المواد البلاستيكية بدلاً من سداد الرسوم شرط للدراسة المجانية في مدرسة هندية

يتحتم على كل طالب إحضار 25 قطعة من البلاستيك النظيف من منزله لإعادة تدويرها لاحقاً

تقبل مدرسة «أكشار» النفايات البلاستيكية باعتبارها الشكل الوحيد لسداد الرسوم الدراسية
تقبل مدرسة «أكشار» النفايات البلاستيكية باعتبارها الشكل الوحيد لسداد الرسوم الدراسية
TT

المواد البلاستيكية بدلاً من سداد الرسوم شرط للدراسة المجانية في مدرسة هندية

تقبل مدرسة «أكشار» النفايات البلاستيكية باعتبارها الشكل الوحيد لسداد الرسوم الدراسية
تقبل مدرسة «أكشار» النفايات البلاستيكية باعتبارها الشكل الوحيد لسداد الرسوم الدراسية

عندما احتفل الناس من مختلف أنحاء العالم مؤخراً بيوم البيئة العالمي، اتخذ الاحتفال في أحد مدارس الهند شكلاً عملياً.
تقبل مدرسة «أكشار» التي تقع في وادي بولاية «آسام» ذو الطبيعة الخلابة، بشمال شرقي الهند، النفايات البلاستيكية، باعتبارها الشكل الوحيد لسداد الرسوم الدراسية. ففي كل أسبوع، يتحتم على كل طالب من الطلاب البالغ عددهم 110 إحضار 25 قطعة من البلاستيك النظيف من منزله أو من المنطقة المحلية المحيطة، ليجري لاحقاً استخدامها في صناعة عناصر مختلفة في مجمع المدرسة.
- مفهوم «أكشار»
كلمة «أكشار» تعني «كلمات» باللغة الهندية، وفكرة تأسيس المدرسة هي من بنات أفكار مازن مختار الذي يبلغ من العمر حالياً 30 عاماً، والذي درس هندسة الفضاء في جامعة «مريلاند» الأميركية. وعندما كان مختار في سن الخامسة عشرة، عين مساعد باحث بمختبر أنظمة الفضاء، وكان لديه عرض عمل بدوام كامل من شركة «بوينغ» لصناعة الطائرات في سن السادسة عشرة، وفي نهاية المطاف انضم إلى وكالة «ناسا» للفضاء للمساعدة في إنشاء منزل جديد للبشرية في الفضاء وبين النجوم.
ورغم ذلك، تغير فكر مختار تماماً، وعزم على إصلاح كوكب الأرض، بدلاً من البحث عن كوكب جديد. وفي هذا الإطار، قال مختار في حوار جرى عبر الهاتف مع مراسلة صحافية: «رأيت أن الطريقة المثلى للقيام بذلك هي إصلاح نظام التعليم، وحشد مليارات الأشخاص من غير المتعلمين الذين يعيشون في فقر للمساعدة في مواجهة تحدياتنا العالمية». وفي عام 2013، عاد مازن مختار إلى الهند، حيث كان يدرس للطلاب الفقراء في الولايات المتحدة، والتقى بارميتا سارما التي كانت تدرس الخدمة الاجتماعية في معهد «تاتا» للعلوم الاجتماعية، وكلاهما وجد أوجه تشابه في أهدافهما وتزوجا. أراد الاثنان إنشاء مدرسة تختلف جذرياً في نمط تفكيرها عن طرق التدريس التقليدية، وأسسا مدرسة «أكشار» عام 2016.
كان هدفهما سد الفجوة بين الأكاديميين التقليديين والتدريب المهني، حيث يحصل الطلاب على المهارات الحياتية الأساسية اللازمة للحصول على عمل. ولدى سؤاله عنه فلسفته من تأسيس هذه المدرسة، أجاب مختار: «لقد اتفقنا على أنه من الضروري إيجاد نموذج جديد للطلاب الذين يعيشون في فقر مدقع، لذلك توصلنا إلى هذا النموذج، حيث يتعلم الطلاب ويتلقون التدريب في مختلف المهن والتخصصات، أهمها أن يكون معلماً».
وابتكرت مدرسة «أكشار» أسلوباً يتم من خلاله تشجيع الأطفال الأكبر سناً على تدريب الأطفال الصغار، وقال مختار: «الأطفال الأكبر سناً يحصلون على عملات ألعاب، تشبه إلى حد ما عملة الألعاب اللوحية (أو الكوبون)، حيث يستخدم الطلاب العملات في شراء الوجبات الخفيفة والمعدات الرياضية وغيرها من متجر المدرسة».
وأضاف أنه من خلال معالجة قضيتي التعليم والتوظيف معاً، ومزج الأكاديميين بالتدريب المهني، فإنه من الممكن ضمان التماس خريجينا لسبل العيش الكريمة، والمساهمة في تطوير حياتهم الخاصة. على سبيل المثال، فإن المنهج يجمع بين حرف كالنجارة وعلم الرياضيات، وتكنولوجيا الطاقة الشمسية والفيزياء، والتطريز والاقتصاد، والتدريس وعلم النفس، وإعادة تدوير المخلفات وعلم البيئة، وأيضاً المناظر الطبيعية وعلم الأحياء وغيرها.
وتصنف الدرجات أو المعايير التي يدرس بها الطلاب بمدرسة «أكشار» على أساس مستويات ذكائهم، وليس أعمارهم، على عكس المدارس الأخرى. ونتيجة لذلك، قد يستوعب كل فصل طلاب من مختلف الفئات العمرية، وفقاً لمستويات معارفهم.
وتبلغ براسانتا 14 عاماً، ورغم أنها طالبة فإنها تقوم بالتدريس للأطفال بعمر 6 سنوات في مدرستها، وتتقاضى أجراً نظير ذلك. وبراسانتا ليست الحالة الوحيدة، حيث إن هناك كثيرات غيرها يتولين تدريب الأطفال الأصغر سناً بمدرسة «أكشار»، ويحصل الطلاب المعلمون على المال مقابل ذلك، مما يشجعهم على البقاء في المدرسة، ويقضى على مشكلة التسرب الدراسي.
وقالت سارما، زوجة مازن، في المقابل: «نحن نطالب الآباء بإرسال المواد البلاستيكية إلى المدرسة كرسوم، حال أرادو أن يدرس أطفالهم هنا مجاناً. ويتعين على الوالدين أيضاً تقديم تعهد بعدم حرق المواد البلاستيكية».
وعندما فتحت المدرسة أبوابها للمرة الأولى، كان عدد الطلاب بها لا يتعدى 20 طالباً، والآن هناك 7 مدرسين يقومون بالتدريس لمائة طالب على الأقل. ويجري تشغيل مستويات دراسية بدءاً من المستوي الأول حتى التاسع، من سن 4 إلى 16 عاماً. ويتطلع الزوجان الآن إلى بناء 100 مدرسة على هذا النمط في مختلف أنحاء البلاد خلال السنوات الخمس المقبلة.
ويشتمل المنهج المدرسي على كثير من الدورات المهنية، بما في ذلك مستحضرات التجميل والتطريز والغناء والرقص والزراعة العضوية والبستنة والألواح الشمسية وإعادة التدوير والإلكترونيات. والجدير بالذكر أن المدرسة صممت المناهج الدراسية لخدمة الأطفال الأكثر فقراً، ولذلك لا يقومون بتدريس الأطفال المواد التقليدية فحسب، بل يقدمون أيضاً تدريباً مهنياً يجعل منهم حرفيين مهرة بنهاية الدورة.
ويصطف الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 4 و15 عاماً مرتين كل أسبوع أمام المدرسة بأكياس البقالة المليئة بالزجاجات البلاستيكية والقش البلاستيكي، وما إلى ذلك من المواد التي يمكن استخدامها بعد ذلك في صناعة «طوب بيئي»، لإنشاء مبانٍ مدرسية جديدة أو مبانٍ للمراحيض أو ممرات... إلخ.
ودخلت الشركات الراعية على الخط لمساعدة الطلاب الذين يواجهون صعوبات مالية. ففي عام 2018، سددت شركة «أويل إنديا» رسوم الطلاب غير القادرين، فيما تكفلت منظمة «موتفجيشن فور أكسلانس» التي تتخذ من مدينة مومباي مقراً لها بتمويل عملية إصلاح المناهج الدراسية بمدارس دلهي.
وفي هذا الإطار، قال سليمان البالغ من العمر 13 عاماً: «أحمل النفايات البلاستيكية، بما في ذلك زجاجات المياه والرقائق وعلب البسكويت، إلى المدرسة. لم أكن أعلم أنه يمكننا بناء شيء جديد باستخدام هذه النفايات البلاستيكية. لم يكن أحد يعرف أن البلاستيك يمكن أن يكون ضاراً (بالبيئة). حتى الجيران تغيروا وفهموا تدريجياً الآثار المميتة للنفايات البلاستيكية».
بالإضافة إلى ذلك، فإن المدرسة تدير أيضاً مأوى للحيوانات. فخلال الأشهر الستة الماضية، قام الطلاب والجهات ذات العلاقة بمدرسة «أكشار» بإيواء 20 كلباً، واستطاعوا إيجاد منازل لاستضافة الكلاب بعد تطعيمهم. ويُكلف المراهقون برعاية الجراء وإطعامهم، وعلاجهم بالأدوية بعد تعقيمهم، ولم يتبقَ في المدرسة حالياً سوى اثنين من الجراء الذين يخضعون للعلاج، بعد أن تمكنت المدرسة من العثور على منازل جديدة لاستضافة الباقين بمساعدة هذه القلوب الرقيقة.
- التحديات وحلها
كان إقناع الآباء بإرسال أطفالهم إلى المدرسة مهمة صعبة للزوجين، حيث لم يكن الآباء واثقين من الطريقة التي ستعمل بها المدرسة الجديدة، ولا طريقة التدريس بها. لكن معلمي «أكشار» كان لهم من الخبرة، وفي الوقت نفسه قدر من المرونة، ما جعل بعض أولياء الأمور يطالبون إدارة المدرسة بأن تكون أكثر صرامة، فقد كانوا متشككين من جدوى ذلك النمط التعليمي في البداية، حيث لا يرى معظم الآباء التعليم أمراً ممتعاً.
وبحسب بيرميتا سارما، فمن ضمن الصعوبات أيضاً أن معظم المشاركين كانوا عمالاً في المحاجر، وفي غيرها من الأعمال، وذلك لإعالة أسرهم «لكننا أقنعناهم وأولياء أمورهم بالتسجيل في المدرسة، والمشاركة في جميع أنشطتها»، مضيفة أن الآباء أدركوا تدريجياً إمكانات المدرسة، وأعجب الطلاب بنهجها التعليمي. الجدير بالذكر أن الطلاب يحصلون على شهادتهم من المعهد الوطني للتعليم المدرسي (NIOS).
ويراعي منهج «أكشار» الثانوي خلق توازن بين المهارات العملية والتعلم المجرد، وسوف يكتسب الطلاب المهارات من خلال المدرسة إلى أن يلتحقوا بالكلية أو التدريب المهني، أو ممارسة التجارة التي تتطلب مهارات عالية. ويقول مازن إن نسبة حضور الطلاب تزيد على 95 في المائة، خصوصاً أن المدرسة بها سيارة لنقل الطلاب من وإلى منازلهم.
ويقدم مازن وزوجته برنامج زمالة يسمي «منح أكشار»، يقوما بمقتضاها بتدريب الخريجين الموهوبين في منتدى «أكشار» لعدة أسابيع، وسيحاولان بعد ذلك تطبيقها في المدارس الحكومية الأخرى.
وتتولى مدرسة «أكشار» تدريب المدرسين بغرض إصلاح المدارس الحكومية الضعيفة، بالشراكة مع الحكومة المحلية و«التحالف التعليمي».
ومن المنتظر أن يعمل مدرسي «أكشار» مع قادة المدارس والمدرسين على تنفيذ أساليب مبتكرة لمدة عامين، بعد أن طوروا مدرسة باتت نتائجها المحسنة ظاهرة للجميع. ولدى منتدى «أكشار» خطط لتوسيع ذلك النموذج في جميع أنحاء الهند، بعد أن نجحوا في تكرار نموذجهم في إحدى المدارس الحكومية في جنوب دلهي. ويخطط القائمون على المشروع لتوسيعه، ليشمل 5 مدارس أخرى في دلهي هذا العام، لتحقيق حلم تكرار نموذج «أكشار» في 100 مدرسة خلال 5 سنوات.
وقد تم الاعتراف بتجربة «أكشار» لهذا النهج الفريد، ودعيت إدارة المدرسة لحضور اجتماعات «لجنة الأمم المتحدة للمرأة» في مدينة نيويورك، تحديداً لجنة المنظمات غير الحكومية التابعة للأمم المتحدة المعنية بالصحة العقلية.
واستطرد مختار قائلاً: «لقد تلقينا دعوة من نائب رئيس اللجنة، وكانت استجابتنا كبيرة، وحصلنا على تأييد وحماس كبيرين، وأمنيات بأن يكون (تمثيلنا مشرفاً)، وسمعناهم يرددن عبارة (أنتم شباب المستقبل!)».
قاربت مدرسة «أكشار» على الحصول على صفة استشاري لدى الأمم المتحدة، حيث انضمت إلى كادر متخصص يضم ممثلين عن منظمات غير حكومية تتشاور مع الأمم المتحدة بشأن تصميم ووضع المناهج الدراسية المهمة.


مقالات ذات صلة

مصر: غالبية الدول تعتبر مشاريع قرارات «كوب 27» متوازنة

شمال افريقيا وزير الخارجية المصري سامح شكري (إ.ب.أ)

مصر: غالبية الدول تعتبر مشاريع قرارات «كوب 27» متوازنة

أكد رئيس مؤتمر الأطراف حول المناخ (كوب27) سامح شكري اليوم (السبت) أن «الغالبية العظمى» من الدول تعتبر مشاريع القرارات التي قدمتها رئاسة مؤتمر المناخ «متوازنة» بعدما انتقدها الاتحاد الأوروبي. وأوضح وزير خارجية مصر سامح شكري للصحافيين بعد ليلة من المفاوضات المكثفة إثر تمديد المؤتمر في شرم الشيخ أن «الغالبية العظمى من الأطراف أبلغتني أنها تعتبر النص متوازنا وقد يؤدي إلى اختراق محتمل توصلا إلى توافق»، وفقاً لوكالة الصحافة الفرنسية. وتابع يقول «على الأطراف أن تظهر تصميمها وأن تتوصل إلى توافق».

«الشرق الأوسط» (شرم الشيخ)
بيئة البيئة في 2021... قصص نجاح تعزز الأمل في تخفيف أزمة المناخ

البيئة في 2021... قصص نجاح تعزز الأمل في تخفيف أزمة المناخ

شهدت سنة 2021 الكثير من الكوارث والخيبات، لكنها كانت أيضاً سنة «الأمل» البيئي. فعلى الصعيد السياسي حصلت تحولات هامة بوصول إدارة داعمة لقضايا البيئة إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة. كما شهدت السنة العديد من الابتكارات الخضراء والمشاريع البيئية الواعدة، قد يكون أبرزها مبادرة «الشرق الأوسط الأخضر» التي أطلقتها السعودية. وفي مجال الصحة العامة، حقق العلماء اختراقاً كبيراً في مواجهة فيروس كورونا المستجد عبر تطوير اللقاحات وبرامج التطعيم الواسعة، رغم عودة الفيروس ومتحوراته. وفي مواجهة الاحتباس الحراري، نجح المجتمعون في قمة غلاسكو في التوافق على تسريع العمل المناخي.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
يوميات الشرق فرقة «كولدبلاي» تراعي المعايير البيئية في جولتها سنة 2022

فرقة «كولدبلاي» تراعي المعايير البيئية في جولتها سنة 2022

أعلنت فرقة «كولدبلاي» البريطانية، الخميس، عن جولة عالمية جديدة لها سنة 2022 «تراعي قدر الإمكان متطلبات الاستدامة»، باستخدام الألواح الشمسية وبطارية محمولة وأرضية تعمل بالطاقة الحركية لتوفير كامل الكهرباء تقريباً، فضلاً عن قصاصات «كونفيتي» ورقية قابلة للتحلل وأكواب تحترم البيئة. وذكرت «كولدبلاي» في منشور عبر «تويتر» أن «العزف الحي والتواصل مع الناس هو سبب وجود الفرقة»، لكنها أكدت أنها تدرك «تماماً في الوقت نفسه أن الكوكب يواجه أزمة مناخية». وأضاف المنشور أن أعضاء فرقة الروك الشهيرة «أمضوا العامين المنصرمين في استشارة خبراء البيئة في شأن سبل جعل هذه الجولة تراعي قدر الإمكان متطلبات الاستدامة» و«

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق بعد انخفاضها بسبب الإغلاق... انبعاثات الكربون تعاود الارتفاع

بعد انخفاضها بسبب الإغلاق... انبعاثات الكربون تعاود الارتفاع

انخفضت انبعاثات الغازات المسببة للاحترار العالمي بشكل كبير العام الماضي حيث أجبر وباء «كورونا» الكثير من دول العالم على فرض الإغلاق، لكن يبدو أن هذه الظاهرة الجيدة لن تدوم، حيث إن الأرقام عاودت الارتفاع بحسب البيانات الجديدة، وفقاً لشبكة «سي إن إن». وتسببت إجراءات الإغلاق لاحتواء انتشار الفيروس التاجي في انخفاض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 7 في المائة على مدار عام 2020 - وهو أكبر انخفاض تم تسجيله على الإطلاق - وفق دراسة نُشرت أمس (الأربعاء) في المجلة العلمية «نيتشر كلايميت شينج». لكن مؤلفيها يحذرون من أنه ما لم تعطِ الحكومات الأولوية للاستثمار بطرق بيئية في محاولاتها لتعزيز اقتصاداتها الم

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
بيئة 5 ملفات بيئية هامة في حقيبة بايدن

5 ملفات بيئية هامة في حقيبة بايدن

أعلن الفريق الانتقالي للرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن أن وزير الخارجية السابق جون كيري سيكون له مقعد في مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، وهي المرة الأولى التي يخصّص فيها مسؤول في تلك الهيئة لقضية المناخ. ويأتي تعيين كيري في إطار التعهدات التي قطعها جو بايدن خلال حملته الانتخابية بإعادة الولايات المتحدة إلى الطريق الصحيح في مواجهة تغيُّر المناخ العالمي ودعم قضايا البيئة، بعد فترة رئاسية صاخبة لسلفه دونالد ترمب الذي انسحب من اتفاقية باريس المناخية وألغى العديد من اللوائح التشريعية البيئية. وعلى عكس ترمب، يعتقد بايدن أن تغيُّر المناخ يهدّد الأمن القومي، حيث ترتبط العديد من حالات غياب الاستقرار

«الشرق الأوسط» (بيروت)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)