حينما ينهمر عليك عالم من الخيبات تنتقل إما إلى الفلسفة أو السخرية. هذا ما يقوله شارلي شابلن في وصفه الحالة القاتمة التي جعلته ساخراً وربما فيلسوفاً.
وجدت نفسي ساخراً منذ البداية، حيث كانت الخيبة أشبه بجدّة مسنّة رافقتنا طويلاً وروت لنا الكثير من القصص. قصة الغول والفقر والحرب واللجوء وبداية المخيم الذي عشت فيه قرابة العشرين عاماً، ولم أشهد نهايته حتى اللحظة. لم يكن ذلك المكان صالحاً للعيش الآدمي، لكنه شكّل الكثير من تكوين الصور الغنية والمتعددة في ذاكرتي المكانية. مناضلون متقاعدون، ويساريون، ورجال دين بسطاء، ومثقفون يشكون الغربة بين أهلهم، والكثير من المجانين الذين كانوا ضحايا سوء الفهم.
كلهم في «حارة» واحدة، وكلهم يسخرون من بعضهم. المكان لعب دوراً كبيراً في تشكيل شخصية ساخرة لدي.
درست في مدارس وكالة الغوث للاجئين. التربية قبل التعليم والعصا لمن عصى. الحصة التي كنت أنتظرها بفارغ الصبر لم تكن تأتي أبداً... حصة الفن. كان يتم استبدالها بحصة أخرى. وأذكر أنها كانت تسجل حصة «فراغ» على جدول الحصص. لم أكن أفعل شيئاً في هذا الفراغ سوى السخرية. كنت أملأها بالرسم على طاولات الصف، وأتعرض للتوبيخ أحياناً على ذلك كما هو الحال عندما أرسم على كتب المنهاج. كنت أرسم ما أراه. وأصبحت أرسم ما أتخيله. ثم بدأت مرحلة مختلفة، أرسم ما أريد.
اكتشفت أن ما كل ما أريده هو النقيض تماماً لما يريده الآخرون. الفن والمستقبل لا يجتمعان، وهنا تدخل في صراع مع الأغلبية في شرح مفهوم المستقبل. قررت أن أستمر، وأن أجد طريقة لاستثمار الموهبة في إطار مهني. أمتلك موهبة الرسم وأقرأ السياسة والأدب، ولدي فائض من السخرية القاتمة.
وجدت نفسي رساماً للكاريكاتير في صحف أسبوعية سياسية، أولها كانت جريدة «المجد» الأسبوعية، التي نشرت لي أول رسم على الغلاف. أغلقت الصحيفة وتنقلت بين الكثير من الصحف الأخرى، إلى أن بدأت النشر بشكل يومي في صحيفة «المسائية» الأردنية في منتصف تسعينات القرن الماضي بدعم الإعلامي باسم سكجها، الذي قدمني للقراء في أول مقال نشرها عن تجربتي في هذا الفن.
«مطحنة الصحافة»... هذا الوصف الذي سمعته من إعلاميين قدامى عندما التحقت بجريدة «الدستور» الأردنية اليومية. المعادلات تتغير. التحايل على الرقيب أصبح في حاجة إلى الكثير من الذكاء والموضوعية وأكثر صعوبة.
أربع سنوات مع مدرسة الصحافة الأردنية (الدستور) أضافت إلي الكثير من الخبرة التي جعلتني طموحاً في الانتقال للمنابر العربية الأوسع انتشاراً. وبدأت النشر في مجلة «المجلة» اللندنية إلى جانب الراحل الكبير محمود كحيل. وبعد رحيله كلفتني «الشرق الأوسط» بإكمال الطريق الوعرة والصعبة لمسيرة فنان مهم وفي جريدة دولية ورائدة في الصحافة العربية.
لم يكن الأمر سهلاً، وما زال صعباً. تعلمت أنه ليس كافياً في عالم الصحافة أن أرسم فقط ما أريد. يجب أن أرسم ما نريد؛ لأنني في نهاية الأمر جزء من مؤسسة صحافية عريقة تتحمل المسؤولية المهنية معي كرسام كاريكاتير سياسي.
هذا ما حدث قبل سنوات قليلة عندما تعرضت مكاتب جريدة «الشرق الأوسط» في لبنان لاقتحام وتخريب واعتداء من قبل مخربين بسبب رسم كاريكاتير يصف الحالة اللبنانية حينها، وقد فُسّر بطريقة خاطئة. وأدى ذلك إلى اشتعال أزمة كبيرة مع الكثير من المؤسسات اللبنانية. واستطاعت إدارة الصحيفة احتواء الأزمة بكل مهنية واقتدار في الوقت نفسه الذي دافعت فيه عن موقف رسام الكاريكاتير، وقدمت تفسيراً مهنياً للرسم، وعبرت عن تقديرها للبنان والشعب اللبناني. هنا تتعلم أن الكاريكاتير ليس مجرد رسم فقط... والصحيفة ليست مجرد أخبار ومقالات... إنها أكثر من ذلك.
* فنان أردني