الحماس الذي ينتابني كلما قرأت عملاً أحلم بتمثيله. وجودي مع سكورسيزي ودي نيرو وهذا الانتماء إلى سينما العصابات الذي شكل جزءاً كبيراً من مهنتي أصبح وعلى نحو تلقائي أمراً ضرورياً لي، وأعتقد أنه كان أمراً ضرورياً لهما كذلك».
وحول علاقته مع دي نيرو يؤكد: «كلانا من جيل واحد. نشأنا في السبعينيات محملين بالآمال والطموحات واستقبلنا الجمهور والنقاد بترحاب كبير. لا أريد أن أقول إننا كنا الأفضل بين كل الممثلين المنتمين إلى تلك الحقبة. هذا غير صحيح، لكننا كنا من تلك المجموعة التي تنبأ لها الجميع بالنجاح وحققنا ذلك بالفعل».
باتشينو ودي نيرو من خريجي فترة واحدة (بدأ كل منهما مسيرته الفعلية سنة 1969) وصعدا معاً إلى القمة في وقت واحد، حيث تبوأ كل منهما مكانته سريعاً على قمة الإجادة. ما خلق بينهما منافسة خفية على الرغم من أنهما لم يلتقيا في تلك الفترة مطلقاً. يقول باتشينو: «طبعاً. كانت (المنافسة) دائما هناك. كنا كثيراً ما ندور حول الأدوار ذاتها. بعضها يؤول عنده وبعضها يؤول عندي».


مقالات ذات صلة

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق رئيسة «مؤسّسة البحر الأحمر السينمائي» جمانا الراشد فخورة بما يتحقّق (غيتي)

ختام استثنائي لـ«البحر الأحمر»... وفيولا ديفيس وبريانكا شوبرا مُكرَّمتان

يتطلّع مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» لمواصلة رحلته في دعم الأصوات الإبداعية وإبراز المملكة وجهةً سينمائيةً عالميةً. بهذا الإصرار، ختم فعالياته.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
سينما «من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة

محمد رُضا‬ (سانتا باربرا - كاليفورنيا)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».