«فاروق حسني يتذكر»... الأحلام والذكريات ومعارك الفن

وزير ثقافة مصر الأسبق يتحدث عن تجربة ربع قرن

«فاروق حسني يتذكر»... الأحلام والذكريات ومعارك الفن
TT

«فاروق حسني يتذكر»... الأحلام والذكريات ومعارك الفن

«فاروق حسني يتذكر»... الأحلام والذكريات ومعارك الفن

نجحت الكاتبة انتصار دردير، معدة كتاب «فاروق حسني يتذكر... زمن من الثقافة» في استنفار هذه الذكريات والأحداث كسجل مفصل عن إدارته للنشاط الثقافي لمصر من عام 1987 إلى عام 2011. وسر نجاحه في احتكار منصب وزير ثقافة مصر لسنوات امتدت لنحو ربع قرن، مسجلاً رقماً قياسياً في هذه المجال يصعب أن ينافسه فيه أحد، والنبش في أعماق شخصيته كإنسان وفنان.
ويأتي الكتاب الصادر عن دار نشر «نهضة مصر»، ويقع في 368 صفحة، بعد 7 سنوات لمغادرة حسني لمنصبه. وقد كتب مقدمته بنفسه، يوضح فيها أسباب نشر هذا الكتاب بدلاً من كتابة مذكراته، قائلاً: «لا أحب المونولوج في الحديث؛ فمتعتي الحقيقية هي تحفيز الإبداع من خلال عقل آخر يقوم بالبحث داخل عقلي واستفزاز خيالي وذكرياتي، والسبب الثاني هو أنه رغم عشقي للأدب بكل فروعه فإنني عندما كنت أبدأ في الكتابة تنقلب الحروف بداخلي ألواناً وخطوطاً».
يلي المقدمة تمهيد يختزل مسيرة حسني، بعنوان «الفرس المتمرد» للكاتب محمد سلماوي؛ يكشف فيه عن القناعة التي حركت حسني طوال سنوات عمله الثقافي، وهي «مصر قد تكون دولة نامية اقتصادياً وسياسياً؛ لكنها دولة عظمى ثقافياً». ويشير سلماوي إلى أن حسني خاض معارك العمل العام، إلى جانب تصديه لمحاولات النيل منه شخصياً من قبل جماعة «الإخوان المسلمين» التي كانت تتصيد له الأقوال إلى جانب المعركة التي شنتها ضده قيادات الحزب الوطني الحاكم (الذي لم ينضم حسني لعضويته قط) وظلت دائرة حتى بعد خروجه من منصب وزير الثقافة.
تلفت انتصار دردير في مقدمتها للكتاب إلى أن حسني كان أول فنان تشكيلي في العالم يعين وزيراً للثقافة، سبقه أدباء مثل أندريه مارلو، وطه حسين، ويوسف السباعي، لكنه فاق الجميع محققاً رقماً قياسياً في بقائه بمنصبة لنحو 24 عاماً. وتضيف: «ليست هذه بمذكرات أو سيرة ذاتية، وإنما ذكريات يستدعيها، ووقائع يحكي عنها، لا تتخذ شكلاً تقليدياً، ولا تدخل في متاهة السرد».
ما بين أزمة أبو الهول ورواية «وليمة لأعشاب البحر» وجوائز الدولة، وحريق مسرح بني سويف، والمسرح القومي، وأزمة الحجاب وصولاً إلى معركة اليونيسكو والاتهام بالفساد المالي، يروي حسني مسيرته كمن يتأمل لوحة من بعيد فيرى أبعادها وتفاصليها بوضوح ويستنبط منها مغزاها، متأملاً كيف نأى بنفسه عن المعارك السياسية ليحرث بذور العمل الثقافي، من متاحف ومكتبات وقصور ثقافة ومهرجانات سينمائية ومسرحية وتشكيلية، وافتتاح دار الأوبرا ومكتبة الإسكندرية وتجهيز المتحف المصري الكبير وغيرها.
«بيني وبين البحر نداء دائم» هكذا يروي حسني سر بدايته الأولى في حي الأنفوشي بالإسكندرية، ذلك الحي الذي شكل عالمه الإبداعي وهمس له بالذهاب إلى المجهول اللانهائي. يضم هذا الفصل نبذة عن حياة حسني وتعلقه بالفن التشكيلي والموسيقى والقراءة وكيف دخل مجال العمل الثقافي مطعماً بصور نادرة له في طفولته ولأسرته. يأخذنا بعد ذلك لرحلته في باريس التي منحته «الدهشة» وكيف تجاوز مرحلة الشغف بالاستيعاب والتعلم خلال إدارته للمركز الثقافي المصري في باريس.
ويأتي فصل «تأثير روما» راوياً حكاية مثيرة عن معركة سياسية دبلوماسية خاضها حسني بنجاح أثناء توليه رئاسة الأكاديمية المصرية في روما، وهي حادثة اختطاف السفينة الإيطالية «أكيلي لاورو» يوم الاثنين 7 أكتوبر (تشرين الأول) 1985 وعلى متنها أكثر من 400 شخص من جنسيات مختلفة من قبل 4 شبان من جبهة التحرير الفلسطينية، عقب محاولة إسرائيل اغتيال ياسر عرفات بمقر منظمة التحرير في تونس، حيث شنت هجمة جوية أسفرت عن مقتل 50 فلسطينياً و18 تونسياً، اشتعلت الأزمة وتدخلت الدول العظمى لكن مصر نجحت في التفاوض مع الخاطفين والإفراج عن الرهائن وتسليم الخاطفين من بينهم محمود عباس ورفاقه لمنظمة التحرير بعد أن حاصرتهم قوات أميركية وإيطالية.
ويكشف حسني كيف استطاع كسب دعم غالبية الأدباء والمثقفين المصريين الذي وقفوا ضده في بداية توليه المنصب مثل عبد الرحمن الشرقاوي وموسى صبري وبعدهم زكي نجيب محمود ونجيب محفوظ وأحمد بهاء الدين وغيرهم. ثم جاءت معركة فصل وزارة الثقافة عن الإعلام فهو كما يقول: «الثقافة إيقاعها متمهل فهي كمن يزرع وينتظر».
ويأتي فصل «وزير أبي الهول» ليكشف قدرة حسني على الاختيار وإصدار القرار، حينما سقط كتف تمثال أبي الهول عام 1988 بعد شهور من توليه منصب وزير الثقافة، حينها قرر استدعاء النحات الكبير آدم حنين لترميم الكتف وإعادة رونق أبي الهول كما كان منذ آلاف السنين، وهو ما أشادت به الصحافة العالمية آنذاك.
ينتقل الكتاب لقصة ترميم شارع المعز الذي يزيد عمره على ألف سنة ويضم 33 أثراً وكيف تمت استعادة أكثر من 20 ألف قطعة أثرية استولت عليها إسرائيل خلال احتلالها سيناء، وهنا يفند حسني ويدحض الاتهامات بإهداء آثار مصرية لدول ومسؤولين بالخارج. ويروي حسني هنا ملابسات رفضه للتطبيع الثقافي مع إسرائيل ومحاولتهم الحثيثة للاشتراك في معرض القاهرة للكتاب ومهرجان القاهرة السينمائي، وحينما التقى به الرئيس الإسرائيلي عزرا فايتسمان مستفسراً عن السبب، قال حسني: «هذا قرار شعبي، فأنا وزير ثقافة ولست رئيساً للمثقفين».
ثم يتطرق الكتاب لرؤية حسني حول التطرف الديني وكيفية مجابهته انطلاقاً من حادثة محاولة اغتيال نجيب محفوظ عام 1995ملقياً باللوم على غياب دور التعليم والإعلام وعدم تضافرهما مع العمل الثقافي.
ويتناول الكتاب أيضاً أزمة نشر رواية «وليمة أعشاب البحر» للسوري حيدر حيدر التي وصلت رحاها إلى مجلس الشعب ومساءلة حسني عن نشر رواية تتطاول على الذات الإلهية عبر أحاديث شخصياتها بينما اعترض الأزهر على محتواها ثم تأججت الأزمة بين الليبراليين والإسلاميين وانتهت بعد جدال بين المثقفين ما بين مؤيد ومعارض لحرية الأدب، بوقف صحيفة الشعب التي أثارت الرأي العام باعتبار الرواية «تحرف القرآن وتدعو للرذيلة».
ويمتد الحوار لعلاقته بكبار الأدباء في عهده منهم جمال الغيطاني وإبراهيم أصلان وينتقل بنا إلى السينما ومبدعيها والمسرح... وصولاً إلى معركته التي لم يكسبها في الفوز بمقعد رئاسة اليونيسكو والتي لم يعتبرها هزيمة، بل تجربة مهمة لمصر والدول العربية، كشفت الدور الذي تلعبه أميركا وإسرائيل لمنع ترشح أي عربي لهذا المنصب.
ويختتم الكتاب بشهادات من فنانين ومثقفين وأدباء من بينهم زاهي حواس وحسين فهمي وليلى علوي وخالد خلال وآدم حنين ومفيد فوزي ورجل الأعمال نجيب ساويرس، حول دور فاروق حسني وإسهاماته.



فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.